زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
مهم أم موهوم؟
أضيق كثيرا بالمكالمات الهاتفية الطويلة، ومن ثم فإنني لا أستخدم الهاتف إلا للضرورة القصوى، وليس مردّ ذلك الحرص على توفير المال، فقد كنت كذلك حتى عندما كنت أعمل في شركة الاتصالات القطرية وتحظى مكالماتي الهاتفية بـ«المجانية»، ولكن مرده أنني أرى أن الهاتف اصبح أداة لزعزعة روابط الرحم والدم والصداقة والجيرة باللجوء الى النفاق اللاسلكي: كيف أحوالك.. شهرين ما شفناك.. حبينا نطمئن عليك!! لو كنت فعلا معنيا بأمري لضحيت بالحلقة التاسعة من المسلسل التركي الركيك، أو بالشوط الثاني من مباراة بين «نادي بهدلونا» الإسباني، وماكرينا الإيطالي، وزرتني في بيتي أو دعوتني الى كوب شاي في بيتك. ثم جاء واتساب وأعفانا من حرج التواصل المنتظم، فلأنه خدمة مجانية فإن كثيرين يرسلون يوميا نصين او ثلاثة من فئة «صباح/ مساء الفل» الى من يهمهم الأمر، فصار معظمنا يرى في تلك الرسائل المنتظمة من الأحباب ما يطفئ ظمأ الشوق إليهم.
وكل هذا كوم وأن تعطيني رقم هاتفك ثم لا ترد على مكالماتي كوم آخر، فهناك من يحسب ان الردّ الفوري على المكالمات لا يليق بالشخصية «المهمة»، ولهذا يتجاهلون ما يرد اليهم من مكالمات خاصة، إذا كان ذلك في وجود آخرين، حتى يعرفوا أنه لا يرد على كل من «هب ودب»، ومثل هذا الشخص الموهوم بـ«الأهمية» يسعد كثيرا بوصول مكالمة من شخص يراه هو أكثر أهمية فيسارع إلى الرد على المكالمة ليدرك الحضور أنه «واصل»، وبعد طرح خدمة البريد المسجل الصوتي في الهواتف الثابتة والجوالة، أصبح من الوجاهة ان يحول الناس هواتفهم الى البريد الصوتي لإعطاء الانطباع بأن صاحب الهاتف «مُهم» ومش فاضي وكثير المشغوليات! حسنا اعترفنا بأنك شخص مهم ولا ترد على كل المكالمات، ولكن رجاء لا تعطني رقم هاتفك مجددا لأنني سأشطبه من ذاكرة هاتفي الجوال ومفكرتي (عندي مفكرات صغيرة فيها أرقام أشخاص منذ نهاية الحرب العالمية الأولى).
وكثيرا ما عانيت خلال اتصالات أجريتها بعدد من الأصدقاء، لأنه أصبحوا بين سحور وفطور من كبار الشخصيات: هذا الهاتف محول الى البريد الصوتي يرجى إدخال رقم البتاع، او ترك رسالتك، طبعا لا يمكن ان اترك رسالة لأنني لا أحب أن أتحدث مع جماد، وقبل بضع سنوات كان لي زميل في المكتب لاحظت انه يقوم بتغيير صوته عند الرد على المكالمات ويقول عن نفسه إنه غير موجود، وكان صاحبنا يملك عملا خاصا في مجال بائس، وكان يقول إنه لا يليق برجل الأعمال ان يعطي الانطباع بأنه موجود دائما، وبالطبع فقد فشل في العمل التجاري وأصبح متخصصا في ذمّ التجار. (بصراحة عندي عقدة قديمة مع المكالمات المسجلة نشأت عندما ذهبت الى لندن أول مرة وأجريت اتصالا هاتفيا وظل صوت نسائي يقاطعني بانتظام، فشتمتها في محاولة لإسكاتها وفشلت.. وفهمت لاحقا أنني كنت أتشاجر مع شريط تسجيلي).
وللأهمية أشكال أخرى، فقبل عدة سنوات استفز هدوئي في قيادة السيارة شاب، اعترض طريق سيارتي وأرغمني على الوقوف، ثم نزل من سيارته وتهكم على طراز وشكل سيارتي وكانت سيارته جديدة تلمع، بينما كانت سيارتي في نظري من طراز «بوينغ»، وقال: لا تعطل حركة المرور بسيارتك اللي جبتها من الحراج (سوق المواد المستعملة) فقلت له: أتحداك أن يخرج كلانا أوراق ملكية سيارتينا وإذا لم يتضح ان سيارتك مرهونة بنسبة 85% فسأحول سيارتي الى بيت دجاج، ولأنني أفحمته فقد لجأ الى الحيلة القديمة: يظهر انك ما عرفتني، التي تقال للإيحاء بأن المتكلم شخص مهم، فقلت له لو كنت مهما فعلا لما احتجت الى إبلاغ الناس بأهميتك، وهنا طلب مني ان ألقي نظرة على رقم لوحة سيارته فسألته: كم دفعت فيه؟ فأعجبه السؤال وقال انه دفع فيه مبلغا من خمس خانات فقلت له: لو كنت مهمّا فعلا لجاءك الرقم المميز من دون ان تدفع فيه فلسا، وأنت على أي حال تستمد أهميتك من طراز ورقم السيارة، وعليه فإن مجادلتك عبث لا يليق بشخص «مهم» مثلي. كاد المسكين ان يموت من الغيظ، ولكنه انهزم كما مرسي ابن المعلم زناتي! كم هو ممتع أن تمسح الأرض بغرٍّ مغرور.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك