العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١٩٣ - السبت ١٩ أبريل ٢٠٢٥ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أبكي نفسي أم وطني؟

ظللت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬اغترابي‭ ‬الطويلة‭ ‬عن‭ ‬وطني‭ ‬حزينا‭ ‬لفراقي‭ ‬إياه‭ ‬مرغما،‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬سٌدّت‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬سبل‭ ‬كسب‭ ‬الرزق‭ ‬فيه،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الحرب‭ ‬اللعينة‭ ‬الراهنة‭ ‬فحمدت‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬اغترابي‭ ‬عن‭ ‬الوطن‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬ضمانا‭ ‬لسلامتي‭ ‬الشخصية،‭ ‬ولكن‭ ‬لأني‭ ‬صرت‭ ‬قادرا‭ ‬على‭ ‬تقديم‭ ‬العون‭ ‬للعشرات‭ ‬ممن‭ ‬يهمني‭ ‬أمرهم،‭ ‬الذين‭ ‬فقدوا‭ ‬وظائفهم‭ ‬وممتلكاتهم‭ ‬وتشردوا‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬الوطن‭.‬

وتذكرت‭ ‬يوم‭ ‬أبلغني‭ ‬مكتب‭ ‬التوظيف‭ ‬التابع‭ ‬لشركة‭ ‬أرامكو‭ ‬النفطية‭ ‬في‭ ‬السعودية‭ ‬باختياري‭ ‬مترجما‭ ‬لديها‭ ‬فأجهشت‭ ‬بالبكاء‭. ‬بكيت‭ ‬نوع‭ ‬البكاء‭ ‬المصحوب‭ ‬بالنشيج‭ ‬المدوي،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬بكاء‭ ‬فرح،‭ ‬بل‭ ‬بكاء‭ ‬حزن‭ ‬عميق،‭ ‬بكيت‭ ‬على‭ ‬نفسي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬من‭ ‬زواجي‭: ‬كيف‭ ‬يهون‭ ‬عليك‭ ‬ترك‭ ‬عروس‭ ‬وفي‭ ‬بطنها‭ ‬طفلك‭ ‬في‭ ‬شهره‭ ‬الأول؟‭ ‬كيف‭ ‬يهون‭ ‬عليك‭ ‬فراق‭ ‬السودان‭ ‬أحب‭ ‬بلاد‭ ‬الدنيا‭ ‬إلى‭ ‬نفسك؟‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أبلغت‭ ‬زوجتي‭ ‬بنبأ‭ ‬فوزي‭ ‬بوظيفة‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬حتى‭ ‬تهلل‭ ‬وجهها‭ ‬منشرحا،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬قلت‭ ‬لها‭ ‬إنهم‭ ‬يريدون‭ ‬مني‭ ‬ان‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬الظهران‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬وقت،‭ ‬وأنني‭ ‬سأسافر‭ ‬بدونها‭ ‬لأرتب‭ ‬أمور‭ ‬استقدامها،‭ ‬حتى‭ ‬انفجرت‭ ‬بالعويل‭ ‬والنحيب‭: ‬ملعون‭ ‬أبو‭ ‬الفلوس‭ ‬على‭ ‬أبو‭ ‬أرامكو‭. ‬وتحولت‭ ‬غرفة‭ ‬النوم‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬عزاء‭ ‬عدة‭ ‬أيام،‭ ‬وظل‭ ‬مكتب‭ ‬التوظيف‭ ‬خلالها‭ ‬يلاحقني‭ ‬كي‭ ‬أستكمل‭ ‬إجراءات‭ ‬السفر،‭ ‬ثم‭ ‬غالبنا‭ ‬الحزن‭ ‬وجلسنا‭ ‬نفكر‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬بـ«عقلانية‮»‬‭ ‬وقررنا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الخير‭ ‬لنا‭ ‬ولعيالنا‭ ‬المنتظرين‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬عملا‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يكفل‭ ‬لنا‭ ‬مستوى‭ ‬معيشيا‭ ‬أفضل،‭ ‬وكان‭ ‬الراتب‭ ‬المعروض‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬‮«‬أخصائي‭ ‬ترجمة‮»‬‭ ‬4821‭ ‬ريالا،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬قد‭ ‬سبق‭ ‬لي‭ ‬قبلها‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬دنيا‭ ‬المال،‭ ‬وهكذا‭ ‬حزمت‭ ‬حقائبي‭ ‬وركبت‭ ‬الطائرة‭.‬

في‭ ‬مطار‭ ‬مدينة‭ ‬الظهران‭ ‬حيث‭ ‬المقر‭ ‬الرئيسي‭ ‬للشركة‭ ‬العملاقة،‭ ‬استقبلني‭ ‬موظف‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬العلاقات‭ ‬العامة‭ ‬ليوصلني‭ ‬الى‭ ‬مسكني‭ ‬المؤقت،‭ ‬ثم‭ ‬أعطاني‭ ‬مظروفا‭ ‬بداخله‭ ‬3000‭ ‬ريال،‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬خطر‭ ‬ببالي‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬فورا‭ ‬الى‭ ‬السودان‭ ‬لأستمتع‭ ‬بتلك‭ ‬الثروة‭ ‬التي‭ ‬نزلت‭ ‬عليّ‭ ‬من‭ ‬السماء،‭ ‬ولكنني‭ ‬فوجئت‭ ‬بأن‭ ‬الرحلات‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬الظهران‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬أوصلني‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬أنيقة‭ ‬في‭ ‬معسكر‭ ‬صغير‭ ‬حتى‭ ‬أجهشت‭ ‬بالبكاء‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭: ‬تذكرت‭ ‬السودان‭ ‬والأهل‭ ‬والأحباب‭: ‬بيني‭ ‬وبينك‭ ‬تستطيل‭ ‬حواجزٌ،‭ ‬جزرٌ‭/ ‬وينهض‭ ‬ألف‭ ‬باب‭.. ‬مازال‭ ‬سقف‭ ‬أبي‭ ‬يظل‭/ ‬ولم‭ ‬تزل‭ ‬أحضان‭ ‬أمي‭ ‬رحبة‭ ‬المثوى‭ ‬مطيبة‭ ‬الجناب،‭ ‬ثم‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الآلاف‭ ‬الثلاثة‭ ‬وازداد‭ ‬حزنا‭: ‬آآآخ‭ ‬لو‭ ‬أستطيع‭ ‬إرسالها‭ ‬برقا‭ ‬أو‭ ‬جوا‭ ‬الى‭ ‬زوجتي‭ ‬كي‭ ‬تحس‭ ‬بالطفرة‭ ‬الطبقية‭. ‬لعلها‭ ‬تنسيها‭ ‬آلام‭ ‬الفراق‭. ‬كان‭ ‬حالي‭ ‬يومها‭ ‬كحالي‭ ‬يوم‭ ‬ذهبت‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وعمري‭ ‬11‭ ‬سنة‭ ‬لأدرس‭ ‬وأقيم‭ ‬فيها‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أهلي‭ ‬فظللت‭ ‬أبكي‭ ‬طوال‭ ‬أشهر‭.‬

وخرجت‭ ‬من‭ ‬الغرفة‭ ‬لأتعرف‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬المحيطة‭ ‬بمكان‭ ‬السكن‭ ‬ووجدت‭ ‬قاعة‭ ‬طعام‭ ‬مفتوحة‭ ‬وهناك‭ ‬رأيت‭ ‬‮«‬زولين‮»‬‭. ‬هناك‭ ‬شعوب‭ ‬كثيرة‭ ‬سمراء‭ ‬وسوداء،‭ ‬ولكنني‭ ‬أتمتع‭ ‬بحاسة‭ ‬عجيبة‭ ‬في‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬السودانيين‭. ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬وزارة‭ ‬الخارجية‭ ‬الإماراتية‭ ‬لتوثيق‭ ‬شهادات،‭ ‬واقتربت‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الواقفين‭ ‬في‭ ‬الطابور‭ ‬وقلت‭ ‬له‭: ‬ممكن‭ ‬قلم‭ ‬يا‭ ‬زول‭.. ‬ابتسم‭ ‬صاحبنا‭ ‬وسألني‭: ‬ولماذا‭ ‬افترضت‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬زول»؟‭ ‬كان‭ ‬سؤاله‭ ‬وجيها‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬ذا‭ ‬بشرة‭ ‬فاتحة‭ ‬جدا،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصريا‭ ‬أو‭ ‬شاميا،‭ ‬ولكنني‭ ‬أحسست‭ ‬بأنه‭ ‬سوداني‭! ‬كيف؟‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭!! ‬وقد‭ ‬اتضح‭ ‬ان‭ ‬الرجل‭ ‬فعلا‭ ‬سوداني‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬مسيحيا‭ ‬قبطيا‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬أصل‭ ‬مصري‭. ‬ربما‭ ‬هي‭ ‬جينات‭ ‬حب‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬وما‭ ‬هو‭ ‬سوداني‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تجعلني‭ ‬أتعرف‭ ‬على‭ ‬السوداني‭ ‬وسط‭ ‬جيش‭ ‬من‭ ‬السمر‭ ‬والسود‭ ‬وحتى‭ ‬ذوي‭ ‬البشرة‭ ‬الفاتحة‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬البلدان‭.‬

المهم‭ ‬تعرفت‭ ‬على‭ ‬الزولين‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬الطعام‭ ‬وسألتهما‭ ‬عن‭ ‬طريقة‭ ‬تحويل‭ ‬النقود‭ ‬الى‭ ‬السودان،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬موظف‭ ‬سوداني‭ ‬في‭ ‬أرامكو‭ ‬مسافر‭ ‬الى‭ ‬الوطن‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬وسلمته‭ ‬ألفي‭ ‬ريال‭ ‬ليوصلها‭ ‬الى‭ ‬زوجتي‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬المبلغ‭ ‬يساوي‭ ‬وقتها‭ ‬نحو‭ ‬مائتي‭ ‬جنيه‭ ‬سوداني‭ ‬أي‭ ‬ان‭ ‬الجنيه‭ ‬كان‭ ‬يساوي‭ ‬عشرة‭ ‬ريالات‭ ‬سعودية‭.. ‬بينما‭ ‬الريال‭ ‬اليوم‭ ‬يساوي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬700‭ ‬جنيه‭. ‬إنه‭ ‬عزيز‭ ‬قوم‭ ‬ذُل‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا