زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وصار الاغتراب قسريا
يحز في نفسي كثيرا أنني عشت معظم سنوات عمري بعيدا عن وطني في سياق مسعى كسب الرزق، ويكاد يقتلني الحزن في ظل احتمال أنني لن أرى وطني مجددا لأن الحرب التي تفتك الآن بأهله وتدمر البيوت ومرافق الخدمة ستنجب في حال توقفها رسميا حروبا فرعية يطول أمدها ويطووووول.
أتذكر ذلك الشاب الأمريكي المقيم في دبي، والذي تلقى اتصالا هاتفيا من والده: تماسك يا ابني، فعندي لك كلام مزعج إلى حد ما، أنا وأمك قررنا الانفصال النهائي، فبعد «35» سنة من الزواج لم أعد أطيق مجرد النظر إليها، ولهذا.. قاطعه الابن: وات؟.. بلاش حماقات يا بابا وأعطني فرصة أكلم أختي في هونغ كونغ، ثم أعود وأتصل بك. وأبلغ صاحبنا أخته بقرار والديهما «الطلاق»، فما كان من البنت إلا أن اتصلت بوالدها على الفور وقالت له: هل صحيح ما سمعته من أخي؟ أجابها الأب بـ«نعم»، فصاحت: كفى تخريفا وقرارات طائشة، ولا تقدما على أي خطوة حمقاء. أنا وأخي سنكون معكما في نيويورك مساء الغد.. بس ولا كلمة يا بابا.. وأغلقت الخط الهاتفي. هنا التفت الأب الى شريكة حياته طوال 35 سنة مبتسما: أولاد الـ.... لم نرهم طوال 4 سنوات وهاهم في طريقهم إلينا غدا، وأجمل ما في المسألة أنهما سيشتريان تذاكر السفر بنفسيهما هذه المرة.
توقفت قبل سنوات قليلة عند برنامج في فضائية سودانية عن المغتربين، وبكيت مع رجل عجوز وزوجته خاطبا عبر هاتف البرنامج ولدهما الذي هاجر الى دولة عربية قبل عشرين سنة ولم يعد إليهما قط، وقد غادر الملايين السودان على مدى العقود الأربعة الماضية طلبا للقوت ولحياة أفضل، وفي أول سنوات الغربة تكون الطموحات متواضعة: بيت في حي شعبي أو حافلة، ولكن بصفة عامة فإن السودانيين وأنا منهم يعيشون في المهاجر بلا «خطة» معينة، نرى ونسمع عويل مغتربين عادوا إلى الوطن، ثم صاروا يشكون من الغربة داخل بلدهم، فتغيرت الطموحات والغايات: بيت في حي راق، وسيارة آخر موديل، أو زوجات جديدات من الوكالة (لا يهم أن العريس المغترب موديل 1950 ولا توجد لصنفه قطع غيار إذا احتاج إلى زرع قرنية أو نقل كلية)، ولكن معظم المغتربين السودانيين في أيامنا هذه يبقون في المهاجر بسبب مغريات مثل التعليم أو العلاج المجاني.
ثم صارت الوظائف شحيحة وتدنت المداخيل والرواتب أمام غول الغلاء، وضاع الكثيرون في أدغال المهاجر، ومشكلة صاحبنا الذي لم يعد إلى أهله منذ عشرين عاما تكمن في ظني في أنه لم ينجح في تحقيق أي من أحلامه، ولا يجد، من ثم، الشجاعة للعودة الى الوطن حتى في إجازة قصيرة ويداه خاويتان. وهناك المغترب الرِّخم (عديم الهِمّة) الذي قد يبقى 3 أو 6 سنوات متصلة بلا عمل، إما لأنه لا يملك أصلا مقومات دخول المنافسة في سوق العمل، وإما لأنه يتعلل بأنه لم يجد وظيفة «في مجالي»، والنوع الرخم هذا لا ينظر الى الأمور بمنطق «بهدلة على بهدلة أحسن اتبهدل في بلدي». ولا يجد شجاعة شاعرنا محمد المكي ابراهيم في المجاهرة (في شبابه) بعد فترة من الاغتراب اللامجدي في أوروبا: سأعود لا إبلاً وسقت / ولا بكفي الحصيد روائعا / مدوا بساط الحب واغتفروا الذنوب / وباركوا تلك السنين الضائعة / مازال سقف أبي يظل / ولم تزل أحضان أمي رحبة المثوى مطيبة الجناب.
على مدى سنوات واجهت السؤال: أنت مغترب منذ أكثر من «30» سنة فمتى تشبع وتعود؟ عدت «نهائيا»، أكثر من مرة ولكنني كما العديد من العائدين واجهت المواقف التي تحدث عنها شاعرنا: تعبس في وجوههم مآذن الله / ومهرجان الكذب المثقل بالنيون / تصيح أبواب البنوك: ارجعوا إلى الوراء/ تصيح أبواب الحوانيت: إلى الوراء/ وتركل العمارات البديعة الرواء/ ضلوع أحبابي المشردين.. وإذ أسير دون أصدقاء/ تخرج لي لسانها الطوابق العليا ويرقص البناء.. كيدا وسخرية.
أقسى شيء على النفس أن تحس بأنك غريب في وطنك، والفقر في الوطن غربة وستر الحال في الغربة وطن.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك