العدد : ١٧١٨٦ - السبت ١٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٦ - السبت ١٢ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٤ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ووقع الكلب في حُبّي

عندما‭ ‬عشت‭ ‬فيها‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كانت‭ ‬لندن‭ ‬مدينة‭ ‬آمنة،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬اعتداءات‭ ‬الشوارع‭ ‬والسطو‭ ‬فيها‭ ‬معروفة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬اليوم،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كنا‭ ‬نتسكع‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬كما‭ ‬نشاء‭ ‬ليل‭ ‬نهار،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يعكر‭ ‬علي‭ ‬صفو‭ ‬التسكع‭ ‬ذاك‭ ‬هو‭ ‬أنك‭ ‬لا‭ ‬تكاد‭ ‬تخطو‭ ‬عشر‭ ‬خطوات‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬تجد‭ ‬كلبا‭ ‬في‭ ‬حجم‭ ‬العجل‭ ‬أمام‭ ‬بيت‭ ‬او‭ ‬متسكعا‭ ‬مثلك‭ ‬على‭ ‬الرصيف،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬وقتها‭ ‬قانون‭ ‬يلزم‭ ‬أصحاب‭ ‬الكلاب‭ ‬بتزويدها‭ ‬بطوق‭ ‬ومقود‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬اليوم،‭ ‬وهكذا‭ ‬كنت‭ ‬أمشي‭ ‬بضع‭ ‬خطوات‭ ‬فأرى‭ ‬كلبا‭ ‬ابن‭ ‬ستين‭ ‬كلب‭ ‬ينظر‭ ‬إلي‭ ‬ويحمحم،‭ ‬فانتقل‭ ‬إلى‭ ‬الرصيف‭ ‬المقابل،‭ ‬وهناك‭ ‬أجد‭ ‬كلبا‭ ‬آخر‭ ‬يشبه‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الهول‮»‬‭ ‬يرمقني‭ ‬بحقد،‭ ‬وهكذا‭ ‬صار‭ ‬سيري‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬داخل‭ ‬الأحياء‭ ‬السكنية‭ ‬بطريقة‭ ‬سبعة‭ - ‬ثمانية‭ ‬أي‭ ‬زقزاق،‭ ‬ولاحظ‭ ‬صديق‭ ‬كان‭ ‬مقيما‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭ ‬تهربي‭ ‬من‭ ‬كلاب‭ ‬الأرصفة‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬ما‭ ‬تخاف‭ ‬من‭ ‬عضة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬عربي‭ ‬أو‭ ‬إفريقي،‭ ‬وبما‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬عربيقي‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬معنى‭ ‬كلامه‭ ‬أنني‭ ‬مسعور‭ ‬بينما‭ ‬كلاب‭ ‬لندن‭ ‬معافاة‭ ‬من‭ ‬السعر‭.‬

وفي‭ ‬منطقة‭ ‬تافنيل‭ ‬بارك‭ ‬التي‭ ‬أقمت‭ ‬فيها‭ ‬عدة‭ ‬أشهر‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬رجل‭ ‬كهل‭ ‬يبادرني‭ ‬بالتحية‭ ‬كلما‭ ‬رآني‭ ‬أمر‭ ‬أمام‭ ‬فناء‭ ‬بيته،‭ ‬وكنت‭ ‬أرد‭ ‬على‭ ‬تحيته‭ ‬بأجمل‭ ‬منها‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬لبعيد‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬كلبا‭ ‬بوليسي‭ ‬الملامح،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬التقيت‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬القطار‭ ‬فعرفني‭ ‬بنفسه‭ ‬وحكى‭ ‬لي‭ ‬عن‭ ‬سنوات‭ ‬خدمته‭ ‬في‭ ‬الجيش‭ ‬البريطاني‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬أنحاء‭ ‬السودان‭ ‬ومصر،‭ ‬ودعاني‭ ‬لتناول‭ ‬الشاي‭ ‬في‭ ‬بيته،‭ ‬وقبلت‭ ‬الدعوة‭ ‬على‭ ‬الفور،‭ ‬لأن‭ ‬الرجل‭ ‬كان‭ ‬‮«‬جراب‭ ‬حكاوي‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬تواقا‭ ‬لسماع‭ ‬ذكرياته‭ ‬عن‭ ‬السودان،‭ ‬وفي‭ ‬الموعد‭ ‬المحدد‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬بيته‭ ‬وقرعت‭ ‬الجرس‭ ‬فجاءني‭ ‬صوت‭ ‬راعد‭: ‬هاااااااووو‭. ‬عندها‭ ‬فقط‭ ‬تذكرت‭ ‬أمر‭ ‬الكلب،‭ ‬وتراجعت‭ ‬مبتعدا‭ ‬بخطى‭ ‬مسرعة،‭ ‬ولكن‭ ‬صاحبنا‭ ‬ناداني‭: ‬هاي‭.. ‬ويلكم‭..‬welcome ‭ ‬ولكن‭ ‬عقلي‭ ‬الباطن‭ ‬نطق‭ ‬كلمة‭ ‬الترحيب‭ ‬تلك‭ ‬‮«‬ويْلكم‮»‬‭ ‬أي‭ ‬‮«‬ويل‭ ‬لكم‮»‬،‭ ‬وبخطى‭ ‬مرتعدة‭ ‬توجهت‭ ‬نحوه‭ ‬والكلب‭ ‬الى‭ ‬جانبه،‭ ‬ولما‭ ‬لاحظ‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬الكلب‭ ‬زجره‭ ‬فابتعد‭ ‬عن‭ ‬الباب‭. ‬صافحني‭ ‬ويدي‭ ‬ترتعش‭ ‬وقادني‭ ‬إلى‭ ‬كرسي‭ ‬والكلب‭ ‬يقوم‭ ‬بعملية‭ ‬مسح‭ ‬شامل‭ ‬لملامحي،‭ ‬وكان‭ ‬واضحا‭ ‬أن‭ ‬‮«‬شكلي‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يدعوه‭ ‬إلى‭ ‬الاطمئنان‭. ‬واقترب‭ ‬مني‭ ‬الكلب‭ ‬فرفعت‭ ‬رجلي‭ ‬على‭ ‬الكرسي،‭ ‬فضحك‭ ‬العجوز‭ ‬وقال‭ ‬لي‭: ‬لا‭ ‬تخف‭ ‬إنه‭ ‬كلب‭ ‬طيب،‭ ‬فقط‭ ‬طبطب‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬وسيصبح‭ ‬صديقك،‭ ‬ثم‭ ‬أشار‭ ‬الى‭ ‬الكلب‭ ‬ليقترب‭ ‬مني،‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬الشجاعة‭ ‬للطبطبة‭ ‬عليه،‭ ‬ولكنه‭ ‬بدأ‭ ‬‮«‬يشمني‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬أصبحت‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬البامبرز،‭ ‬وقلت‭ ‬لنفسي‭: ‬لعله‭ ‬يحل‭ ‬عني‭ ‬ويتركني‭ ‬في‭ ‬حالي‭ ‬إذا‭ ‬طبطبت‭ ‬على‭ ‬رأسه‭.. ‬وفعلت‭ ‬ذلك،‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬يقفز‭ ‬على‭ ‬حِجري‭ ‬ويجلس‭ ‬ثم‭ ‬يمد‭ ‬لسانه‭ ‬ويلحس‭ ‬خدي،‭ ‬وصاحبه‭ ‬مبسوط‭ ‬و«انا‭ ‬أعيط‮»‬،‭ ‬ويبدو‭ ‬أن‭ ‬قولوني‭ ‬أصدر‭ ‬كركرة‭ ‬تنذر‭ ‬بكارثة‭ ‬بيئية،‭ ‬لأن‭ ‬الكلب‭ ‬قفز‭ ‬مبتعدا‭ ‬عني‭ ‬فتنفست‭ ‬بارتياح‭ ‬نسبي،‭ ‬ومددت‭ ‬يدي‭ ‬بحذر‭ ‬لمسح‭ ‬أثر‭ ‬لعابه‭ ‬اللزج‭ ‬على‭ ‬خدي‭.. ‬حسرة‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر‭.. ‬أصحابك‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬ينتظرون‭ ‬الحكاوي‭ ‬عن‭ ‬غزواتك‭ ‬في‭ ‬الوست‭ ‬إند،‭ ‬والقبلة‭ ‬التي‭ ‬ظفرت‭ ‬بها‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬إقامة‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬جاءتك‭ ‬من‭ ‬كلب‭. ‬يعني‭ ‬حتى‭ ‬ولا‭ ‬‮«‬كلبة‮»‬‭ ‬أنثى‭.‬

لا‭ ‬أظن‭ ‬أنه‭ ‬يوجد‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬ليس‭ ‬فيه‭ ‬كلب‭ ‬أو‭ ‬قط‭ ‬أو‭ ‬أرنب‭ ‬أو‭ ‬فأر‭ ‬مستأنس،‭ ‬فبالخواجات‭ ‬ولع‭ ‬غريب‭ ‬بالحيوانات،‭ ‬ولكن‭ ‬بينهم‭ ‬نسبة‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬بها‭ ‬تكره‭ ‬البشر‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭ ‬جعفر‭. ‬بمعنى‭ ‬أنهم‭ ‬عنصريون‭ ‬يكرهون‭ ‬الشعوب‭ ‬غير‭ ‬البيضاء‭ ‬ويحبون‭ ‬الحيوانات‭ ‬‮«‬من‭ ‬طرف‮»‬‭. ‬بعد‭ ‬زيارتي‭ ‬الأولى‭ ‬للندن‭ ‬بسنوات‭ ‬عدت‭ ‬إليها‭ ‬مع‭ ‬عائلتي،‭ ‬واستأجرت‭ ‬بيتا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬المدينة‭ ‬وكانت‭ ‬بالحديقة‭ ‬أشجار‭ ‬تفاح‭ ‬وكرز‭ ‬وكمثرى،‭ ‬ولاحظت‭ ‬أن‭ ‬ثعلبا‭ ‬يقتحم‭ ‬الحديقة‭ ‬يوميا‭ ‬ويتناول‭ ‬الفواكه‭ ‬المتساقطة،‭ ‬واستشرت‭ ‬جاري‭ ‬الإنجليزي‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬غارات‭ ‬الثعلب،‭ ‬وفوجئت‭ ‬به‭ ‬يصيح‭ ‬محذرا‭: ‬يا‭ ‬ويلك‭ ‬إذا‭ ‬تم‭ ‬ضبطك‭ ‬وأنت‭ ‬ترميه‭ ‬ولو‭ ‬بحجر‭ ‬صغير‭. ‬الثعالب‭ ‬هنا‭ ‬تحظى‭ ‬بحماية‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يعجبك‭ ‬وجودها‭ ‬ارحل‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬المدينة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا