زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الدجاج من معشوق إلى مكروه
هناك بعض أمور تجعلني «أتنكر» لعمري الحقيقي، وأردد أنني مازلت في شرخ الشباب (كيف تكون كلمة شرخ التي تنبئ عن نوع من التلف وصفا لمرحلة القوة والفتوة؟)، من بين تلك الأمور أنني، وبفضل الله قليل المرض. صحيح انني أتداوى منذ سنوات طوال من علل مقيمة مزمنة ولكنها لا تجعلني طريح الفراش، كما أنني ولله الحمد قليل التعرض لأكثر الأمراض شيوعا، ألا وهي نزلات البرد والإنفلونزا، وظللت وسأظل أعزي ذلك إلى استخدامي للقرفة (الدارسين) في الشاي على نحو منتظم طوال أكثر من ربع قرن.
ولكن ومنذ أكثر من عشرة أيام وأنا أتكلم مثل صبي يمر بالمرحلة الانتقالية، من المراهقة إلى البلوغ، فصوتي فيه بحة رجولية ورخاوة طفولية، ولا يعني ذلك أنني أعاني من خلل هرموني، بل يعني أنني أعاني من نزلة برد حادة لا أستبعد ان تكون انفلونزا دجاجية، فمع كل كحة يخرج من حلقي صوت يشبه كأكأة الديك، والغريب في الأمر هو أنني أصبت بنزلة برد مرتين فقط خلال السنوات العشر الأخيرة، وكانت المرتان عقب عودتي من الخرطوم أو خلال وجودي فيها، مما حدا ببعض الخبثاء الى اقتراح بوضع لافتة في مطار الخرطوم تقول: السودان سبب رئيسي لنزلات البرد ..ننصحك بالامتناع عنه! هذا ظلم، فسِر إصابتي بالبرد عند وصولي إلى السودان أو عقب العودة منه، هو انني اظل هناك أجري ليل نهار لتقديم التعازي فيمن رحلوا عن دنيانا والتواصل مع أكبر عدد ممكن من الأقارب والأصدقاء. (وهأنذا اليوم محروم حتى من التواصل مع اهلي الذين بعثرتهم الحرب العبثية في كل وادٍ).
والنزلات الشعبية تصيبني بالاكتئاب، لأن السعال الجاف يحرمني من النوم الهادئ، وسيلان الأنف عندما يتحالف مع قولوني قليل الحياء يجعلني انطوائيا، فليس من اللائق ان تجلس عدة أيام مع آخرين ممسكا بمنديل ورقي لتنفخ أنفك: فررررررررررررر، مما يثير تقززهم، وقد قرأت في أكثر من مطبوعة وموقع انترنت جدير بالثقة ان مرق او حساء الدجاج هو أفضل وسيلة لاحتواء نزلة البرد والتقليل من آثارها «غير الاجتماعية». يعني تسلق الدجاجة في ماء به بصل وبعض البهارات وتشرب المرق... إخخخخخخ! مجرد التفكير في شرب مرق الدجاج يصيبني بصداع واضطراب في وظائف الغدد الصماء (هل هناك غدد ثرثارة أو لا تعاني من إعاقة؟).
فعلا ابن آدم «مفتري».. الله يرحم.. في يوم ما لم نكن نرمي من الدجاجة في القمامة إلا ريشها. أكل الرغيف مشبعا بشوربة الدجاج كان ترفا لا نعرفه إلا بضع مرات في السنة، عندما يتم ذبح دجاجة لأنها أصيبت بعاهة مستديمة أو ديكا لأنه أصبح خنثى مشكل ونسي دوره في الحياة. ثم صار الدجاج طعاما «مقرفا»، يوضع أمامنا فننتقي بعض أجزائه في حذر وكأنه مفخخ او ملغوم، ثم نلقي بمعظمه في سلة القمامة. وإلى يومنا هذا ترى الدجاج في الأفلام المصرية مقرونا بالوجبات الفاخرة لدى الطبقات الشعبية، وأنا من الطبقات الشعبية ولكن العيش في الخليج جعلني انتمي الى الطبقات «الشبعية» وهي التي تحس بالشبع فيصيبها البطر فتنسى ما كان عليه حالها، عندما كان الحصول على جناح دجاجة حلما بعيد المنال، ثم تهتف عندما يوضع أمامها الدجاج المحمر أو المشوي: أُف.. كل يوم دجاج.
اشرب مرق الدجاج الطازج؟ مستحيل، ولكنني أتناول مرق الدجاج المستورد بعد ان أصبحت شوربة الدجاج «ماجي» عنصرا أساسيا في العديد من الطبخات! الدجاج المطبوخ في البيت يسد النفس ولكن دجاج كنتاكي شيء آخر، ونذهب إلى الصيدليات وعندما يمد لنا الصيدلاني دواء مصنوعا في بلد عربي نتساءل باستنكار: ألا يوجد عندك نوع محترم (غربي) من هذا الدواء؟ وننسى ان احتمالات الغش في الدواء العربي صفر، في حين ان تلك الاحتمالات تصبح فيفتي فيفتي (50% الى 50%) بالنسبة للدواء الغربي.. ففي العالم العربي يكاد كل شيء يكون مغشوشا: التاريخ والتنمية والحريات والمناهج المدرسية... إلا الدواء! على كل حال فأنا أعاني من عقدة مقلوبة تجاه كل ما هو غربي تتمثل في سوء الظن به ابتداءً.. وعلى سبيل المثال فإنني أعتقد أن الطبيب العربي لا يقل كفاءة عن نظيره الغربي بل يتفوق عليه في الجانب الأخلاقي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك