زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عشقت التدريس ولكن
دخلت الحياة العملية معلما في المرحلة الثانوية ثم انتقلت إلى حقل الترجمة ومنها إلى الصحافة الورقية ثم الإعلام المرئي، وكتبت في مقالاتي هنا عديد المرات، أنه رغم أنني لم أندم قط على هجري لمهنة التدريس، إلا أنني لن أنسى قط، أن سنواتي في تلك المهنة اعطتني ما لم تستطع اي مهنة أخرى ان تمنحني إياه: الرضا عن النفس والضمير المستريح، فالتدريس مهنة يصعب فيها خيانة «الأمانة»، فأمامك طلاب يحبونك ويثقون بك وتحبهم بدورك، ومستقبلهم رهن بما تغرسه في عقولهم، من علم ومُثُل وقيم، ويعتقدون أنك تعرف كل شيء عن كل شيء، وأنك عاقل وحكيم وقدوة. كل ذلك يجعلك أكثر انضباطا من الناحيتين المهنية والأخلاقية، وكنا على عهدي بمهنة التدريس في سبعينيات القرن الماضي، نتباحث كمدرسين في أمور قد يبدو أنها لا تخصنا: لماذا يأتي محمود الى المدرسة بملابس ممزقة وقذرة؟ هل تعاني أسرته من ظروف مادية صعبة؟ كيف نتحايل لشراء ملابس لائقة له دون ان نجرح كبرياءه ودون ان يعرف أقرانه بذلك؟ من منا يستطيع ان يحاور مصطفى في أمر تعاطيه السجائر ويقال ان والده يتاجر في التبغ المهرب؟ من سيتولى وضع جدول لحصص تقوية مسائية لطلاب الشهادة الثانوية (بلا مقابل طبعا) في مختلف المواد؟ الكافتيريا التي تبيع الوجبات للطلاب، قذرة وأسعارها مرتفعة ولابد من مخاطبة مدير المدرسة في هذا الشأن!
عشية امتحان الأدب الإنجليزي، في سياق مطحنة امتحانات الشهادة الثانوية، حيث كان طلاب مئات المدارس الثانوية يتنافسون على مقاعد أربع جامعات، كنت آتي بالطلاب الى المدرسة، عصرا لمراجعة المنهج من الألف إلى الياء، ثم أطلب منهم التعهد بالعودة إلى بيوتهم وعدم فتح اي كتاب. أي النوم فورا، لأننا «راجعنا» كل ما يمكن مراجعته، وكان مدرسو المواد الأخرى يفعلون الشيء نفسه، وكنا نعاقب الطلاب بدنيا، في الأمور السلوكية فقط، ولكننا كنا في الوقت نفسه نتواصل مع أولياء أمورهم، وياما بهدلنا آباء لأنهم لا يتابعون مسيرة عيالهم الأكاديمية، أو لم ينتبهوا إلى أن أولادهم في طريقهم الى الجنوح. وكان هناك مدير مدرسة ثانوية مشهور في السودان يهابه أولياء الأمور، لأنه سبق له أن ضرب والد طالب بعصا خيزران، واتهمه بأنه «حيوان»، بعد أن جاء ولده إلى المدرسة مصابا بكدمات، قال إن والده تسبب فيها، وهدد المدير والد التلميذ: عليّ بالطلاق لو لمست الولد ده تاني أجي عندك في البيت وأدشدشك! ولهذا كان طلابنا يحبوننا، لأنهم أدركوا اننا نحبهم ونحب الخير لهم.
وتركت التدريس لأنه أرهقني جسديا، دون أن يكون هناك مقابل مادي يُنسي الارهاق، وظللت طوال السنوات الماضية متابعا لقضايا التعليم والمناهج، وانتبهت إلى ما يحدث في مؤسساتنا التعليمية: حالة انعدام الوزن «الاجتماعي» صارت تنعكس في السنوات الأخيرة على سلوك الطلاب والمدرسين: طالب ابتدائية يضرب المدرس بالحذاء.. طلاب يحطمون سيارات المدرسين.. معلمة ترمي بطالب مشاغب من نافذة حجرة الدارسة بالطابق الثاني.. آلاف دفعتهم البطالة إلى دخول سلك التدريس كإجراء مؤقت إلى حين العثور على وظيفة «محترمة».. آلاف المدرسين يبقون بلا ترقيات ذات معنى حتى يبلغوا سن التقاعد. والإنسان عندما يكون محبطا في وظيفته ولا يجد التقدير المستحق يصبح ناقما على نفسه وعلى «الوزارة».
ثم فجعتنا الصحف قبل حين من الزمان بحكاية مدرس في قطاع غزة أراد تأديب طالب مشاغب فأتى بمليشيا عائلية مسلحة من 4 أفراد، أشبعوا الطالب ضربا حتى أغمي عليه. وبعدها شهر المدرس سلاحا عربيا فتاكاً هو «البوساد» الذي تم تطويره لمقابلة كيد الموساد الإسرائيلي: كذا بوسة على خد والد الطالب المعتدى عليه، وانتهت المسألة! هل صدر قرار بأن ذلك المدرس يجب أن يمنع حتى من تربية الدواجن؟ قطعا لم يحدث ذلك: فالبوس أصدق أنباء من «الأدب»/ في الخد أو في الراس وا عجبي!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك