زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أدب وقلة أدب الجدران
لا تخلو دورة مياه في العالم كله من شخابيط وخرابيط سطرها بعض ضعاف العقول تعبيرا عن حرب او كره شيء او شخص ما، والغرافيتي هو الكتابة والرسم على الجدران، واشتهرت به في بادئ الأمر الدول الغربية، وحاربته، ولكن شيئا فشيئا صار هناك فنانو غرافيتي محترمون، تتم الاستعانة بهم لتزيين جدران الأنفاق والمباني العامة كلما تعرضت للتلوث بسبب الشخبطة والخربطة واللخبطة التي يمارسها هواة يكتبون ويرسمون أشياء تخدش الحياء العام، أو بسبب قبح الخطوط والأشكال المكتوبة والمرسومة، أما عندنا فهناك أدباء المراحيض، وهي تلك الفئة التي تستعرض قدراتها الأدبية أو «قلة الأدبية» على جدران دورات المياه.
وكعادتنا في التبرؤ من كل قبيح ونسبته الى قوى الاستعمار والاستكبار، فإن بيننا من يرى أن الأجانب المقيمين بين ظهرانينا نقلوا إلينا تلك الممارسة «الوسخة»، بينما حقيقة الأمر هي أنه ما من شعب على وجه الأرض إلا مارس بعض أفراده أدب الجدران/ المراحيض.
تتفشى تلك الظاهرة التي يسمونها «الغرافيتي» في كل الدول الغربية، بل هناك دار نشر بريطانية معروفة تجمع ما يكتب في دورات المياه وغيرها، وتصدره في سلسلة كتب شديدة الرواج، ولكن شيوع تلك الظاهرة في الشرق أو الغرب لا يعني أنها «طبيعية»! وما هو غير طبيعي تماما هو ان يكتب شخص ما اسمه كاملا في مرحاض كي «يتذكره» الآخرون، وفي دورات المياه في المطارات تجد مثلا عبارات من شاكلة: حسنون يانسون المغفلي... مسافر ترانزيت عبر المنامة إلى قبرص!! هب أنني تذكرتك يا حسنون، وهب أنني التقيت بك وعرفت أنك صاحب العبارة المكتوبة في مرحاض في مطار المنامة! هل سيسعدك أن أقول: يا لمحاسن الصدف،... إنت حسنون تبع الدبليو سي العطلان... لماذا لا تكتب في مجلة نيوزويك طالما إنك «كاتب مشهور»؟
ويبلغ انحطاط الذوق بالبعض أنهم يكتبون عبارات تمجد أندية كرة القدم التي يشجعونها على جدران المراحيض!! كيف يربط الإنسان بين شيء يحبه ومكان ارتبط بالقاذورات والأمراض؟ الإنسان السوي يحرص على عدم استخدام أي دورة مياه عامة حتى للأغراض التي خصصت لها، فكيف يطيق إنسان حتى لو كان نصف عاقل أن يدخل مرحاضا وهو مزود بقلم ذي رأس غليظ لتسجيل خواطره؟ والأدهى من كل ذلك أن أدباء المراحيض، يستمدون مفرداتهم من شبكة الأنابيب التي تنقل محتويات المراحيض، ويتفننون في رص الألفاظ التي تعكس وساخة عقولهم، بل إن بعضهم يعرض سير وأعراض الآخرين على الجدران. (الجمل الأربع الأخيرة منقولة عن مقال لضابط شرطة سعودي لم أجد اسمه في القصاصة التي أمامي الآن).
عندنا في السودان يستخدم البعض جدران عربات القطارات لتسجيل أسمائهم كي تحفظها الأجيال المقبلة، ووجدت ذات مرة عبارة: سعيد العفن... منقول من سجن عطبرة إلى سجن بورتسودان.. اذكرونا فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان.. اذكرونا فالذكرى عمر ثان! أذكرك بالخير «مثلا»؟ ثم ليش أذكرك وماذا تستفيد يا عفن من تذكري لاسمك المقرف؟
تذكرت كتاب «الرسائل العصرية» الذي كان رائجا في الستينيات والسبعينيات، وكان أنصاف المتعلمين ينقلون عنه نصوص الرسائل بحسب مقتضى الحال، وكانت أكثر أقسامه «شعبية» تلك المتعلقة بـ«الحب»، وكم من مرة ضبطت أحد معارفي ينقل نصا كاملا عن ذلك الكتاب الركيك ليخاطب حبيبته: أشتاق إليك اشتياق الصائم للمغيب والمريض للطبيب والفنادق للغريب، وقد حماني الله من ذلك الكتاب لأنني لم أجد فتاة تحبني على عهد المراهقة أو ما بعدها، كما أن الله أكرمني بعدم الهوس بتشجيع أي نوع من الرياضة فلا أتعصب لفريق، وعصمني كل ذلك عن ممارسة أدب الجدران، والهتاف بحياة هذا النادي أو ذاك وانسحب ذلك على مجال السياسة، حيث لم يسبق لي الهتاف بحياة أي زعيم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك