العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن أمي وعموم الأمهات

يسقط‭ ‬من‭ ‬عيني‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يأتي‭ ‬قولا‭ ‬أو‭ ‬فعلا‭ ‬مسيئا‭ ‬للمرأة،‭ ‬لأنه‭ ‬بذلك‭ ‬يسيء‭ ‬إلى‭ ‬أمي‭ ‬وزوجتي‭ ‬وبنتيّ‭ ‬وأخواتي،‭ ‬وتبعا‭ ‬لذلك‭ ‬بأمهات‭ ‬وزوجات‭ ‬وبنات‭ ‬وأخوات‭ ‬غيري‭. ‬وتحدثت‭ ‬بالأمس‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬أمي‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬جوار‭ ‬ربها‭ ‬قبل‭ ‬أعوام،‭ ‬وأنها‭ ‬من‭ ‬تولت‭ ‬مهام‭ ‬الأم‭ ‬والأب‭ ‬في‭ ‬رعايتنا‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬–تغمده‭ ‬الله‭ ‬بواسع‭ ‬رحمته–‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بعيدة‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬السودان،‭ ‬وكلما‭ ‬تذكرت‭ ‬حجم‭ ‬الأعباء‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتولاها‭ ‬أمي،‭ ‬اعتبرت‭ ‬أي‭ ‬إهانة‭ ‬أو‭ ‬استخفاف‭ ‬موجه‭ ‬نحو‭ ‬أي‭ ‬امرأة‭ ‬إساءة‭ ‬الى‭ ‬أمي،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬الدعامة‭ ‬الأساسية‭ ‬لبيت‭ ‬فيه‭ ‬ستة‭ ‬من‭ ‬العيال‭. ‬وأكاد‭ ‬أصيح‭: ‬كيف‭ ‬يكون‭ ‬للمرأة‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬يوافق‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬مارس‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬وهي‭ ‬سيدة‭ ‬كل‭ ‬الأيام؟

لم‭ ‬تكن‭ ‬أمي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬نسيح‭ ‬وحدها،‭ ‬بل‭ ‬كانت‭ ‬معظم‭ ‬نساء‭ ‬بلدتنا‭ ‬يتولين‭ ‬أعباء‭ ‬تربية‭ ‬العيال‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬الآباء،‭ ‬فالمنطقة‭ ‬النوبية‭ ‬التي‭ ‬أنتمي‭ ‬اليها‭ ‬طاردة‭ ‬لأبنائها‭ ‬لضيق‭ ‬الأراضي‭ ‬الصالحة‭ ‬للزراعة،‭ ‬لأن‭ ‬الصحراء‭ ‬الكبرى‭ ‬تحكم‭ ‬قبضتها‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬الأراضي‭ ‬المحيطة‭ ‬بالنيل،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬أراضي‭ ‬المنطقة،‭ ‬حجرية‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬جزءا‭ ‬كبيرا‭ ‬من‭ ‬المنطقة‭ ‬النوبية‭ ‬يعرف‭ ‬بـ«أرض‭ ‬الحجر‮»‬،‭ ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬امام‭ ‬معظم‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬سبيل‭ ‬سوى‭ ‬الهجرة‭ ‬إلى‭ ‬مصر‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬وسط‭ ‬السودان‭. ‬وهكذا‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬تجد‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬حي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬واحد‭ ‬أو‭ ‬اثنين‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬السن،‭ ‬وبقية‭ ‬السكان‭ ‬أطفال‭ ‬ونساء،‭ ‬ولكن‭ ‬التكافل‭ ‬والترابط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬كان‭ ‬قويا‭ ‬بدرجة‭ ‬انه‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬شؤون‭ ‬خاصة‮»‬‭ ‬فأمور‭ ‬الزواج‭ ‬والختان‭ ‬والمرض‭ ‬والسفر‭ ‬والدراسة‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬البت‭ ‬فيها‭ ‬جماعيا‭. ‬وإذا‭ ‬انهار‭ ‬جدار‭ ‬بيت‭ ‬أو‭ ‬سقط‭ ‬سقفه،‭ ‬هب‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬حدب‭ ‬وصوب‭ ‬للقيام‭ ‬بأعمال‭ ‬الترميم‭ ‬والصيانة‭ ‬اللازمة‭.‬

في‭ ‬الأمسيات‭ ‬كانت‭ ‬نساء‭ ‬الحي‭ ‬يجتمعن‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬البيوت‭ ‬للونسة،‭ ‬وكان‭ ‬البعض‭ ‬منهن‭ ‬رواة‭ ‬للحكايات‭ ‬الشعبية‭ ‬والقصص‭ ‬الخرافية،‭ ‬وكنا‭ ‬نتحلق‭ ‬حولهن‭ ‬لنسمع‭ ‬حكايات‭ ‬أبطالها‭ ‬الغول‭ ‬والعفريت‭ ‬والجن‭ ‬الأحمر‭.. ‬وكل‭ ‬وقائعها‭ ‬تدور‭ ‬بالليل،‭.. ‬والليل‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬كهرباء‭ ‬يتميز‭ ‬بظلام‭ ‬كثيف‭ ‬مرعب‭.. ‬ظلام‭ ‬كالدوامة‭ ‬يدور‭ ‬ويغلي‭ ‬فتفقد‭ ‬توازنك‭ ‬وأنت‭ ‬تمشي‭ ‬فيه،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬طرف‭ ‬كل‭ ‬حي‭ ‬خرابة‭ ‬يتخذ‭ ‬منها‭ ‬الجن‭ ‬قيادة‭ ‬قطرية‭ ‬ويدبرون‭ ‬المقالب‭ ‬المرعبة‭ ‬لبعض‭ ‬السذج‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يحفظوا‭ ‬آية‭ ‬الكرسي‭. ‬وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬أخاف‭ ‬من‭ ‬الظلام‭ ‬بدرجة‭ ‬او‭ ‬بأخرى‭. ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬خوفا‭ ‬ولكنه‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬يسبب‭ ‬لي‭ ‬ضيقا‭ ‬شديدا‭. ‬أعرف‭ ‬ان‭ ‬عفاريت‭ ‬الإنس‭ ‬هم‭ ‬مصدر‭ ‬المتاعب،‭ ‬وأن‭ ‬الغول‭ ‬وهم‭ ‬مثل‭ ‬التضامن‭ ‬العربي،‭ ‬ولكن‭ ‬الظلام‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬عقلي‭ ‬الباطن‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مخيف‭.‬

المهم‭ ‬أنني‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬مجتمع‭ ‬كانت‭ ‬النساء‭ ‬يقمن‭ ‬فيه‭ ‬بكل‭ ‬شيء‭ ‬تقريبا‭: ‬الزراعة‭ ‬ورعاية‭ ‬الحيوانات‭ ‬المنزلية‭ ‬والطبخ‭ ‬والنظافة‭ ‬ورعاية‭ ‬المرضى‭. ‬كنا‭ ‬نستيقظ‭ ‬مبكرين‭ ‬لأن‭ ‬نساء‭ ‬الحي‭ ‬كن‭ ‬يفدن‭ ‬الى‭ ‬بيتنا‭ ‬حاملات‭ ‬الأوعية‭ ‬المعدنية‭ ‬والجرادل‭ ‬للتزود‭ ‬بالماء،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬المضخة‭ ‬اليدوية‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬لتوفير‭ ‬الماء‭ ‬شبه‭ ‬النظيف،‭ ‬وكان‭ ‬لتلك‭ ‬المضخة‭ ‬ذراع‭ ‬يدوي‭ ‬طويلة‭ ‬يتم‭ ‬تحريكه‭ ‬الى‭ ‬أعلى‭ ‬وأسفل‭ ‬لضخ‭ ‬الماء‭ ‬عبر‭ ‬فوهة‭ ‬كبيرة‭. ‬وفي‭ ‬مجتمع‭ ‬كهذا‭ ‬عليك‭ ‬مساعدة‭ ‬المرأة‭ ‬العاجز‭ ‬بأن‭ ‬تتولى‭ ‬عنها‭ ‬ضخ‭ ‬الماء‭ ‬ثم‭ ‬توصيله‭ ‬الى‭ ‬بيتها‭. ‬وكان‭ ‬علينا‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬أن‭ ‬نحلب‭ ‬الماعز،‭ ‬ثم‭ ‬نخرج‭ ‬بها‭ ‬كي‭ ‬ترعى‭ ‬في‭ ‬الأعشاب‭ ‬الطفيلية‭ ‬التي‭ ‬تتكاثر‭ ‬في‭ ‬جزيرتنا‭ ‬النهرية‭ ‬بسبب‭ ‬وفرة‭ ‬المياه‭ ‬الجارية‭ ‬والسطحية‭. ‬وكلما‭ ‬خرجت‭ ‬الى‭ ‬مناسبة‭ ‬من‭ ‬مناسبات‭ ‬النفاق‭ ‬الاجتماعي‭ ‬مرتديا‭ ‬جاكيت‭ ‬وكرافتة،‭ ‬ضحكت‭ ‬سرا‭ ‬كلما‭ ‬تذكرت‭ ‬أن‭ ‬بين‭ ‬المهارات‭ ‬التي‭ ‬اكتسبتها‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬توليد‭ ‬الأغنام‭. ‬نعم‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬المعزة‭ ‬الفلانية‭ (‬ولكل‭ ‬معزة‭ ‬اسم‭) ‬داهمها‭ ‬المخاض‭ ‬وأقوم‭ ‬بمساعدتها‭ ‬في‭ ‬الولادة‭. ‬يعني‭ ‬كلما‭ ‬رأيتم‭ ‬ابو‭ ‬الجعافر‭ ‬على‭ ‬شاشة‭ ‬تلفزيون‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬منتدى‭ ‬وهو‭ ‬يتكلم‭ ‬وكأنه‭ ‬عبقري‭ ‬زمانه‭ ‬تذكروا‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬داية‭/ ‬قابلة‮»‬‭ ‬أغنام‭ ‬مؤهل‭. ‬وما‭ ‬خرجت‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تجربة‭ ‬تلك‭ ‬الطفولة‭ ‬هو‭ ‬ضرورة‭ ‬الاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬وأن‭ ‬‮«‬الناس‭ ‬لبعضها‮»‬‭ ‬ومن‭ ‬يَعِن‭ ‬يُعَن‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا