العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

فرنسا من سنام الذاكرة (1)

بحمد‭ ‬الله‭ ‬لن‭ ‬أسافر‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬وجهة‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬هذه‭ ‬السنة،‭ ‬بل‭ ‬لم‭ ‬أغادر‭ ‬بيتي‭ ‬إلا‭ ‬مرتين‭ ‬خلال‭ ‬الأعوام‭ ‬الأربعة‭ ‬الماضية‭ ‬إلا‭ ‬مرتين‭: ‬لأداء‭ ‬العمرة‭ ‬ولزيارة‭ ‬أحفادي‭ ‬وولدي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬السعودية‭ ‬الرياض،‭ ‬ولكن‭ ‬جُرابي‭ ‬مليء‭ ‬بذكريات‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬زرتها،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬فرنسا،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬الزيارة‭ ‬بغرض‭ ‬السياحة،‭ ‬بل‭ ‬هناك‭ ‬ضرورات‭ ‬أملت‭ ‬تلك‭ ‬الزيارة،‭ ‬ولا‭ ‬تجعل‭ ‬خيالك‭ ‬يودي‭ ‬ويجيب،‭ (‬ففرنسا‭ ‬في‭ ‬عقول‭ ‬من‭ ‬لم‭ ‬يزوروها‭ ‬هي‭ ‬بلد‭ ‬النساء‭ ‬الكاسيات‭ ‬العاريات‭ ‬الملظلظات،‭ ‬وقد‭ ‬غذى‭ ‬كذابون‭ ‬تلك‭ ‬الصورة‭ ‬بأن‭ ‬زعموا‭ ‬بأنهن‭ ‬يقفن‭ ‬في‭ ‬ناصية‭ ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬إشارة‭ ‬من‭ ‬فحل‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬إفريقيا‭ ‬أو‭ ‬عربستان،‭ ‬وباختصار‭ ‬أقول‭ ‬لك‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬إشاعة‮»‬‭). ‬ولنفي‭ ‬الشبهات‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬نهائيا‭ ‬أقول‭ ‬إن‭ ‬أم‭ ‬الجعافر‭ ‬وعيالنا‭ ‬كانوا‭ ‬معي‭. ‬

نزلنا‭ ‬مطار‭ ‬شارل‭ ‬ديغول‭ ‬في‭ ‬باريس‭ ‬وحسبت‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬الفاشر‭ ‬في‭ ‬دارفور‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬بقعة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬وأذكر‭ ‬كيف‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬كنت‭ ‬مكلفا‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬التلفزيون‭ ‬السوداني‭ ‬بمهمة‭ ‬إعداد‭ ‬دراسة‭ ‬لإنشاء‭ ‬محطة‭ ‬تلفزيونية‭ ‬في‭ ‬دارفور،‭ ‬ولما‭ ‬نزلت‭ ‬الطائرة‭ ‬مطار‭ ‬الفاشر‭ ‬قررت‭ ‬العودة‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬مهمتي‭ ‬سيرا‭ ‬على‭ ‬الأقدام،‭ ‬أو‭ ‬ضاربا‭ ‬أكباد‭ ‬الإبل،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬المدرج‭ ‬ترابيا،‭ ‬ولكن‭ ‬بعض‭ ‬الموظفين‭ ‬والضباط‭ ‬الموجودين‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬شجعوني‭ ‬على‭ ‬العودة‭ ‬بالطائرة‭ ‬قائلين‭ ‬انهم‭ ‬فعلوا‭ ‬ذلك‭ ‬عشرات‭ ‬المرات،‭ ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬العودة‭ ‬ذهبت‭ ‬الى‭ ‬المطار،‭ ‬ورأيت‭ ‬طائرة‭ ‬تعانق‭ ‬شجرة،‭ ‬فسألت‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الحاصل‮»‬،‭ ‬فقالوا‭ ‬لي‭ ‬إنها‭ ‬الطائرة‭ ‬المتجهة‭ ‬الى‭ ‬الخرطوم،‭ ‬وأن‭ ‬سائقها‭ ‬قرر‭ ‬تجريب‭ ‬متانة‭ ‬المدرج‭ ‬لأن‭ ‬أمطارا‭ ‬قوية‭ ‬هطلت‭ ‬في‭ ‬فجر‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬فانطلق‭ ‬بالطائرة‭ ‬الخالية‭ ‬من‭ ‬الركاب،‭ ‬فإذا‭ ‬بها‭ ‬تنزلق‭ ‬وتصطدم‭ ‬بالأشجار‭ ‬وتهشمها‭ ‬الى‭ ‬ان‭ ‬تمكنت‭ ‬شجرة‭ ‬عجوز‭ ‬ذات‭ ‬خبرة‭ ‬من‭ ‬توقيفها‭ ‬عند‭ ‬حدودها‭.‬

المهم‭: ‬كان‭ ‬مطار‭ ‬ديغول‭ ‬الباريسي‭ ‬بائسا‭ ‬حتى‭ ‬بالمقاييس‭ ‬الإفريقية،‭ ‬وكنت‭ ‬منذ‭ ‬ان‭ ‬تقرر‭ ‬سفرنا‭ ‬الى‭ ‬فرنسا‭ ‬قد‭ ‬قررت‭ ‬تحويل‭ ‬الضرورات‭ ‬التي‭ ‬حتمت‭ ‬السفر‭ ‬إليها‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬كماليات‮»‬،‭ ‬وتحويل‭ ‬الكماليات‭ ‬الى‭ ‬ضرورات،‭ ‬والكماليات‭ ‬التي‭ ‬أعنيها‭ ‬هي‭ ‬زيارة‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني‭ ‬للألعاب‭ ‬في‭ ‬باريس،‭ ‬فقد‭ ‬ظللت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬طوال‭ ‬أهذي‭ ‬بزيارة‭ ‬تلك‭ ‬المدينة،‭ ‬بل‭ ‬وناشدت‭ ‬فاعلي‭ ‬الخير‭ ‬وذوي‭ ‬القلوب‭ ‬الرحيمة‭ ‬عبر‭ ‬الصحف‭ ‬أن‭ ‬يتبرعوا‭ ‬لإنسان‭ ‬لم‭ ‬يمارس‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬في‭ ‬طفولته‭ ‬غير‭ ‬الغوص‭ ‬في‭ ‬الطين‭ ‬وأكل‭ ‬بعضه،‭ ‬بمبلغ‭ ‬يسمح‭ ‬له‭ ‬بالسفر‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني،‭ ‬ولكن‭ ‬أهل‭ ‬الخليج‭ ‬أثبتوا‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬فيهم‭ ‬خير‮»‬‭ ‬بدليل‭ ‬أنهم‭ ‬تجاهلوا‭ ‬مناشداتي‭.‬

المهم‭ ‬توجهت‭ ‬من‭ ‬المطار‭ ‬رأسا‭ ‬الى‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني،‭ ‬وكنت‭ ‬قد‭ ‬حجزت‭ ‬فندقا‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬وكالة‭ ‬سفر،‭ ‬وعند‭ ‬وصولي‭ ‬الى‭ ‬الفندق‭ ‬اكتشفت‭ ‬انه‭ ‬‮«‬وكالة‮»‬‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬العربي‭ ‬بالخرطوم‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الزبون‭ ‬يستأجر‭ ‬سريرا‭ ‬متهالكا،‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬موزعين‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬واسع‭. ‬ورفعت‭ ‬صوتي‭ ‬بالاحتجاج‭.. ‬ولكن‭ ‬موظفي‭ ‬الاستقبال‭ ‬وقفوا‭ ‬ينظرون‭ ‬ببلاهة‭ ‬الى‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬الأسود‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬عليه‭ ‬الغضب‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يدركوا‭ ‬سبب‭ ‬غضبه‭! ‬فصحت‭ ‬مجددا‭: ‬الله‭ ‬يسامحك‭ ‬يا‭ ‬مكي‭ ‬شبيكة‭.‬

‭ ‬كان‭ ‬البروفسور‭ ‬شبيكة‭ ‬عميدا‭ ‬لكلية‭ ‬الآداب‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الحقوق‭ (‬القانون‭) ‬ولما‭ ‬أعربت‭ ‬عن‭ ‬رغبتي‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬اللغة‭ ‬الفرنسية‭ ‬أخبرني‭ ‬بحزم‭ ‬انه‭ ‬تم‭ ‬استيعاب‭ ‬العدد‭ ‬المطلوب‭ ‬في‭ ‬شعبة‭ ‬الفرنسية‭: ‬يا‭ ‬أستاذ‭ ‬غيِّر‭ ‬بَدِّل‭! ‬ولكن‭ ‬بلا‭ ‬طائل‭ ‬ولم‭ ‬أجد‭ ‬سوى‭ ‬مادة‭ ‬الجغرافيا‭ ‬لأكمل‭ ‬بها‭ ‬متطلبات‭ ‬القيد‭ ‬الأكاديمي‭. ‬ورغم‭ ‬حبي‭ ‬الشديد‭ ‬للجغرافيا‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬ميالا‭ ‬الى‭ ‬دراستها‭ ‬ولو‭ ‬مؤقتا‭ ‬ومرحليا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رأيت‭ ‬طلابا‭ ‬يدرسونها‭ ‬يحملون‭ ‬جداول‭ ‬اللوغريثمات‭! ‬ماذا‭ ‬بإمكان‭ ‬طالب‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬الحساب‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬جدول‭ ‬عشرة‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬بتلك‭ ‬الجداول‭ ‬السخيفة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬يتعامل‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬التهاب‭ ‬الجيوب‭ ‬الأنفية‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬من‭ ‬جيوب‭ ‬تسبب‭ ‬الحساسية‭: ‬جيب‭ ‬الظل‭ ‬وجيب‭ ‬التمام‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تسميات‭ ‬تسبب‭ ‬الزكام‭ ‬والانفصام؟

وغدا‭ ‬بحول‭ ‬الله‭ ‬أواصل‭ ‬استعادة‭ ‬تجربتي‭ ‬المريرة‭ ‬مع‭ ‬الفرنسيين‭ ‬ولغتهم‭ ‬السخيفة،‭ ‬وتجربتي‭ ‬الحلوة‭ ‬في‭ ‬اللعب‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ديزني‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا