العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

جميع النساء مثل أمي

تضمن‭ ‬مقالي‭ ‬ليوم‭ ‬أمس‭ ‬اعترافا‭ ‬بأنني‭ ‬أتعمد‭ ‬تجاهل‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬اليوم‭ ‬العالمي‭ ‬للمرأة،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬أتجاهل‮»‬‭ ‬المرأة‭ ‬ودورها‭ ‬العظيم‭ ‬في‭ ‬دولاب‭ ‬الحياة،‭ ‬ولا‭ ‬يغيب‭ ‬عن‭ ‬بالي‭ ‬قط‭ ‬أن‭ ‬أمّي‭ ‬آمنة‭ ‬التي‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬رحمة‭ ‬مولاها‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬امرأة،‭ ‬ولا‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتذكر‭ ‬كيف‭ ‬إنها‭ ‬كانت‭ ‬بالنسبة‭ ‬لي‭ ‬وإخوتي‭ ‬‮«‬ماما‭ ‬وبابا‮»‬،‭ ‬وأتذكر‭ ‬محطات‭ ‬في‭ ‬حياتها‭ ‬وأبتسم،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬امرأة‭ ‬فرايحية،‭ ‬وعفوية‭ ‬و«اللي‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬على‭ ‬لسانها‮»‬،‭ ‬وقبل‭ ‬وفاتها‭ ‬بمدة‭ ‬قصيرة‭ ‬عانت‭ ‬من‭ ‬متاعب‭ ‬صحية‭ ‬جمّة‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬تعطل‭ ‬جهاز‭ ‬تنظيم‭ ‬ضربات‭ ‬القلب‭ ‬الذي‭ ‬تم‭ ‬تزويدها‭ ‬به‭ ‬أثناء‭ ‬زيارتها‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬القطرية‭ ‬الدوحة‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬عام‭ ‬1997،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬ان‭ ‬يبقى‭ ‬الجهاز‭ ‬عاملا‭ ‬لعشر‭ ‬سنوات،‭ ‬ولكنه‭ ‬أصيب‭ ‬بخلل‭ ‬مما،‭ ‬أدى‭ ‬الى‭ ‬إبطاء‭ ‬ضربات‭ ‬قلبها‭ ‬ومعاناتها‭ ‬من‭ ‬صعوبات‭ ‬في‭ ‬التنفس،‭ ‬وتم‭ -‬بحمد‭ ‬الله‭- ‬تزويدها‭ ‬بجهاز‭ ‬جديد،‭ ‬في‭ ‬مستشفى‭ ‬خاص‭ ‬في‭ ‬الخرطوم،‭ ‬أعاد‭ ‬نشاط‭ ‬قلبها‭ ‬الى‭ ‬معدلات‭ ‬شبه‭ ‬طبيعية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬المفترض‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬لعدة‭ ‬أيام‭ ‬‮«‬تحت‭ ‬المراقبة‮»‬،‭ ‬ولكنها‭ ‬سببت‭ ‬صداعا‭ ‬لإدارة‭ ‬المستشفى‭ ‬وبقية‭ ‬المرضى،‭ ‬مطالبة‭ ‬بالسماح‭ ‬لها‭ ‬بالعودة‭ ‬الى‭ ‬البيت،‭ ‬وبمنع‭ ‬الممرضات‭ ‬الفلبينيات‭ ‬من‭ ‬الدخول‭ ‬عليها‭.‬

كنت‭ ‬أتابع‭ ‬أحوالها‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف،‭ ‬وسمعتها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬تصرخ‭: ‬اطلع‭ ‬بره‭ ‬يا‭ ‬بنت‭ (‬نوبية‭ ‬تذكر‭ ‬وتؤنث‭ ‬على‭ ‬كيفها‭) ‬فتقول‭ ‬لي‭ ‬أخواتي‭ ‬الجالسات‭ ‬قرب‭ ‬سريرها‭ ‬إن‭ ‬الأوامر‭ ‬بالطلوع‭ ‬‮«‬بره‮»‬‭ ‬مقصود‭ ‬بها‭ ‬الممرضة‭ ‬الفلبينية‭! ‬وكنت‭ ‬أقول‭ ‬في‭ ‬سرّي‭: ‬ممرضات‭ ‬فلبينيات‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان؟‭ ‬يا‭ ‬للهنا‭ ‬ويا‭ ‬بختنا،‭ ‬فكلية‭ ‬التمريض‭ ‬العليا‭ ‬التي‭ ‬تخرج‭ ‬ممرضات‭ ‬بدرجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬افتتحت‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬عام‭ ‬1959،‭ ‬ومدرسة‭ ‬التمريض‭ ‬المتوسطة‭ ‬عمرها‭ ‬قرابة‭ ‬قرن،‭ ‬ونحن‭ ‬نستورد‭ ‬ممرضات‭ ‬من‭ ‬الفلبين‭! ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬نصيبنا‭ ‬من‭ ‬العولمة؟‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الخطوة‭ ‬التالية؟‭ ‬شرطة‭ ‬مرور‭ ‬من‭ ‬إندونيسيا؟‭ ‬أخصائيات‭ ‬نقش‭ ‬الحناء‭ ‬من‭ ‬هولندا؟‭ ‬كيف‭ ‬لبلد‭ ‬يصدر‭ ‬العمالة‭ ‬بالملايين‭ ‬ان‭ ‬يستورد‭ ‬عمالة‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬آخر؟

أعود‭ ‬الى‭ ‬أمي،‭ ‬وكيف‭ ‬صرت‭ ‬أسمع‭ ‬منها‭ ‬تقريرا‭ ‬عن‭ ‬حالتها‭ ‬الصحية‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬سمح‭ ‬لها‭ ‬الأطباء‭ ‬بحرية‭ ‬التعبير‭: ‬ما‭ ‬عندي‭ ‬شيء‭ ‬غير‭ ‬وجع‭ ‬في‭ ‬الركبة‭! ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬نفس‭ ‬الشكوى‭ ‬التي‭ ‬رددتها‭ ‬في‭ ‬الدوحة‭ ‬عندما‭ ‬اكتشف‭ ‬الأطباء‭ ‬ان‭ ‬قلبها‭ ‬ينبض‭ ‬نحو‭ ‬25‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الدقيقة‭.. ‬وركبوا‭ ‬لها‭ ‬جهاز‭ ‬تنظيم‭ ‬ضربات‭ ‬القلب‭ ‬وسألوها‭: ‬كيف‭ ‬حالتك‭ ‬الآن‭ ‬يا‭ ‬حجة؟‭ ‬فقالت‭ ‬لهم‭: ‬أنتم‭ ‬أطباء‭ ‬فاشلون‭ ‬فما‭ ‬زالت‭ ‬ركبتي‭ ‬تؤلمني‭ ‬وتعيق‭ ‬حركتي‭. ‬وقد‭ ‬كانت‭ -‬رحمها‭ ‬الله‭- ‬تعاني‭ ‬فوق‭ ‬اضطرابات‭ ‬ضربات‭ ‬القلب،‭ ‬من‭ ‬عسر‭ ‬هضم‭ ‬مزمن،‭ ‬وصارت‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الإبصار‭ ‬والسمع‭ ‬أضعف‭ ‬من‭ ‬ذي‭ ‬قبل،‭ ‬ولكن‭ ‬الشيء‭ ‬الوحيد‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يؤرقها‭ ‬هو‭ ‬‮«‬الألم‭ ‬في‭ ‬الركبة‮»‬‭. ‬

وفكرت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬كثيرا‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬تشكو‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التحرك‭ ‬بسهولة‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬الى‭ ‬آخر؟‭ ‬وعدت‭ ‬بذاكرتي‭ ‬الى‭ ‬الوراء،‭ ‬إلى‭ ‬ايام‭ ‬الطفولة‭ ‬والصبا،‭ ‬وتذكرت‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياتنا‭ ‬العائلية‭. ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بعيدة‭ ‬عن‭ ‬جزيرتنا‭ ‬النهرية‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان،‭ ‬وكان‭ ‬يأتينا‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬عامين،‭ ‬ويستقدم‭ ‬اثنين‭ ‬منا‭ ‬نحن‭ ‬الأشقاء‭ ‬الستة‭ ‬مرة‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬الى‭ ‬المدينة،‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬13‭ ‬سنة‭ ‬متواصلة‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬هي‭ ‬المنوط‭ ‬بها‭ ‬رعايتنا‭ ‬في‭ ‬المرض‭ ‬والعافية،‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬فيها‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المرض‭ ‬والقليل‭ ‬من‭ ‬العافية،‭ ‬وعند‭ ‬حلول‭ ‬المساء‭ ‬كانت‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬ينتعل‭ ‬حذاءه‭ ‬تفاديا‭ ‬للدغات‭ ‬العقارب‭.. ‬وطوال‭ ‬الليل‭ ‬كانت‭ ‬تروح‭ ‬وتجيء‭ ‬لتتأكد‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أجسامنا‭ ‬مغطاة‭ ‬بإحكام‭ ‬تحسبا‭ ‬للبرد‭ ‬الصحراوي‭. ‬وكان‭ ‬السوق‭ ‬ينتظم‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬الأسبوع‭ ‬فتسير‭ ‬على‭ ‬قدميها‭ ‬نحو‭ ‬12‭ ‬كيلومترا‭ ‬جيئة‭ ‬وذهابا،‭ ‬لتأتي‭ ‬لنا‭ ‬باللحم‭ ‬ولوازم‭ ‬الطعام‭ ‬والملابس‭. ‬وإذا‭ ‬مرض‭ ‬أحدنا‭ ‬فيا‭ ‬ويله‭.. ‬تظل‭ ‬مرابطة‭ ‬قربه‭ ‬تلمس‭ ‬جبهته‭ ‬وقدميه‭ ‬كل‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭ ‬فلا‭ ‬تعطيه‭ ‬فرصة‭ ‬للنوم،‭ ‬وامرأة‭ ‬اعتادت‭ ‬الحركة‭ ‬والاعتماد‭ ‬على‭ ‬النفس‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬ان‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يضايقها‭ ‬العجز‭ ‬عن‭ ‬الحركة‭.‬

وهكذا‭ ‬كل‭ ‬النساء‭ ‬مزودات‭ ‬بشحنات‭ ‬وطاقات‭ ‬هائلة‭ ‬من‭ ‬الحب‭ ‬والحنان‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا