العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

فرنسا من سنام الذاكرة (2)

كالتاجر‭ ‬الذي‭ ‬أفلس‭ ‬صار‭ ‬يقلب‭ ‬دفاتره‭ ‬القديمة‭ ‬لاستعادة‭ ‬أمجاده‭ ‬وعزِّه‭ ‬الغابر‭ ‬أغوص‭ ‬في‭ ‬سنام‭ ‬الذاكرة‭ ‬مستحضرا‭ ‬زيارتي‭ ‬لفرنسا‭ ‬مع‭ ‬عائلتي،‭ ‬وتوقفت‭ ‬أمس‭ ‬الأول‭ ‬عند‭ ‬الوصول‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬حيث‭ ‬اكتشفت‭ ‬أن‭ ‬الفندق‭ ‬الذي‭ ‬حجزته‭ ‬مقدما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬وكالة‭ ‬سفر‭ ‬لا‭ ‬يصلح‭ ‬حتى‭ ‬كحظيرة‭ ‬للدجاج،‭ ‬فوقفت‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬الاستقبال‭/ ‬الاستهبال،‭ ‬وشتمت‭ ‬وردحت‭ ‬بالعربي‭ ‬والإنجليزي‭ ‬ولغتي‭ ‬الأم‭ (‬النوبية‭)‬،‭ ‬والقوم‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬لا‭ ‬يفهمون‭ ‬لماذا‭ ‬‮«‬الخال‮»‬‭ ‬ثائر،‭ ‬ولكن‭ ‬هبت‭ ‬بنتي‭ ‬التي‭ ‬تعرف‭ ‬الفرنسية‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬لنجدتي‭ ‬وقالت‭ ‬لهم‭ ‬إنني‭ ‬أرفض‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬فندق‭ ‬يشبه‭ ‬معتقل‭ ‬أوشفيتز‭ ‬الذي‭ ‬خصصه‭ ‬النازيون‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬لليهود،‭ ‬وفجأة‭ ‬علت‭ ‬الابتسامات‭ ‬البلاستيكية‭ ‬التي‭ ‬يدربون‭ ‬عليها‭ ‬المضيفات‭ ‬وموظفي‭ ‬الفنادق‭ ‬والمطاعم‭ ‬وجوه‭ ‬موظفي‭ ‬ذلك‭ ‬الفندق،‭ ‬ورطنوا‭ ‬مع‭ ‬بنتي‭ ‬بعض‭ ‬الوقت‭ ‬ثم‭ ‬أتوا‭ ‬بسيارة‭ ‬ونقلونا‭ ‬الى‭ ‬فندق‭ ‬ابن‭ ‬ناس‭. ‬وعجبت‭ ‬للسهولة‭ ‬التي‭ ‬استجابوا‭ ‬بها‭ ‬لاحتجاجاتي‭.. ‬ربما‭ ‬حسبوا‭ ‬أنني‭ ‬يهودي‭ ‬أسود،‭ ‬وأفضل‭ ‬طريقة‭ ‬لابتزاز‭ ‬الأوربيين‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬تتهمهم‭ ‬بمعاداة‭ ‬اليهود‭! ‬وربما‭ ‬حسبوا‭ ‬أنني‭ ‬من‭ ‬أكلة‭ ‬لحوم‭ ‬البشر،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬أسناني‭ ‬تشبه‭ ‬أسنان‭ ‬فرس‭ ‬النهر‭. ‬

وقضينا‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني‭ ‬وكان‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬نظري‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬آلاف‭ ‬الأوروبيات‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬كن‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الاحتشام‭ ‬حتى‭ ‬بمقاييسنا‭. ‬المهم‭ ‬انني‭ ‬استمتعت‭ ‬باللعب‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬متاح‭ ‬ما‭ ‬عدا‭ ‬ذلك‭ ‬القطار‭ ‬المرعب‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬بالمقلوب‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬بسرعة‭ ‬صاروخية‭ ‬roller‭ ‬coaster‭ ‬وكان‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬جولات‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬وتوجهت‭ ‬الى‭ ‬مكتب‭ ‬سياحة‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬يتكلم‭ ‬الانجليزية‭ ‬لاستعلم‭ ‬عن‭ ‬سبل‭ ‬الانتقال‭ ‬الى‭ ‬وداخل‭ ‬باريس‭. ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬فتاة‭ ‬حسناء‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬فهمت‭ ‬مرادي،‭ ‬لكنها‭ ‬بدأت‭ ‬تكلمني‭ ‬بالفرنسية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬منها‭ ‬سوى‭ ‬بونجور‭ (‬صباح‭ ‬الخير‭) ‬وميرسي‭ (‬شكرا‭) ‬والأعداد‭ ‬من‭ ‬واحد‭ ‬الى‭ ‬أربعة‭. ‬وخلال‭ ‬لحظات‭ ‬تأكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يروجه‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬الفرنسيات‭ (‬منحرفات‭) ‬و‭ (‬فاجرات‭) ‬صحيح،‭ ‬فقد‭ ‬بدأت‭ ‬الفتاة‭ ‬تردد‭ ‬كلمة‭ ‬بوس‭ ‬مصحوبة‭ ‬بكلمة‭ ‬‮«‬تروا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬ثلاثة‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬تبرطم‭ ‬وتقول‭: ‬بوس‭ ‬ست‭ (‬سبعة‭)! ‬كدت‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬لها‭: ‬عيب‭ ‬يا‭ ‬قليلة‭ ‬الحياء‭ ‬ان‭ ‬تبيعي‭ ‬لي‭ ‬معلومات‭ ‬نظير‭ ‬التحرش‭ ‬بي‭ (‬وزوجتي‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬مني‭)‬،‭ ‬بمطالبتي‭ ‬بسبع‭ ‬بوسات؟‭ ‬واستنجدت‭ ‬ببنتي‭ ‬التي‭ ‬تتكلم‭ ‬الفرنسية‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬تعالي‭ ‬انظري‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬هذه‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬ان‭ ‬تعتدي‭ ‬على‭ ‬شرف‭ ‬أبيك‭.. ‬فرطنت‭ ‬بنتي‭ ‬معها‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭ ‬لي‭: ‬شرفك‭ ‬في‭ ‬الحفظ‭ ‬والصون‭.. ‬بوس‭ ‬تروا‭ ‬وست‭ ‬هما‭ ‬البص‭ ‬رقم‭ ‬3‭ ‬و7‭ ‬على‭ ‬التوالي‭! ‬بوس‭ ‬يعني‭ ‬بص‭.. ‬حافلة‭.. ‬وأحسست‭ ‬بالضآلة‭ ‬وصحت‭: ‬الله‭ ‬يسامحني‭ ‬على‭ ‬سوء‭ ‬الظن‭ ‬بالفتاة‭ ‬وحسن‭ ‬الظن‭ ‬بنفسي‭. ‬فعلا‭ ‬من‭ ‬تعلم‭ ‬لغة‭ ‬قوم‭ ‬أمِن‭ ‬شرهم‭.. ‬وشر‭ ‬خياله‭ ‬المريض‭! ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬مرآة‭ ‬خلف‭ ‬الفتاة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحدثني‭ ‬عن‭ ‬البوس‭ ‬الذي‭ ‬ينبغي‭ ‬ان‭ ‬استخدمه‭ ‬للانتقال‭ ‬الى‭ ‬وداخل‭ ‬باريس‭ ‬ورأيت‭ ‬صورتي‭ ‬فيها‭ ‬وقلت‭ ‬في‭ ‬سري‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يغري‭ ‬فتاة‭ ‬فرنسية‭ ‬او‭ ‬بوركينا‭ ‬فاسوية‭ ‬لتحدثك‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬البوس‭ ‬بالمعنى‭ ‬الذي‭ ‬فهمته‭ ‬يا‭ ‬إفريقي‭ ‬يا‭ ‬متخلف؟

وتجولت‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وأحسست‭ ‬بأن‭ ‬مدننا‭ ‬‮«‬بروس‮»‬‭ ‬كما‭ ‬نقول‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬أي‭ ‬عشوائية،‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬التاريخ‭ ‬وعبق‭ ‬الماضي‭ ‬وأريج‭ ‬المستقبل‭. ‬وتحسرت‭ ‬على‭ ‬الكنوز‭ ‬التاريخية‭ ‬المبعثرة‭ ‬في‭ ‬العراء‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭. ‬ثروة‭ ‬كانت‭ ‬ستعود‭ ‬علينا‭ ‬بمئات‭ ‬الملايين‭ ‬سنويا‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬لدينا‭ ‬طرق‭ ‬وفنادق‭ ‬ومطارات،‭ ‬أو‭ ‬لو‭ ‬أدركنا‭ ‬ان‭ ‬السودان‭ ‬ليس‭ ‬الخرطوم‭ ‬التي‭ ‬تشبه‭ ‬جحر‭ ‬البعشوم‭. ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬الثعلب،‭ ‬وعلي‭ ‬بالطلاق‭ ‬لدينا‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬تتفوق‭ ‬على‭ ‬الريف‭ ‬الفرنسي‭ ‬والإنجليزي‭ ‬جمالا‭ ‬وبهاءً،‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬ابتلانا‭ ‬بحكومات‭ ‬تكره‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬جميل،‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬المناطق‭ ‬مرشحة‭ ‬للغرق‭ ‬تحت‭ ‬مياه‭ ‬الخزانات‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬لها‭ ‬موقعا‭ ‬غير‭ ‬المواقع‭ ‬التاريخية‭ ‬والزراعية‭ ‬الخصبة‭! ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا