زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
فرنسا من سنام الذاكرة (1)
بحمد الله لن أسافر إلى أي وجهة في صيف هذه السنة، بل لم أغادر بيتي إلا مرتين خلال الأعوام الأربعة الماضية إلا مرتين: لأداء العمرة ولزيارة أحفادي وولدي في العاصمة السعودية الرياض، ولكن جُرابي مليء بذكريات العديد من الدول التي زرتها، ومن بينها فرنسا، ولم تكن الزيارة بغرض السياحة، بل هناك ضرورات أملت تلك الزيارة، ولا تجعل خيالك يودي ويجيب، (ففرنسا في عقول من لم يزوروها هي بلد النساء الكاسيات العاريات الملظلظات، وقد غذى كذابون تلك الصورة بأن زعموا بأنهن يقفن في ناصية هذا الشارع أو ذاك في انتظار إشارة من فحل قادم من إفريقيا أو عربستان، وباختصار أقول لك إن كل ذلك «إشاعة»). ولنفي الشبهات عن نفسي نهائيا أقول إن أم الجعافر وعيالنا كانوا معي.
نزلنا مطار شارل ديغول في باريس وحسبت أننا في مطار الفاشر في دارفور التي صارت أشهر من أي بقعة في السودان، وأذكر كيف أنني في ذات عام كنت مكلفا من إدارة التلفزيون السوداني بمهمة إعداد دراسة لإنشاء محطة تلفزيونية في دارفور، ولما نزلت الطائرة مطار الفاشر قررت العودة الى الخرطوم بعد نهاية مهمتي سيرا على الأقدام، أو ضاربا أكباد الإبل، فقد كان المدرج ترابيا، ولكن بعض الموظفين والضباط الموجودين في المدينة شجعوني على العودة بالطائرة قائلين انهم فعلوا ذلك عشرات المرات، وفي يوم العودة ذهبت الى المطار، ورأيت طائرة تعانق شجرة، فسألت عن «الحاصل»، فقالوا لي إنها الطائرة المتجهة الى الخرطوم، وأن سائقها قرر تجريب متانة المدرج لأن أمطارا قوية هطلت في فجر ذلك اليوم، فانطلق بالطائرة الخالية من الركاب، فإذا بها تنزلق وتصطدم بالأشجار وتهشمها الى ان تمكنت شجرة عجوز ذات خبرة من توقيفها عند حدودها.
المهم: كان مطار ديغول الباريسي بائسا حتى بالمقاييس الإفريقية، وكنت منذ ان تقرر سفرنا الى فرنسا قد قررت تحويل الضرورات التي حتمت السفر إليها إلى «كماليات»، وتحويل الكماليات الى ضرورات، والكماليات التي أعنيها هي زيارة مدينة ديزني للألعاب في باريس، فقد ظللت على مدى سنوات طوال أهذي بزيارة تلك المدينة، بل وناشدت فاعلي الخير وذوي القلوب الرحيمة عبر الصحف أن يتبرعوا لإنسان لم يمارس من اللعب في طفولته غير الغوص في الطين وأكل بعضه، بمبلغ يسمح له بالسفر الى مدينة ديزني، ولكن أهل الخليج أثبتوا أنه «ما فيهم خير» بدليل أنهم تجاهلوا مناشداتي.
المهم توجهت من المطار رأسا الى مدينة ديزني، وكنت قد حجزت فندقا فيها من خلال وكالة سفر، وعند وصولي الى الفندق اكتشفت انه «وكالة» مثل تلك التي كانت منتشرة في السوق العربي بالخرطوم حيث كان الزبون يستأجر سريرا متهالكا، من بين نحو خمسين موزعين في فناء واسع. ورفعت صوتي بالاحتجاج.. ولكن موظفي الاستقبال وقفوا ينظرون ببلاهة الى ذلك الشخص الأسود الذي يبدو عليه الغضب دون ان يدركوا سبب غضبه! فصحت مجددا: الله يسامحك يا مكي شبيكة.
كان البروفسور شبيكة عميدا لكلية الآداب التي انتقلت إليها من كلية الحقوق (القانون) ولما أعربت عن رغبتي في دراسة اللغة الفرنسية أخبرني بحزم انه تم استيعاب العدد المطلوب في شعبة الفرنسية: يا أستاذ غيِّر بَدِّل! ولكن بلا طائل ولم أجد سوى مادة الجغرافيا لأكمل بها متطلبات القيد الأكاديمي. ورغم حبي الشديد للجغرافيا إلا أنني لم أكن ميالا الى دراستها ولو مؤقتا ومرحليا في الجامعة بعد أن رأيت طلابا يدرسونها يحملون جداول اللوغريثمات! ماذا بإمكان طالب لا يعرف من الحساب سوى «جدول عشرة» أن يفعل بتلك الجداول السخيفة التي يعاني من يتعامل بها من التهاب الجيوب الأنفية بسبب ما فيها من جيوب تسبب الحساسية: جيب الظل وجيب التمام وما إلى ذلك من تسميات تسبب الزكام والانفصام؟
وغدا بحول الله أواصل استعادة تجربتي المريرة مع الفرنسيين ولغتهم السخيفة، وتجربتي الحلوة في اللعب في مدينة ديزني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك