زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
كلمة ونُص للمعلمين (2)
قلت بالأمس إنني أخوض في أمور التعليم مرارا لأنني مارست التدريس ولأنني أب لديه عيال دخلوا المدارس وخاضوا تجربة التلمذة، وقلت إن معلم المدرسة الذي يتعامل مع طلابه وكأنهم مستجدون في الخدمة العسكرية، «ولا ينفع معهم إلا الحزم والشدة»، لا يمكن ان يكون محبا لمهنته. وكم من طالب كان -مثلا- عاشقا للغة الانجليزية، ثم صار يكرهها ككراهيتي لإسرائيل وفلاديمير بوتين، لأن المدرس الفلاني حوّلها الى أداة تعذيب نفسي وجسدي، وقلت أيضا، وقلتها مرارا قبل إن هناك عددا كبيرا من المعلمين اختار المهنة مرغما، ويمارسها وهو كاره لها في انتظار الفرج (الانتقال إلى وظيفة ذات بريق اجتماعي وعائد مادي أفضل)، والمدرس الذي يكره مهنته سيكون بدرجة أو أخرى كارها لطلابه، والنتيجة هي أن الطلاب سيكرهونه ويكرهون المادة التي يدرسها. وكانت العلاقة بيني وبين مادة الرياضيات طيبة وودية حتى السنة الثانية من المرحلة المتوسطة، عندما أتانا مدرس رياضيات فظ غليظ القلب، لسانه أكثر لسعا من العصا التي كان يتسلح بها على الدوام، وبسبب كرهنا له كرهنا مادة الرياضيات وكرهتنا هي، وقد ظللت حريصا بعد دخولي الحياة العملية على التواصل مع من تلقيت على أيديهم العلم في مختلف المراحل، والتقيت مصادفة ذلك المدرس البشع وحاولت تفادي إلقاء التحية عليه، ولكنه مد يده إليّ مصافحا، وكنت على درجة من الأدب، وحيّيته بعبارات مهذبة، ثم حكى لي كيف إنه هجر التدريس بعد ان اكتشف أن تجارة البصل أفضل من تلك المهنة، فقلت في سرّي: هذا جزاء الظالمين، فالبصل سيجعلك تنزف دموعا أكثر من تلك التي نزفناها بسببك.
وفي المقابل عشقت اللغة الانجليزية لأن من تلقيت مبادئها على يديه كان بشوشا ودودا، وكان يحلو له بين الحين والآخر أن يعلن: النهار ده عايزين نبهدل اللغة الانجليزية ونمسح بها الأرض. وبهذا كان يعطي الفرصة لنا لتركيب جمل انجليزية على كيفنا وحشوها بمفردات عربية: آي هيت فول آند عدس.. آي هيت «أنا أكره» وفول هو الفول وعدس هو العدس! فرانكو أراب! كان يهدف من وراء ذلك ان يشجع من كانوا ضعيفي التحصيل في الانجليزية ليجدوا في أنفسهم الجرأة في ارتكاب الأخطاء من دون «الخوف» من أن الآخرين سيضحكون عليهم.. ورغم ان انجليزيته كانت متقنة فإنه كان يفاجئنا بعبارات مثل: آر يو نعسان أور جوعان؟ (هل أنت نعسان أم جوعان؟).. وننفجر ضاحكين جميعا.. وبعدها يطرح السؤال: من الذي يقدر صياغة هذه الجملة بإنجليزية سليمة؟ وفي النهاية كانت الحصة تنتهي وقد عرفنا جميعا بضع كلمات إنجليزية غير واردة في الكتب المقررة.. ونحس بالزهو ونحن نستخدمها أمام زملائنا من الصفوف الدراسية الأخرى.
إذا كان لديك أطفال، فإنك تعرف أنهم يحبون طبيب أطفال معينا، ولو حاولت الذهاب بهم الى طبيب آخر سمعت انه ماهر وبارع فإنهم يبكون ويرفضون الذهاب إليه، لأنهم يحبون ذلك الطبيب ربما لأنه يبدأ بمداعبتهم فور دخولهم عليه، وقد يعطيهم حلوى مصاصة، أو يسمح لهم باللعب بالسماعة الطبية.. وبعد أن يدرك مثل هذا الطبيب أن هذا الطفل أو ذاك صار يحسن به الظن ولا يخشاه (وفي تربيتنا للصغار نخيفهم بأخذهم إلى الدكتور أو الشرطة فينشأون وهم يعتقدون أن الأطباء والعسكريين أعداء لهم).. عند تلك المرحلة يستطيع الطبيب ان يقول للطفل: أنا زعلان منك لأن ماما قالت إنك رفضت تناول الدواء، ويكون رد فعل الطفل: خلاص لا تزعل يا دكتور.. سأتناول الدواء.. الطفل لا يريد أن يفقد «صديقا».. وهكذا تجد مدارس يصاب طلابها بالاكتئاب الوبائي عند نقل مدرس محبوب الى مدرسة أخرى فيتحرك آباؤهم ويكتبون مذكرات يطالبون فيها بإلغاء نقل ذلك المعلم.. بينما قد يحتفل الطلاب بنقل مدرس آخر كان بالنسبة إليهم كابوسا وبعبعا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك