زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
جميع النساء مثل أمي
تضمن مقالي ليوم أمس اعترافا بأنني أتعمد تجاهل ما يسمى اليوم العالمي للمرأة، ولكن من دون أن يعني ذلك أنني «أتجاهل» المرأة ودورها العظيم في دولاب الحياة، ولا يغيب عن بالي قط أن أمّي آمنة التي انتقلت إلى رحمة مولاها قبل سنوات امرأة، ولا يمر يوم دون أن أتذكر كيف إنها كانت بالنسبة لي وإخوتي «ماما وبابا»، وأتذكر محطات في حياتها وأبتسم، فقد كانت امرأة فرايحية، وعفوية و«اللي في قلبها على لسانها»، وقبل وفاتها بمدة قصيرة عانت من متاعب صحية جمّة نجمت عن تعطل جهاز تنظيم ضربات القلب الذي تم تزويدها به أثناء زيارتها لي في العاصمة القطرية الدوحة في أوائل عام 1997، وكان من المفترض ان يبقى الجهاز عاملا لعشر سنوات، ولكنه أصيب بخلل مما، أدى الى إبطاء ضربات قلبها ومعاناتها من صعوبات في التنفس، وتم -بحمد الله- تزويدها بجهاز جديد، في مستشفى خاص في الخرطوم، أعاد نشاط قلبها الى معدلات شبه طبيعية، وكان من المفترض أن تبقى في المستشفى لعدة أيام «تحت المراقبة»، ولكنها سببت صداعا لإدارة المستشفى وبقية المرضى، مطالبة بالسماح لها بالعودة الى البيت، وبمنع الممرضات الفلبينيات من الدخول عليها.
كنت أتابع أحوالها عبر الهاتف، وسمعتها أكثر من مرة تصرخ: اطلع بره يا بنت (نوبية تذكر وتؤنث على كيفها) فتقول لي أخواتي الجالسات قرب سريرها إن الأوامر بالطلوع «بره» مقصود بها الممرضة الفلبينية! وكنت أقول في سرّي: ممرضات فلبينيات عندنا في السودان؟ يا للهنا ويا بختنا، فكلية التمريض العليا التي تخرج ممرضات بدرجة البكالوريوس افتتحت في الخرطوم عام 1959، ومدرسة التمريض المتوسطة عمرها قرابة قرن، ونحن نستورد ممرضات من الفلبين! هل هذا نصيبنا من العولمة؟ ما هي الخطوة التالية؟ شرطة مرور من إندونيسيا؟ أخصائيات نقش الحناء من هولندا؟ كيف لبلد يصدر العمالة بالملايين ان يستورد عمالة من بلد آخر؟
أعود الى أمي، وكيف صرت أسمع منها تقريرا عن حالتها الصحية بعد ان سمح لها الأطباء بحرية التعبير: ما عندي شيء غير وجع في الركبة! كانت تلك نفس الشكوى التي رددتها في الدوحة عندما اكتشف الأطباء ان قلبها ينبض نحو 25 مرة في الدقيقة.. وركبوا لها جهاز تنظيم ضربات القلب وسألوها: كيف حالتك الآن يا حجة؟ فقالت لهم: أنتم أطباء فاشلون فما زالت ركبتي تؤلمني وتعيق حركتي. وقد كانت -رحمها الله- تعاني فوق اضطرابات ضربات القلب، من عسر هضم مزمن، وصارت قدرتها على الإبصار والسمع أضعف من ذي قبل، ولكن الشيء الوحيد الذي كان يؤرقها هو «الألم في الركبة».
وفكرت في هذا كثيرا: لماذا لا تشكو إلا من عدم قدرتها على التحرك بسهولة من مكان الى آخر؟ وعدت بذاكرتي الى الوراء، إلى ايام الطفولة والصبا، وتذكرت تفاصيل حياتنا العائلية. كان والدي يعمل في مدينة بعيدة عن جزيرتنا النهرية الواقعة في شمال السودان، وكان يأتينا مرة كل عامين، ويستقدم اثنين منا نحن الأشقاء الستة مرة كل سنة الى المدينة، وعلى مدى 13 سنة متواصلة كانت أمي هي المنوط بها رعايتنا في المرض والعافية، في بيئة فيها الكثير من المرض والقليل من العافية، وعند حلول المساء كانت تحرص على التأكد من ان كل واحد منا ينتعل حذاءه تفاديا للدغات العقارب.. وطوال الليل كانت تروح وتجيء لتتأكد من أن أجسامنا مغطاة بإحكام تحسبا للبرد الصحراوي. وكان السوق ينتظم مرتين في الأسبوع فتسير على قدميها نحو 12 كيلومترا جيئة وذهابا، لتأتي لنا باللحم ولوازم الطعام والملابس. وإذا مرض أحدنا فيا ويله.. تظل مرابطة قربه تلمس جبهته وقدميه كل بضع دقائق فلا تعطيه فرصة للنوم، وامرأة اعتادت الحركة والاعتماد على النفس لا بد ان يكون أكثر ما يضايقها العجز عن الحركة.
وهكذا كل النساء مزودات بشحنات وطاقات هائلة من الحب والحنان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك