زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
الانتقام من الحمام
عشت في لندن حينا من الدهر وأنا خالي طرف (أعزب)، وكان أصدقاء السوء في السودان في انتظار البوم صور يثبت نجاح غزواتي العاطفية فيها، وكنت مدركا أنهم لن يصدقوا انني عشت في لندن بدون تلك الإثباتات، كان لابد أن أزور ميدان ترافلقر، حيث تماثيل المشاهير، وحيث الحمام الودود الذي يرك على الأكتاف، لألتقط صورا معه، وكانت هناك العديد من محلات بيع الحبوب لتقديمها للحمام (تم قبل بضع سنوات تطفيش الحمام نهائيا من ذلك الميدان بعد ان صار مصدر تلوث لنوافذ البنايات القريبة). ذهبت أكثر من مرة الى ترافلقر، واشتريت الحبوب بالعملة الصعبة وقدمتها للحمامات، ويا ما استأجرت مصورا كي ينتظر اللحظة التي تحط فيها حمامة على كتفي او ذراعي ليلتقط لي صورة، ولكنني فشلت المرة تلو المرة في إقناع ذلك الحمام العنصري العنجهي بأن يرِك على أي جزء من جسمي. نثرت القمح على كتفي وشعري ولكن الحمام كان يلتقطه ويطير مبتعدا. بل إن إحداها عملت «عملة مش كويسة» على كتفي وهي تحلق من فوقي.
أعرف أن كثيرين يعافون لحم الحمام، وهؤلاء لا يعرفون أن لحمه من أطيب لحوم الطيور. ذات مرة دخلت مطعما في القاهرة وطلبت ثلاث حمامات مشوية فسألني الجرسون: نأخِر الطلب شوية على بال ما جماعتك يوصلوا؟ قلت له إنه مفيش جماعة هيوصلوا، وأنني سأتناول الطعام بمفردي! وبانت الدهشة على ملامحه: هتاكل تلات حمامات لوحدك؟ قلت: نعم.. قال ضاحكا: ياه باين عليك جعان أوي، فقلت له أنني مش جعان أوي وأن ثلاث حمامات «فيها تشبعني وفيها أطلب زيادة».
وبعد أن جرح حمام ترافلقر سكوير كرامتي، صرت حاقدا على الحمام، وحريصا على الفتك به محمرا ومشويا ونصف استواء، ولك ان تتخيل مقدار فخري وسعادتي عندما سمعت بحكاية السوداني الذي كان يسكن في وسط لندن، وكان ينثر الحبوب يوميا على بلكونة شقته، فيجتمع الحمام بالعشرات ليلتهمها، وصار صاحبنا محبوبا من قبل الجيران الذين أكبروا فيه حبه للحمام، خاصة بعد أن وضع بعض صناديق الكرتون في البلكونة وصار الحمام يتناول وجباته هناك، ثم يأخذ «تعسيلة» داخل الصناديق عندما يشتد الحر او ينزل المطر، وشيئا فشيئا رفع الحمام التكليف وحول تلك الصناديق إلى عنابر ولادة، يعني صار يبيض ويربي صغاره فيها، وحقيقة الأمر هو أن ذلك السوداني البطل كان قد أعد خطة إجرامية لاستدراج الحمام الى البلكونة و«إقناعه» بوضع البيض وتربية الصغار فيها، وكان كلما بلغت الحمامات الصغيرة الحجم المثالي لـ«الأكل» تسلل ليلا الى البلكونة وحملها وذبحها وطبخها وتخلص من آثار الجريمة بالتخلص من الريش والأحشاء عبر شبكة الصرف الصحي... يجلس كل مساء في دورة المياه مسلحا بمقص، ليقطع الريش والأحشاء إلى قطع صغيرة لا تسبب انسدادا في شبكة الصرف الصحي، يستوجب الاستعانة بسباك قد يأتي ويكتشف سبب الانسداد، وتكون النتيجة أن يتم إهدار دمه، وعاش صاحبنا في تلك الشقة سنتين وهو يأكل الحمام يوميا، وجيرانه معجبون بالإفريقي ذي القلب الرقيق الرحيم، ولو عرفوا حقيقة أمره لمزقوا قلبه بأسلوب غير رحيم.. إلحاق الأذى بشخص أسود «تعبير ديمقراطي عن موقف سياسي» ولكن أن تصيب حمامة أو كلبا بأذى فتلك جريمة لا تغتفر.
كتبت بالأمس عن الثعلب الذي اكتشفت انه يقيم في حديقة بيتي في منطقة بارنيت في شمال لندن، ولما استشرت جاري البريطاني عن طريقة للتخلص منه قال لي إنه لو تم ضبطي وأنا «أنهر» الثعلب، فسيكون عقابي أليما ثم نصحني: إذا لم تكن تحب الثعالب فارحل الى منطقة أخرى.. الثعلب حر في ان يقيم في بيتي وأنا أدفع الإيجار، ولست حرا في طرده من بيت يقيم فيه بغير وجه حق.. وحقوق الحيوان عند الغربيين محفوظة ع الآخر، ولكن في عُرفهم هناك بشر ليس لهم حقوق.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك