العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عشقت التدريس ولكن

دخلت‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬معلما‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬حقل‭ ‬الترجمة‭ ‬ومنها‭ ‬إلى‭ ‬الصحافة‭ ‬الورقية‭ ‬ثم‭ ‬الإعلام‭ ‬المرئي،‭ ‬وكتبت‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬هنا‭ ‬عديد‭ ‬المرات،‭ ‬أنه‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أندم‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬هجري‭ ‬لمهنة‭ ‬التدريس،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أنسى‭ ‬قط،‭ ‬أن‭ ‬سنواتي‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المهنة‭ ‬اعطتني‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬تستطع‭ ‬اي‭ ‬مهنة‭ ‬أخرى‭ ‬ان‭ ‬تمنحني‭ ‬إياه‭: ‬الرضا‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬والضمير‭ ‬المستريح،‭ ‬فالتدريس‭ ‬مهنة‭ ‬يصعب‭ ‬فيها‭ ‬خيانة‭ ‬‮«‬الأمانة‮»‬،‭ ‬فأمامك‭ ‬طلاب‭ ‬يحبونك‭ ‬ويثقون‭ ‬بك‭ ‬وتحبهم‭ ‬بدورك،‭ ‬ومستقبلهم‭ ‬رهن‭ ‬بما‭ ‬تغرسه‭ ‬في‭ ‬عقولهم،‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬ومُثُل‭ ‬وقيم،‭ ‬ويعتقدون‭ ‬أنك‭ ‬تعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وأنك‭ ‬عاقل‭ ‬وحكيم‭ ‬وقدوة‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يجعلك‭ ‬أكثر‭ ‬انضباطا‭ ‬من‭ ‬الناحيتين‭ ‬المهنية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬وكنا‭ ‬على‭ ‬عهدي‭ ‬بمهنة‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬نتباحث‭ ‬كمدرسين‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تخصنا‭: ‬لماذا‭ ‬يأتي‭ ‬محمود‭ ‬الى‭ ‬المدرسة‭ ‬بملابس‭ ‬ممزقة‭ ‬وقذرة؟‭ ‬هل‭ ‬تعاني‭ ‬أسرته‭ ‬من‭ ‬ظروف‭ ‬مادية‭ ‬صعبة؟‭ ‬كيف‭ ‬نتحايل‭ ‬لشراء‭ ‬ملابس‭ ‬لائقة‭ ‬له‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬نجرح‭ ‬كبرياءه‭ ‬ودون‭ ‬ان‭ ‬يعرف‭ ‬أقرانه‭ ‬بذلك؟‭ ‬من‭ ‬منا‭ ‬يستطيع‭ ‬ان‭ ‬يحاور‭ ‬مصطفى‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬تعاطيه‭ ‬السجائر‭ ‬ويقال‭ ‬ان‭ ‬والده‭ ‬يتاجر‭ ‬في‭ ‬التبغ‭ ‬المهرب؟‭ ‬من‭ ‬سيتولى‭ ‬وضع‭ ‬جدول‭ ‬لحصص‭ ‬تقوية‭ ‬مسائية‭ ‬لطلاب‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ (‬بلا‭ ‬مقابل‭ ‬طبعا‭) ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬المواد؟‭ ‬الكافتيريا‭ ‬التي‭ ‬تبيع‭ ‬الوجبات‭ ‬للطلاب،‭ ‬قذرة‭ ‬وأسعارها‭ ‬مرتفعة‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬مخاطبة‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭!‬

عشية‭ ‬امتحان‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬مطحنة‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬طلاب‭ ‬مئات‭ ‬المدارس‭ ‬الثانوية‭ ‬يتنافسون‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬أربع‭ ‬جامعات،‭ ‬كنت‭ ‬آتي‭ ‬بالطلاب‭ ‬الى‭ ‬المدرسة،‭ ‬عصرا‭ ‬لمراجعة‭ ‬المنهج‭ ‬من‭ ‬الألف‭ ‬إلى‭ ‬الياء،‭ ‬ثم‭ ‬أطلب‭ ‬منهم‭ ‬التعهد‭ ‬بالعودة‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭ ‬وعدم‭ ‬فتح‭ ‬اي‭ ‬كتاب‭. ‬أي‭ ‬النوم‭ ‬فورا،‭ ‬لأننا‭ ‬‮«‬راجعنا‮»‬‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬مراجعته،‭ ‬وكان‭ ‬مدرسو‭ ‬المواد‭ ‬الأخرى‭ ‬يفعلون‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه،‭ ‬وكنا‭ ‬نعاقب‭ ‬الطلاب‭ ‬بدنيا،‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬السلوكية‭ ‬فقط،‭ ‬ولكننا‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬نتواصل‭ ‬مع‭ ‬أولياء‭ ‬أمورهم،‭ ‬وياما‭ ‬بهدلنا‭ ‬آباء‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يتابعون‭ ‬مسيرة‭ ‬عيالهم‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬أو‭ ‬لم‭ ‬ينتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أولادهم‭ ‬في‭ ‬طريقهم‭ ‬الى‭ ‬الجنوح‭. ‬وكان‭ ‬هناك‭ ‬مدير‭ ‬مدرسة‭ ‬ثانوية‭ ‬مشهور‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يهابه‭ ‬أولياء‭ ‬الأمور،‭ ‬لأنه‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬ضرب‭ ‬والد‭ ‬طالب‭ ‬بعصا‭ ‬خيزران،‭ ‬واتهمه‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬حيوان‮»‬،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬جاء‭ ‬ولده‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬مصابا‭ ‬بكدمات،‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬والده‭ ‬تسبب‭ ‬فيها،‭ ‬وهدد‭ ‬المدير‭ ‬والد‭ ‬التلميذ‭: ‬عليّ‭ ‬بالطلاق‭ ‬لو‭ ‬لمست‭ ‬الولد‭ ‬ده‭ ‬تاني‭ ‬أجي‭ ‬عندك‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬وأدشدشك‭! ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬طلابنا‭ ‬يحبوننا،‭ ‬لأنهم‭ ‬أدركوا‭ ‬اننا‭ ‬نحبهم‭ ‬ونحب‭ ‬الخير‭ ‬لهم‭.‬

وتركت‭ ‬التدريس‭ ‬لأنه‭ ‬أرهقني‭ ‬جسديا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬مقابل‭ ‬مادي‭ ‬يُنسي‭ ‬الارهاق،‭ ‬وظللت‭ ‬طوال‭ ‬السنوات‭ ‬الماضية‭ ‬متابعا‭ ‬لقضايا‭ ‬التعليم‭ ‬والمناهج،‭ ‬وانتبهت‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬مؤسساتنا‭ ‬التعليمية‭: ‬حالة‭ ‬انعدام‭ ‬الوزن‭ ‬‮«‬الاجتماعي‮»‬‭ ‬صارت‭ ‬تنعكس‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬الطلاب‭ ‬والمدرسين‭: ‬طالب‭ ‬ابتدائية‭ ‬يضرب‭ ‬المدرس‭ ‬بالحذاء‭.. ‬طلاب‭ ‬يحطمون‭ ‬سيارات‭ ‬المدرسين‭.. ‬معلمة‭ ‬ترمي‭ ‬بطالب‭ ‬مشاغب‭ ‬من‭ ‬نافذة‭ ‬حجرة‭ ‬الدارسة‭ ‬بالطابق‭ ‬الثاني‭.. ‬آلاف‭ ‬دفعتهم‭ ‬البطالة‭ ‬إلى‭ ‬دخول‭ ‬سلك‭ ‬التدريس‭ ‬كإجراء‭ ‬مؤقت‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬وظيفة‭ ‬‮«‬محترمة‮»‬‭.. ‬آلاف‭ ‬المدرسين‭ ‬يبقون‭ ‬بلا‭ ‬ترقيات‭ ‬ذات‭ ‬معنى‭ ‬حتى‭ ‬يبلغوا‭ ‬سن‭ ‬التقاعد‭. ‬والإنسان‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬محبطا‭ ‬في‭ ‬وظيفته‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬التقدير‭ ‬المستحق‭ ‬يصبح‭ ‬ناقما‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬وعلى‭ ‬‮«‬الوزارة‮»‬‭.‬

ثم‭ ‬فجعتنا‭ ‬الصحف‭ ‬قبل‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬بحكاية‭ ‬مدرس‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬أراد‭ ‬تأديب‭ ‬طالب‭ ‬مشاغب‭ ‬فأتى‭ ‬بمليشيا‭ ‬عائلية‭ ‬مسلحة‭ ‬من‭ ‬4‭ ‬أفراد،‭ ‬أشبعوا‭ ‬الطالب‭ ‬ضربا‭ ‬حتى‭ ‬أغمي‭ ‬عليه‭. ‬وبعدها‭ ‬شهر‭ ‬المدرس‭ ‬سلاحا‭ ‬عربيا‭ ‬فتاكاً‭ ‬هو‭ ‬‮«‬البوساد‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تطويره‭ ‬لمقابلة‭ ‬كيد‭ ‬الموساد‭ ‬الإسرائيلي‭: ‬كذا‭ ‬بوسة‭ ‬على‭ ‬خد‭ ‬والد‭ ‬الطالب‭ ‬المعتدى‭ ‬عليه،‭ ‬وانتهت‭ ‬المسألة‭! ‬هل‭ ‬صدر‭ ‬قرار‭ ‬بأن‭ ‬ذلك‭ ‬المدرس‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يمنع‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬تربية‭ ‬الدواجن؟‭ ‬قطعا‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬ذلك‭: ‬فالبوس‭ ‬أصدق‭ ‬أنباء‭ ‬من‭ ‬‮«‬الأدب‮»‬‭/ ‬في‭ ‬الخد‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬الراس‭ ‬وا‭ ‬عجبي‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا