زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أريد المستقبل الآن
كانت أعز أمنية عندي في صباي، أن أصبح سائق لوري (شاحنة وبما ان هذا النوع من العربات جاء الى السودان إبان الحكم البريطاني فقد صار اسمها بالإنجليزية ساريا الى يومنا هذا)، وكان اللوري وهو مستطيل حديدي فوق أربعة إطارات، يسير بسرعة مذهلة شيئا مذهلا لي كقروي يعيش في جزيرة نيلية. وعلى أيامنا في المدارس كان «الإنشاء» نشاطا يبرع فيه أقلية من الطلاب، وكانت مواضيع الإنشاء هي، هي من المحيط إلى الخليج: ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟ وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام،.. كيف قضيت عطلتك الصيفية؟ ماذا تفعل لو هبطت عليك ثروة ضخمة؟ «وطني لو شغلت بالخلد عنه / نازعتني إليه في الخلد نفسي.. ناقش» – جملة اعتراضية: هذا البيت لا يستحق ما يتمتع به من رواج، لأنه يعني أن القائل لو كان في جنة الخلد، لظل يحنّ ويشتاق الى الوطن، فهل بذمتكم هناك وطن في ما يسمى بالعالم العربي حتى الخالي من الشبيحة وداعش، يستحق أن يحن إليه شخص وجد فرصة الإقامة في «السور الخارجي» لجنة الخلد؟
كان الطالب الذي يحصل على تقدير «ممتاز» هو الذي يحسن استخدام المعلبات من محسنات بديعية مجاراة لابن العميد أو ابن النقيب أو ابن وكيل العريف! وفجأة صار الإنشاء نشاطا للكبار، وصارت العواصم العربية تتبارى لعقد منافسات في الإنشاء يشارك فيها الكبار جدا، وبنفس طريقة المدارس التي ظلت فيها مواضيع الإنشاء ثابتة ومكررة منذ بدء التعليم النظامي، فإن الكبار يشاركون في مسابقات «إنشاء» عناوينها واحدة حتى وإن تنوعت واختلفت مفرداتها، وحتى لو عقدت تحت مسميات تجنن وتهبل مثل منتدى ومؤتمر ومنبر وورشة عمل، والصرعة في منافسات الإنشاء التي تنظمها مختلف العواصم العربية هي «استشراف المستقبل العربي»، مما يجعل الكلمة الإنجليزية أوكسيمورون oxymoron تقفز إلى الذهن (تعني الجمع بين معنيين متناقضين): المستقبل.. العربي؟ ما يصير! كيف يجتمع النقيضان؟ والمثل الخليجي يقول «اللي ما له أول ما له تالي»، يعني اللي ما له حاضر ما له مستقبل، ودعامات وأسس المستقبل لابد أن تكون متوافرة في الوقت الراهن والحاضر، وإلا سنظل كما نحن نعيش على ذكريات الماضي «التليد»، والمستقبل يحتاج إلى بنى أساسية: علم وتنوير وخطط ونشاط جماعي، ومن حاضره تعس بائس، فإن مستقبله سيكون أكثر تعاسة وبؤسا! باختصار لا أرى داعيا للحديث عن المستقبل من خلال المنابر العامة أو الخاصة، وشخصيا لست معنيا بالمستقبل وأعرف أن معظم المواطنين العرب لا يشغلون أنفسهم به، وما يهمني هو أن أشعر أنا ومن حولي بالأمن والأمان وراحة البال، وأن نحصل على نصيب طيب من التعليم والرعاية الصحية، وأن تكون لنا كلمة في كل شأن يخصنا. ونريد ذلك الآن، والمسألة لا تحتاج إلى ندوات ومحاضرات، ولو ضمنا تلك الأشياء فسنضمن أن مستقبلنا سيكون أفضل من حاضرنا!
دعونا نطرح الأمر بشكل مبسط: هنالك عائلة تتألف من زوج وزوجة وبعض العيال، والزوج متسلط أو مستهتر أو يتسم باللامبالاة، وطلباته أوامر وكلامه «ماشي» حتى لو كان على خطأ، ويا ويل من يتجرأ بالاعتراض على كلامه. ما مستقبل عائلة كهذه؟ قد ينشأ الأولاد على شاكلته ويجارونه في الفظاظة والغلظة عندما تصبح لهم زوجات وعيال. وقد يكبرون ويتمردون على الأب ويجنحون بالهرب إلى دنيا المخدرات، والزوجة نفسها قد تجنح وقد تتمرد خاصة إذا لمست فيه ضعفا. والتمرد ليس بالضرورة عملا محمودا، فيا ما تمرد أفراد وجماعات وانساقوا في نفس الطريق الذي خرجوا عليه.
ارحمونا من الحديث عن المستقبل والأجيال الصاعدة، لأنكم تعرفون أن تلك الأجيال بدأت سلفا في «الهبوط» والانحدار. أريد خبزا وسقفا يستند إلى جدران غير آيلة للسقوط، وكتابا وجريدة وطبيبا يستقبلني لأنني آدمي وليس لأنني ولد فلان، وأريد شرطيا يعطيني الإحساس بالأمان، وليس الخوف عندما يكون قريبا مني، فهل هذه أمور تحتاج إلى ندوات ومنتديات؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك