زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أبكي نفسي أم وطني؟
ظللت على مدى سنوات اغترابي الطويلة عن وطني حزينا لفراقي إياه مرغما، بعد ان سٌدّت في وجهي سبل كسب الرزق فيه، ثم جاءت الحرب اللعينة الراهنة فحمدت الله على اغترابي عن الوطن ليس لأن في ذلك ضمانا لسلامتي الشخصية، ولكن لأني صرت قادرا على تقديم العون للعشرات ممن يهمني أمرهم، الذين فقدوا وظائفهم وممتلكاتهم وتشردوا داخل وخارج الوطن.
وتذكرت يوم أبلغني مكتب التوظيف التابع لشركة أرامكو النفطية في السعودية باختياري مترجما لديها فأجهشت بالبكاء. بكيت نوع البكاء المصحوب بالنشيج المدوي، ولم يكن بكاء فرح، بل بكاء حزن عميق، بكيت على نفسي، فقد كان ذلك بعد أشهر قليلة من زواجي: كيف يهون عليك ترك عروس وفي بطنها طفلك في شهره الأول؟ كيف يهون عليك فراق السودان أحب بلاد الدنيا إلى نفسك؟ وما إن أبلغت زوجتي بنبأ فوزي بوظيفة في أرامكو حتى تهلل وجهها منشرحا، ولكن ما إن قلت لها إنهم يريدون مني ان أسافر إلى الظهران في أقرب وقت، وأنني سأسافر بدونها لأرتب أمور استقدامها، حتى انفجرت بالعويل والنحيب: ملعون أبو الفلوس على أبو أرامكو. وتحولت غرفة النوم إلى بيت عزاء عدة أيام، وظل مكتب التوظيف خلالها يلاحقني كي أستكمل إجراءات السفر، ثم غالبنا الحزن وجلسنا نفكر في الأمر بـ«عقلانية» وقررنا أنه من الخير لنا ولعيالنا المنتظرين أن أجد عملا في بلد يكفل لنا مستوى معيشيا أفضل، وكان الراتب المعروض علي في وظيفة «أخصائي ترجمة» 4821 ريالا، ولم يكن قد سبق لي قبلها التعامل مع الآلاف في دنيا المال، وهكذا حزمت حقائبي وركبت الطائرة.
في مطار مدينة الظهران حيث المقر الرئيسي للشركة العملاقة، استقبلني موظف من إدارة العلاقات العامة ليوصلني الى مسكني المؤقت، ثم أعطاني مظروفا بداخله 3000 ريال، أول ما خطر ببالي هو أن أعود فورا الى السودان لأستمتع بتلك الثروة التي نزلت عليّ من السماء، ولكنني فوجئت بأن الرحلات من مطار الظهران إلى السودان مرة واحدة في الأسبوع، وما إن أوصلني الرجل إلى غرفة أنيقة في معسكر صغير حتى أجهشت بالبكاء مرة أخرى: تذكرت السودان والأهل والأحباب: بيني وبينك تستطيل حواجزٌ، جزرٌ/ وينهض ألف باب.. مازال سقف أبي يظل/ ولم تزل أحضان أمي رحبة المثوى مطيبة الجناب، ثم أنظر إلى الآلاف الثلاثة وازداد حزنا: آآآخ لو أستطيع إرسالها برقا أو جوا الى زوجتي كي تحس بالطفرة الطبقية. لعلها تنسيها آلام الفراق. كان حالي يومها كحالي يوم ذهبت إلى المدرسة المتوسطة وعمري 11 سنة لأدرس وأقيم فيها بعيدا عن أهلي فظللت أبكي طوال أشهر.
وخرجت من الغرفة لأتعرف على المنطقة المحيطة بمكان السكن ووجدت قاعة طعام مفتوحة وهناك رأيت «زولين». هناك شعوب كثيرة سمراء وسوداء، ولكنني أتمتع بحاسة عجيبة في التعرف على السودانيين. ذات مرة كنت في مبنى وزارة الخارجية الإماراتية لتوثيق شهادات، واقتربت من أحد الواقفين في الطابور وقلت له: ممكن قلم يا زول.. ابتسم صاحبنا وسألني: ولماذا افترضت أنني «زول»؟ كان سؤاله وجيها فقد كان ذا بشرة فاتحة جدا، وكان من الممكن أن يكون مصريا أو شاميا، ولكنني أحسست بأنه سوداني! كيف؟ لا أعرف!! وقد اتضح ان الرجل فعلا سوداني ولكنه كان مسيحيا قبطيا أي من أصل مصري. ربما هي جينات حب كل من وما هو سوداني تلك التي تجعلني أتعرف على السوداني وسط جيش من السمر والسود وحتى ذوي البشرة الفاتحة من مختلف البلدان.
المهم تعرفت على الزولين في قاعة الطعام وسألتهما عن طريقة تحويل النقود الى السودان، ولحسن حظي كان هناك موظف سوداني في أرامكو مسافر الى الوطن في اليوم التالي، وسلمته ألفي ريال ليوصلها الى زوجتي وكان ذلك المبلغ يساوي وقتها نحو مائتي جنيه سوداني أي ان الجنيه كان يساوي عشرة ريالات سعودية.. بينما الريال اليوم يساوي أكثر من 700 جنيه. إنه عزيز قوم ذُل.
إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"
aak_news

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك