العدد : ١٧١٨٩ - الثلاثاء ١٥ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٩ - الثلاثاء ١٥ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٧ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الانتقام من الحمام

عشت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬حينا‭ ‬من‭ ‬الدهر‭ ‬وأنا‭ ‬خالي‭ ‬طرف‭ (‬أعزب‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬أصدقاء‭ ‬السوء‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬البوم‭ ‬صور‭ ‬يثبت‭ ‬نجاح‭ ‬غزواتي‭ ‬العاطفية‭ ‬فيها،‭ ‬وكنت‭ ‬مدركا‭ ‬أنهم‭ ‬لن‭ ‬يصدقوا‭ ‬انني‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬بدون‭ ‬تلك‭ ‬الإثباتات،‭ ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أزور‭ ‬ميدان‭ ‬ترافلقر،‭ ‬حيث‭ ‬تماثيل‭ ‬المشاهير،‭ ‬وحيث‭ ‬الحمام‭ ‬الودود‭ ‬الذي‭ ‬يرك‭ ‬على‭ ‬الأكتاف،‭ ‬لألتقط‭ ‬صورا‭ ‬معه،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬محلات‭ ‬بيع‭ ‬الحبوب‭ ‬لتقديمها‭ ‬للحمام‭ (‬تم‭ ‬قبل‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬تطفيش‭ ‬الحمام‭ ‬نهائيا‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الميدان‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬صار‭ ‬مصدر‭ ‬تلوث‭ ‬لنوافذ‭ ‬البنايات‭ ‬القريبة‭). ‬ذهبت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬الى‭ ‬ترافلقر،‭ ‬واشتريت‭ ‬الحبوب‭ ‬بالعملة‭ ‬الصعبة‭ ‬وقدمتها‭ ‬للحمامات،‭ ‬ويا‭ ‬ما‭ ‬استأجرت‭ ‬مصورا‭ ‬كي‭ ‬ينتظر‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تحط‭ ‬فيها‭ ‬حمامة‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬او‭ ‬ذراعي‭ ‬ليلتقط‭ ‬لي‭ ‬صورة،‭ ‬ولكنني‭ ‬فشلت‭ ‬المرة‭ ‬تلو‭ ‬المرة‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬ذلك‭ ‬الحمام‭ ‬العنصري‭ ‬العنجهي‭ ‬بأن‭ ‬يرِك‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جسمي‭. ‬نثرت‭ ‬القمح‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬وشعري‭ ‬ولكن‭ ‬الحمام‭ ‬كان‭ ‬يلتقطه‭ ‬ويطير‭ ‬مبتعدا‭. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬إحداها‭ ‬عملت‭ ‬‮«‬عملة‭ ‬مش‭ ‬كويسة‮»‬‭  ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬وهي‭ ‬تحلق‭ ‬من‭ ‬فوقي‭.‬

أعرف‭ ‬أن‭ ‬كثيرين‭ ‬يعافون‭ ‬لحم‭ ‬الحمام،‭ ‬وهؤلاء‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬لحمه‭ ‬من‭ ‬أطيب‭ ‬لحوم‭ ‬الطيور‭. ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬دخلت‭ ‬مطعما‭ ‬في‭ ‬القاهرة‭ ‬وطلبت‭ ‬ثلاث‭ ‬حمامات‭ ‬مشوية‭ ‬فسألني‭ ‬الجرسون‭: ‬نأخِر‭ ‬الطلب‭ ‬شوية‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬ما‭ ‬جماعتك‭ ‬يوصلوا؟‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬إنه‭ ‬مفيش‭ ‬جماعة‭ ‬هيوصلوا،‭ ‬وأنني‭ ‬سأتناول‭ ‬الطعام‭ ‬بمفردي‭! ‬وبانت‭ ‬الدهشة‭ ‬على‭ ‬ملامحه‭: ‬هتاكل‭ ‬تلات‭ ‬حمامات‭ ‬لوحدك؟‭ ‬قلت‭: ‬نعم‭.. ‬قال‭ ‬ضاحكا‭: ‬ياه‭ ‬باين‭ ‬عليك‭ ‬جعان‭ ‬أوي،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬أنني‭ ‬مش‭ ‬جعان‭ ‬أوي‭ ‬وأن‭ ‬ثلاث‭ ‬حمامات‭ ‬‮«‬فيها‭ ‬تشبعني‭ ‬وفيها‭ ‬أطلب‭ ‬زيادة‮»‬‭.‬

وبعد‭ ‬أن‭ ‬جرح‭ ‬حمام‭ ‬ترافلقر‭ ‬سكوير‭ ‬كرامتي،‭ ‬صرت‭ ‬حاقدا‭ ‬على‭ ‬الحمام،‭ ‬وحريصا‭ ‬على‭ ‬الفتك‭ ‬به‭ ‬محمرا‭ ‬ومشويا‭ ‬ونصف‭ ‬استواء،‭ ‬ولك‭ ‬ان‭ ‬تتخيل‭ ‬مقدار‭ ‬فخري‭ ‬وسعادتي‭ ‬عندما‭ ‬سمعت‭ ‬بحكاية‭ ‬السوداني‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يسكن‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬لندن،‭ ‬وكان‭ ‬ينثر‭ ‬الحبوب‭ ‬يوميا‭ ‬على‭ ‬بلكونة‭ ‬شقته،‭ ‬فيجتمع‭ ‬الحمام‭ ‬بالعشرات‭ ‬ليلتهمها،‭ ‬وصار‭ ‬صاحبنا‭ ‬محبوبا‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجيران‭ ‬الذين‭ ‬أكبروا‭ ‬فيه‭ ‬حبه‭ ‬للحمام،‭ ‬خاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬وضع‭ ‬بعض‭ ‬صناديق‭ ‬الكرتون‭ ‬في‭ ‬البلكونة‭ ‬وصار‭ ‬الحمام‭ ‬يتناول‭ ‬وجباته‭ ‬هناك،‭ ‬ثم‭ ‬يأخذ‭ ‬‮«‬تعسيلة‮»‬‭ ‬داخل‭ ‬الصناديق‭ ‬عندما‭ ‬يشتد‭ ‬الحر‭ ‬او‭ ‬ينزل‭ ‬المطر،‭ ‬وشيئا‭ ‬فشيئا‭ ‬رفع‭ ‬الحمام‭ ‬التكليف‭ ‬وحول‭ ‬تلك‭ ‬الصناديق‭ ‬إلى‭ ‬عنابر‭ ‬ولادة،‭ ‬يعني‭ ‬صار‭ ‬يبيض‭ ‬ويربي‭ ‬صغاره‭ ‬فيها،‭ ‬وحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬السوداني‭ ‬البطل‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬أعد‭ ‬خطة‭ ‬إجرامية‭ ‬لاستدراج‭ ‬الحمام‭ ‬الى‭ ‬البلكونة‭ ‬و«إقناعه‮»‬‭ ‬بوضع‭ ‬البيض‭ ‬وتربية‭ ‬الصغار‭ ‬فيها،‭ ‬وكان‭ ‬كلما‭ ‬بلغت‭ ‬الحمامات‭ ‬الصغيرة‭ ‬الحجم‭ ‬المثالي‭ ‬لـ«الأكل‮»‬‭ ‬تسلل‭ ‬ليلا‭ ‬الى‭ ‬البلكونة‭ ‬وحملها‭ ‬وذبحها‭ ‬وطبخها‭ ‬وتخلص‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬الجريمة‭ ‬بالتخلص‭ ‬من‭ ‬الريش‭ ‬والأحشاء‭ ‬عبر‭ ‬شبكة‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي‭... ‬يجلس‭ ‬كل‭ ‬مساء‭ ‬في‭ ‬دورة‭ ‬المياه‭ ‬مسلحا‭ ‬بمقص،‭ ‬ليقطع‭ ‬الريش‭ ‬والأحشاء‭ ‬إلى‭ ‬قطع‭ ‬صغيرة‭ ‬لا‭ ‬تسبب‭ ‬انسدادا‭ ‬في‭ ‬شبكة‭ ‬الصرف‭ ‬الصحي،‭ ‬يستوجب‭ ‬الاستعانة‭ ‬بسباك‭ ‬قد‭ ‬يأتي‭ ‬ويكتشف‭ ‬سبب‭ ‬الانسداد،‭ ‬وتكون‭ ‬النتيجة‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬إهدار‭ ‬دمه،‭ ‬وعاش‭ ‬صاحبنا‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الشقة‭ ‬سنتين‭ ‬وهو‭ ‬يأكل‭ ‬الحمام‭ ‬يوميا،‭ ‬وجيرانه‭ ‬معجبون‭ ‬بالإفريقي‭ ‬ذي‭ ‬القلب‭ ‬الرقيق‭ ‬الرحيم،‭ ‬ولو‭ ‬عرفوا‭ ‬حقيقة‭ ‬أمره‭ ‬لمزقوا‭ ‬قلبه‭ ‬بأسلوب‭ ‬غير‭ ‬رحيم‭.. ‬إلحاق‭ ‬الأذى‭ ‬بشخص‭ ‬أسود‭ ‬‮«‬تعبير‭ ‬ديمقراطي‭ ‬عن‭ ‬موقف‭ ‬سياسي‮»‬‭ ‬ولكن‭ ‬أن‭ ‬تصيب‭ ‬حمامة‭ ‬أو‭ ‬كلبا‭ ‬بأذى‭ ‬فتلك‭ ‬جريمة‭ ‬لا‭ ‬تغتفر‭.‬

كتبت‭ ‬بالأمس‭ ‬عن‭ ‬الثعلب‭ ‬الذي‭ ‬اكتشفت‭ ‬انه‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬حديقة‭ ‬بيتي‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬بارنيت‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬لندن،‭ ‬ولما‭ ‬استشرت‭ ‬جاري‭ ‬البريطاني‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬للتخلص‭ ‬منه‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬لو‭ ‬تم‭ ‬ضبطي‭ ‬وأنا‭ ‬‮«‬أنهر‮»‬‭ ‬الثعلب،‭ ‬فسيكون‭ ‬عقابي‭ ‬أليما‭ ‬ثم‭ ‬نصحني‭: ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تحب‭ ‬الثعالب‭ ‬فارحل‭ ‬الى‭ ‬منطقة‭ ‬أخرى‭.. ‬الثعلب‭ ‬حر‭ ‬في‭ ‬ان‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬وأنا‭ ‬أدفع‭ ‬الإيجار،‭ ‬ولست‭ ‬حرا‭ ‬في‭ ‬طرده‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬يقيم‭ ‬فيه‭ ‬بغير‭ ‬وجه‭ ‬حق‭.. ‬وحقوق‭ ‬الحيوان‭ ‬عند‭ ‬الغربيين‭ ‬محفوظة‭ ‬ع‭ ‬الآخر،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬عُرفهم‭ ‬هناك‭ ‬بشر‭ ‬ليس‭ ‬لهم‭ ‬حقوق‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا