زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
فرنسا من سنام الذاكرة (2)
كالتاجر الذي أفلس صار يقلب دفاتره القديمة لاستعادة أمجاده وعزِّه الغابر أغوص في سنام الذاكرة مستحضرا زيارتي لفرنسا مع عائلتي، وتوقفت أمس الأول عند الوصول الى مدينة ديزني في باريس، حيث اكتشفت أن الفندق الذي حجزته مقدما عن طريق وكالة سفر لا يصلح حتى كحظيرة للدجاج، فوقفت في بهو الاستقبال/ الاستهبال، وشتمت وردحت بالعربي والإنجليزي ولغتي الأم (النوبية)، والقوم من حولي لا يفهمون لماذا «الخال» ثائر، ولكن هبت بنتي التي تعرف الفرنسية الى حد ما لنجدتي وقالت لهم إنني أرفض البقاء في فندق يشبه معتقل أوشفيتز الذي خصصه النازيون في ألمانيا لليهود، وفجأة علت الابتسامات البلاستيكية التي يدربون عليها المضيفات وموظفي الفنادق والمطاعم وجوه موظفي ذلك الفندق، ورطنوا مع بنتي بعض الوقت ثم أتوا بسيارة ونقلونا الى فندق ابن ناس. وعجبت للسهولة التي استجابوا بها لاحتجاجاتي.. ربما حسبوا أنني يهودي أسود، وأفضل طريقة لابتزاز الأوربيين هي أن تتهمهم بمعاداة اليهود! وربما حسبوا أنني من أكلة لحوم البشر، وخاصة أن أسناني تشبه أسنان فرس النهر.
وقضينا عدة أيام في مدينة ديزني وكان أكثر ما لفت نظري هو ان آلاف الأوروبيات من حولي كن في غاية الاحتشام حتى بمقاييسنا. المهم انني استمتعت باللعب بكل ما هو متاح ما عدا ذلك القطار المرعب الذي ينطلق بالمقلوب في كل الاتجاهات بسرعة صاروخية roller coaster وكان لابد من جولات في باريس، وتوجهت الى مكتب سياحة على أمل أن أجد فيه من يتكلم الانجليزية لاستعلم عن سبل الانتقال الى وداخل باريس. كانت هناك فتاة حسناء يبدو أنها فهمت مرادي، لكنها بدأت تكلمني بالفرنسية التي لا أعرف منها سوى بونجور (صباح الخير) وميرسي (شكرا) والأعداد من واحد الى أربعة. وخلال لحظات تأكد لي أن ما يروجه البعض من ان الفرنسيات (منحرفات) و (فاجرات) صحيح، فقد بدأت الفتاة تردد كلمة بوس مصحوبة بكلمة «تروا» التي تعني «ثلاثة» ثم تبرطم وتقول: بوس ست (سبعة)! كدت أن أقول لها: عيب يا قليلة الحياء ان تبيعي لي معلومات نظير التحرش بي (وزوجتي على مقربة مني)، بمطالبتي بسبع بوسات؟ واستنجدت ببنتي التي تتكلم الفرنسية وقلت لها تعالي انظري في أمر هذه الفتاة التي تريد ان تعتدي على شرف أبيك.. فرطنت بنتي معها ثم قالت لي: شرفك في الحفظ والصون.. بوس تروا وست هما البص رقم 3 و7 على التوالي! بوس يعني بص.. حافلة.. وأحسست بالضآلة وصحت: الله يسامحني على سوء الظن بالفتاة وحسن الظن بنفسي. فعلا من تعلم لغة قوم أمِن شرهم.. وشر خياله المريض! وكانت هناك مرآة خلف الفتاة التي كانت تحدثني عن البوس الذي ينبغي ان استخدمه للانتقال الى وداخل باريس ورأيت صورتي فيها وقلت في سري: ما الذي يغري فتاة فرنسية او بوركينا فاسوية لتحدثك في أمر البوس بالمعنى الذي فهمته يا إفريقي يا متخلف؟
وتجولت في باريس وأحسست بأن مدننا «بروس» كما نقول في السودان، أي عشوائية، لا شيء فيها من رائحة التاريخ وعبق الماضي وأريج المستقبل. وتحسرت على الكنوز التاريخية المبعثرة في العراء في شمال السودان النوبي. ثروة كانت ستعود علينا بمئات الملايين سنويا لو كانت لدينا طرق وفنادق ومطارات، أو لو أدركنا ان السودان ليس الخرطوم التي تشبه جحر البعشوم. الذي هو الثعلب، وعلي بالطلاق لدينا مناطق في شمال السودان تتفوق على الريف الفرنسي والإنجليزي جمالا وبهاءً، ولكن لأن الله ابتلانا بحكومات تكره كل ما هو جميل، فإن تلك المناطق مرشحة للغرق تحت مياه الخزانات التي لم نجد لها موقعا غير المواقع التاريخية والزراعية الخصبة!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك