العدد : ١٧١٨٧ - الأحد ١٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٨٧ - الأحد ١٣ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

مراسيم زواجي ليست بمزاجي

كي‭ ‬تكمل‭ ‬مراسيم‭ ‬زواجك‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬تتمتع‭ ‬بلياقة‭ ‬مالية‭ ‬وجسمانية‭ ‬عالية،‭ ‬ولابد‭ ‬أيضا‭ ‬من‭ ‬اليقظة‭ ‬الذهنية،‭ ‬لأن‭ ‬طقوس‭ ‬الزواج‭ ‬تتطلب‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬استخدام‭ ‬جدول‭ ‬اللوغاريتمات‭ ‬العجيب،‭ ‬وشخصيا‭ ‬عقدت‭ ‬قراني‭ ‬على‭ ‬الشابة‭ ‬سعيدة‭ ‬الحظ‭ ‬في‭ ‬ظروف‭ ‬استثنائية،‭ ‬بالتحديد‭ ‬في‭ ‬أعقاب‭ ‬محاولة‭ ‬انقلابية‭ (‬فاشلة‭) ‬للإطاحة‭ ‬بحكم‭ ‬الديكتاتور‭ ‬جعفر‭ ‬نميري،‭ ‬وظلت‭ ‬الخرطوم‭ ‬تخضع‭ ‬لحظر‭ ‬التجوال،‭ ‬وبعد‭ ‬عقد‭ ‬القران‭ ‬سافرت‭ ‬الى‭ ‬لندن،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬اصطحاب‭ ‬زوجتي،‭ ‬لأن‭ ‬أهلها‭ ‬وأهلي‭ ‬اعتبروا‭ ‬الزواج‭ ‬ناقصا‭ ‬بدون‭ ‬حفل‭ ‬زفاف‭ ‬وأمور‭ ‬أخرى‭.‬

وعدت‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬وأنا‭ ‬أحسب‭ ‬أن‭ ‬وضعي‭ ‬المالي‭ ‬مريح‭ ‬وأنني‭ ‬بالتالي‭ ‬جاهز‭ ‬لتحمل‭ ‬نفقات‭ ‬الزواج،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أعرف‭ ‬تعقيدات‭ ‬طقوس‭ ‬الزواج‭ ‬السوداني،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬عرفتها‭ (‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭) ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أستسيغها‭ ‬ولا‭ ‬أنا‭ ‬أستسيغها‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬بتكبد‭ ‬نفقات‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬ما‭ ‬زلت‭ ‬أجدها‭ ‬سخيفة‭ ‬وعبيطة،‭ ‬بل‭ ‬في‭ ‬كوني‭ ‬كعريس‭ ‬مطالبا‭ ‬بالخضوع‭ ‬لطقوس‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬مقتنعا‭ ‬بها‭.. ‬قالوا‭ ‬لي‭ ‬‮«‬لازم‭ ‬تتحنن‮»‬،‭ ‬وأجلسوني‭ ‬على‭ ‬سرير‭ ‬ووضعوا‭ ‬الحناء‭ ‬في‭ ‬يدي‭ ‬وقدمي،‭ ‬وفي‭ ‬صبيحة‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬الحنة‭ ‬ليست‭ ‬سوداء‭ ‬بالدرجة‭ ‬المطلوبة،‭ ‬ولطخوني‭ ‬مجددا‭ ‬بطبقات‭ ‬من‭ ‬الحنة‭ ‬في‭ ‬اليدين‭ ‬والقدمين،‭ ‬حتى‭ ‬صرت‭ ‬أشبه‭ ‬الراقصات‭ ‬الهنديات‭ (‬مع‭ ‬فوارق‭ ‬بسيطة‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭). ‬وما‭ ‬زال‭ ‬السودانيون‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬والجزيرة‭ ‬العربية‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬الحناء‭ ‬عند‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬الزواج،‭ ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬رأى‭ ‬أهل‭ ‬تلك‭ ‬المناطق‭ ‬رجلا‭ ‬يضع‭ ‬الحناء‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جسمه‭ ‬اعتبروه‭ ‬‮«‬مو‭ ‬رجل‮»‬،‭ ‬بينما‭ ‬نعجب‭ ‬نحن‭ ‬السودانيين‭ ‬من‭ ‬كون‭ ‬بعض‭ ‬رجال‭ ‬الخليج‭ ‬يكحلون‭ ‬عيونهم‭.‬

المهم‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬دوامة‭ ‬من‭ ‬الطقوس،‭ ‬والمراسيم،‭ ‬وجاء‭ ‬يوم‭ ‬حفل‭ ‬الزفاف،‭ ‬واصطحبت‭ ‬العروس‭ ‬من‭ ‬الكوافير‭ ‬الى‭ ‬الاستوديو،‭ ‬وفي‭ ‬الاستوديو‭ ‬صار‭ ‬المصور‭ ‬يقترح‭ ‬علي‭ ‬أمورا‭ ‬سخيفة‭: ‬ضع‭ ‬يدك‭ ‬على‭ ‬كتفها‭!! ‬قلت‭ ‬له‭ ‬لن‭ ‬أضع‭ ‬يدي‭ ‬على‭ ‬كتفها‭!! ‬طيب‭ ‬أمسك‭ ‬يدها‭ ‬اليمنى‭ ‬بيدك‭ ‬اليسرى‭.. ‬قف‭ ‬بهذه‭ ‬الزاوية‭ ‬وانظر‭ ‬اليها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬‮«‬ترمش‮»‬،‭.. ‬سمع‭ ‬مني‭ ‬المصور‭ ‬كلاما‭.. ‬لو‭ ‬كان‭ ‬يتحلى‭ ‬بأي‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الكرامة‭ ‬لاعتزل‭ ‬المهنة‭!! ‬وعدنا‭ ‬الى‭ ‬حيث‭ ‬مكان‭ ‬الحفل،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬شاعت‭ ‬موضة‭ ‬القاعات‭ ‬وصالات‭ ‬الفنادق،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬حفلات‭ ‬الزواج‭ ‬تقام‭ ‬في‭ ‬صيوانات‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬العامة،‭ ‬ووجدت‭ ‬نفسي‭ ‬جالسا‭ ‬قرب‭ ‬العروس‭ ‬في‭ ‬كرسي‭ ‬وثير‭ ‬وكان‭ ‬الإرهاق‭ ‬قد‭ ‬نال‭ ‬مني‭ ‬وكنت‭ ‬متوترا‭ ‬وجوعانا،‭ ‬والناس‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬يأكلون‭ ‬ثم‭ ‬يحيطون‭ ‬بي‭: ‬مبروك‭ ‬ويرددون‭ ‬الموال‭ ‬السخيف‭: ‬منك‭ ‬المال‭ ‬ومنها‭ ‬العيال‭!! ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬ولو‭ ‬قسم‭ ‬من‭ ‬المال‭ ‬منها؟‭ ‬ثم‭ ‬كيف‭ ‬منها‭ ‬العيال؟‭ ‬سيكون‭ ‬العيال‭ ‬انتاجا‭ ‬مشتركا‭ ‬مناصفة‭ ‬بيننا‭ ‬فلماذا‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬المال‭ ‬أيضا‭ ‬مناصفة‭ ‬بيننا؟‭. ‬اقترب‭ ‬مني‭ ‬صديق‭ ‬مهنئا‭ ‬فهمست‭ ‬في‭ ‬أذنه‭: ‬أنا‭ ‬عايز‭ ‬أكل‭ ‬فاذهب‭ ‬الى‭ ‬مطعم‭ ‬قريب‭ ‬وهات‭ ‬طعاما‭ ‬جيدا‭ ‬واتركه‭ ‬في‭ ‬سيارتك‭.. ‬والله‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬بالضبط‭.. ‬أتى‭ ‬بالطعام‭ ‬فتسللت‭ ‬من‭ ‬‮«‬الكوشة‮»‬‭ ‬وجلست‭ ‬داخل‭ ‬سيارة‭ ‬صديقي‭ ‬و«تعشيت‭ ‬مزبوط‮»‬‭.. ‬ربما‭ ‬أكون‭ ‬أول‭ ‬وآخر‭ ‬عريس‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬يشتري‭ ‬أكلا‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬حفل‭ ‬زفافه،‭ ‬ويتناوله‭ ‬سرا،‭ ‬بينما‭ ‬المئات‭ ‬يأكلون‭ ‬على‭ ‬حسابه‭ ‬أمامه‭.‬

ثم‭ ‬طفح‭ ‬بي‭ ‬الكيل‭ ‬عندما‭ ‬طلبوا‭ ‬مني‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬لحفل‭ ‬الزفاف،‭ ‬استئجار‭ ‬بضع‭ ‬حافلات؟‭ ‬لماذا؟‭ ‬قالوا‭: ‬السيرة‭!! ‬وتعني‭ ‬ان‭ ‬يركب‭ ‬المدعوون‭ ‬في‭ ‬الحافلات‭ ‬ويطوفوا‭ ‬بالشوارع‭ ‬والبنات‭ ‬يغنين،‭ ‬والعريس‭ ‬والعروس‭ ‬في‭ ‬مقدمة‭ ‬الركب‭ ‬حتى‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬موقع‭ ‬معين‭ ‬على‭ ‬النيل‭ ‬فينزل‭ ‬الثنائي‭ ‬ليغتسلا‭ ‬بماء‭ ‬النيل‭. ‬قلت‭ ‬لهم‭: ‬هاكم‭ ‬فلوس‭ ‬الحافلات‭ ‬لكن‭ ‬علي‭ ‬بالطلاق‭ ‬لن‭ ‬أركب‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬منها‭. ‬قالوا‭ ‬إنني‭ ‬لن‭ ‬أنجب‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬اغسل‭ ‬وجهي‭ ‬بماء‭ ‬النيل‭.. ‬قلت‭ ‬لهم‭ ‬إن‭ ‬أهلي‭ ‬النوبيين‭ ‬تركوا‭ ‬ديانتهم‭ ‬القديمة‭ ‬وتقديسهم‭ ‬للنيل‭ ‬واعتنقوا‭ ‬الاسلام‭. ‬تركوني‭ ‬وخرجوا‭ ‬في‭ ‬‮«‬السيرة‮»‬‭ ‬وعادت‭ ‬إحدى‭ ‬أخواتي‭ ‬بكوز‭ ‬فيه‭ ‬ماء‭ ‬النيل‭ ‬الأغبش‭ ‬لأغسل‭ ‬وجهي‭ ‬به،‭ ‬كي‭ ‬‮«‬اكتسب‭ ‬الخصوبة‮»‬‭ ‬فدلقته‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭.. ‬ورزقني‭ ‬الله‭ ‬ببنتين‭ ‬وولدين‭ ‬رغم‭ - ‬وربما‭ ‬بسبب‭ - ‬‮«‬عقوقي‮»‬‭ ‬للنيل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا