زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لست متخلفا بل مختلفا
بدأ الأمر في ولاية أريزونا الأمريكية، حيث لبى آلاف الناس دعوات جهات طبية، ووقعوا على أوراق بقبول التبرع بجثامينهم بعد الموت لأغراض علمية، واتضح ان الأمر في معظمه من تدبير شركات بيع أعضاء البشر، وتم الكشف عن شركة تشتري جثث الموتى لتجري عليها تجارب المتفجرات التي تنتجها.
معلوم أن معظم البرامج التلفزيونية المثيرة للجدل في الفضائيات العربية، منقولة بالمسطرة من فضائيات غربية، والنوعية التي لم تصلنا بعد من تلك البرامج يتنافس المشاركون فيها في أكل الديدان أو التعري او ممارسة الجنس امام الكاميرات، وثمة برنامج امريكي يتعارك فيه المشاركون حول من هو والد الطفل إكس! ويجري فحص الحمض النووي للأب المزعوم ثم يقول مقدم البرنامج: يا فلان انت والد هذا الطفل، أو: أنت لست والده
كان من أبشع الصيحات التلفزيونية ما قام به الطبيب الالماني غونتر فون هاغينز على شاشة القناة الرابعة في بريطانيا في برنامج يحمل اسم «التشريح للمبتدئين»، حيث أتى بعدد من الجثث وشرع في تقطيعها، ولإضفاء طابع علمي على البرنامج، يشرح أثناء التقطيع وظيفة كل عضو في الجسم.. وطبعا ليس من حقنا ان نقول لهم ان ذلك انتهاك لحق من حقوق الانسان وأنه امتهان لكرامة الانسان التي يجب ان تصان في الحياة والممات، لأن تحديد تلك الحقوق ليس من شأننا! ولأننا في واقع الأمر لا نعرف من حقوق الانسان سوى حرية استهلاك الأوكسجين دون دفع ضرائب او جبايات.
على أيامنا في جامعة الخرطوم كان طلاب الطب يعاملون معاملة خاصة من حيث المسكن والمأكل، وكانت كلية الطب ولا تزال، بعيدة عن المبنى الرئيسي للجامعة، ولم تراودني الرغبة في الذهاب الى كلية الطب. لأنني كنت أعتقد ان كلية الطب «مسكونة» لعلمي ان مختبراتها تضم جثثا، وما كان ممكنا لي ان اتناول الطعام مع شخص قام بتقطيع جثمان شخص ميت. ومعلوم ان طلاب الطب يتعلمون أصول التشريح على جثث أشخاص «مقاطيع»، أي مقطوعين من «شجرة» وهم في غالب الأحوال ممن يموتون داخل السجون او في حوادث ولا يُعرف لهم أقارب. وذات مرة استدرجني بعض الزملاء للذهاب إلى المعرض السنوي لكلية الطب، ودخلت المعرض وكان أول ما وقعت عليه عيني طفل أو بالأحرى جنين شبه مكتمل النمو (مُخلل) في قارورة زجاجية ضخمة، فصرخت وأشحت بوجهي الى الناحية الثانية، وأنا أترنح واستندت إلى حافة طاولة، وفتحت عيني لتحديد منفذ الخروج، واكتشفت ان الطاولة التي كنت اتكئ عليها هي تابوت زجاجي يتمدد في داخله رجل ميت يسبح في سائل يمنع جسمه من التحلل، وصرت ارتعد إلى أن نقلوني خارجا. ولعدة أسابيع بعدها، عانيت من اضطرابات نفسية وعضوية، وعانيت من ان قولوني صار سريع الاشتعال، وينتفض ويصدر أصواتا مخجلة بلا أدنى حياء وتصبح بطني مثل البالون حتى وهي خالية من الطعام! ولجأت الى «بَعْشَر» وهو الاسم الذي كانت تحمله العيادة أقدم عيادة نفسية، تقديرا للدكتور طه بعشر أحد رواد الطب النفسي في السودان، وشكوت لهم من الكوابيس وانعدام الشهية، وأعطوني عقاقير ساعدتني على النوم ولكن الخوف من كلية الطب ما زال يلازمني، وأحلف بالله صادقا أنني لم «أُعتِب» تلك الكلية منذ ذلك اليوم المشؤوم، بل صرت تفادي لقاء زملائي في كلية الطب، لأنهم كانوا في نظري «متوحشين»، ودارت الايام وقرر أكبر أولادي دراسة العلوم الصحية في نيوزيلندا، وذكر عرضا ذات مرة انه جرح يده أثناء تشريح عضلات شخص ميت.. فأحسست بـ«القرف» منه!.. وتفاديت الأكل معه من نفس الصحن لعدة سنوات! وبالمقابل جلس الملايين امام شاشات القناة الرابعة البريطانية لـ«الاستمتاع» بمشاهدة تقطيع جسم ميت لغير أغراض العلم.. العبث بالجثث صار «ترفيها».. وهم «متحضرون» وابو الجعافر «متخلف»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك