العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٧٠ - الأحد ٠٨ سبتمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٠٥ ربيع الأول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ليس للنجاح معيار ثابت (3)

لليوم‭ ‬الثالث‭ ‬على‭ ‬التوالي‭ ‬أخوض‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬عرضه‭ ‬عليّ‭ ‬مؤلف‭ ‬سوداني،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تواصل‭ ‬معي‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬لأنه‭ ‬بصدد‭ ‬إصدار‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬تجارب‭ ‬نجاح‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬السودانيين،‭ ‬ورفع‭ ‬معنوياتي‭ ‬أنه‭ ‬اختارني‭ ‬لأكون‭ ‬ضمن‭ ‬قائمة‭ ‬السودانيين‭ ‬الناجحين،‭ ‬ومعظمهم‭ ‬فطاحل‭ ‬في‭ ‬ميادينهم‭ ‬ويحظون‭ ‬بتقدير‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬العالم،‭ ‬بحيث‭ ‬يبدو‭ ‬نجاحي‭ ‬المفترض‭ ‬هزيلا‭ ‬مقارنة‭ ‬بما‭ ‬أنجزوه‭ ‬وحققوه‭.‬

ولكن‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يطلب‭ ‬مني‭ ‬تلك‭ ‬المساهمة،‭ ‬فإنني‭ ‬أعتبر‭ ‬نفسي‭ ‬ناجحا،‭ ‬لأنني‭ ‬حققت‭ ‬أشياء‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحلم‭ ‬بها‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬وعندما‭ ‬أستعيد‭ ‬سيرتي‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬الطفولة‭ ‬أزداد‭ ‬اقتناعا‭ ‬بأنني‭ ‬ناجح‭ ‬و«نُص‭ ‬وخمسة‭ ‬كمان‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬فزت‭ ‬بمقعد‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المتوسطة‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬80‭ ‬مقعدا‭ ‬تنافس‭ ‬عليها‭ ‬نحو‭ ‬ألف‭ ‬تلميذ،‭ ‬وكان‭ ‬طلاب‭ ‬جميع‭ ‬المدارس‭ ‬المتوسطة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يتنافسون‭ ‬على‭ ‬مقاعد‭ ‬نحو‭ ‬عشر‭ ‬مدارس‭ ‬ثانوية،‭ ‬هي‭ ‬إجمالي‭ ‬عدد‭ ‬مدارس‭ ‬هذه‭ ‬المرحلة‭ ‬في‭ ‬عموم‭ ‬بلاد‭ ‬السودان،‭ ‬و‮«‬نجحت‮»‬‭ ‬ضمن‭ ‬عدد‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الطلاب‭ ‬بالفوز‭ ‬بكرسي‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أعرق‭ ‬المدارس‭ ‬الثانوية‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬هي‭ ‬‮«‬وادي‭ ‬سيدنا‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬تحويلها‭ ‬لاحقا‭ ‬إلى‭ ‬كلية‭ ‬وقاعدة‭ ‬عسكرية‭.‬

وفي‭ ‬‮«‬وادي‭ ‬سيدنا‮»‬‭ ‬كان‭ ‬علم‭ ‬الجبر‭ ‬قد‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬شفرات‭ ‬استخباراتية،‭ ‬واستحكم‭ ‬العداء‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الرياضيات،‭ ‬حتى‭ ‬أن‭ ‬أستاذي‭ ‬الحبيب‭ ‬عمر‭ ‬حسن‭ ‬مدثر‭ ‬الشهير‭ ‬بـ«عمر‭ ‬ماث‮»‬‭ ‬والكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬هذه‭ ‬اختصار‭ ‬لـ«ماثيماتِكس‮»‬‭ ‬أي‭ ‬علم‭ ‬الرياضيات،‭ ‬كان‭ ‬يصيح‭ ‬في‭ ‬وجهي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬رآني‭ ‬داخل‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬أثناء‭ ‬درس‭ ‬الرياضيات‭ ‬‮«‬غور‭ ‬من‭ ‬وشي‮»‬،‭ ‬وغور‭ ‬في‭ ‬العامية‭ ‬السودانية‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬روح‭ ‬في‭ ‬ستين‮»‬،‭ ‬ونلت‭ ‬بذلك‭ ‬حرية‭ ‬التجول‭ ‬والصياعة‭ ‬أثناء‭ ‬حصص‭ ‬الرياضيات،‭ ‬وكنت‭ ‬أفضل‭ ‬قضاء‭ ‬فترة‭ ‬الصياعة‭ ‬في‭ ‬المكتبة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تضم‭ ‬آلاف‭ ‬الكتب،‭ ‬وكلما‭ ‬تعمقت‭ ‬الجفوة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬الرياضيات‭ ‬توطدت‭ ‬علاقتي‭ ‬بالإنجليزية،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬كان‭ ‬جميع‭ ‬من‭ ‬درسوني‭ ‬تلك‭ ‬اللغة‭ ‬وآدابها‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬من‭ ‬البريطانيين‭.‬

وأذكر‭ ‬أن‭ ‬مستر‭ ‬موريسون‭ ‬أتانا‭ ‬شابا‭ ‬حديث‭ ‬التخرج‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬كيمبردج،‭ ‬وكان‭ ‬يجد‭ ‬صعوبة‭ ‬جمة‭ ‬في‭ ‬تدريسنا‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ (‬القرامر‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬لدينا‭ ‬كتاب‭ ‬منها‭ ‬أصفر‭ ‬اللون‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬مورقان‭ ‬آند‭ ‬باتشلر‮»‬‭ ‬على‭ ‬اسمي‭ ‬مؤلفًيه،‭ ‬وكنا‭ ‬مطالبين‭ ‬بإعراب‭ ‬الجمل‭ ‬وتفكيكها‭ ‬فيما‭ ‬يعرف‭ ‬بـ‭ ‬sentence‭ ‬analysis‭ ‬وكنت‭ ‬‮«‬تحت‭ ‬‭ ‬تحت‮»‬‭ ‬ألتقي‭ ‬بمستر‭ ‬موريسون‭ ‬في‭ ‬العصريات‭ ‬في‭ ‬مكتبه‭ ‬لأشرح‭ ‬له‭ ‬بعض‭ ‬الدروس،‭ ‬وكان‭ ‬يصيح‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭: ‬why‭ ‬do‭ ‬you‭ ‬bother‭ ‬with‭ ‬this‭ ‬kind‭ ‬of‭ ‬nonsense?‭ ‬لماذا‭ ‬تأبه‭ ‬لمثل‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬الفارغ؟‭ (‬فهمت‭ ‬مغزى‭ ‬تساؤله‭ ‬الاستنكاري‭ ‬لاحقا‭ ‬عندما‭ ‬عملت‭ ‬مدرسا‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬واكتشفت‭ ‬أن‭ ‬‮«‬النحو‮»‬‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬فروع‭ ‬المادة‭ ‬تنفيرا‭ ‬للطلاب‭ ‬منها‭ ‬فامتنعت‭ ‬عن‭ ‬تدريس‭ ‬قواعد‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬بالطرق‭ ‬التقليدية‭ ‬في‭ ‬خروج‭ ‬صريح‭ ‬عن‭ ‬المنهج‭ ‬المقرر‭).‬

ودخلت‭ ‬مطحنة‭ ‬أخرى‭ ‬للفوز‭ ‬بمقعد‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬الرسمية‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬السودان‭ (‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭)‬،‭ ‬وكان‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬فصلي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬قبل‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬ببضعة‭ ‬أشهر،‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬قياديي‭ ‬الاتحاد‭ ‬الطلابي‭ ‬بسبب‭ ‬مناهضتنا‭ ‬لحكومة‭ ‬الفريق‭ ‬إبراهيم‭ ‬عبود‭ ‬العسكرية،‭ ‬فجلست‭ ‬للامتحان‭ ‬‮«‬من‭ ‬المنازل‮»‬،‭ ‬وحصل‭ ‬خير،‭ ‬وتم‭ ‬قبولي‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الحقوق‭/ ‬القانون،‭ ‬ولكن‭ ‬عشقي‭ ‬للإنجليزية‭ ‬حملني‭ ‬على‭ ‬هجرها‭ ‬والانتقال‭ ‬الى‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬جبر‭ ‬ولا‭ ‬حساب،‭ ‬واجتزت‭ ‬سنوات‭ ‬الدراسة‭ ‬بالمزيكة،‭ ‬ودون‭ ‬كبير‭ ‬عناء‭.. ‬وفي‭ ‬الجامعة‭ ‬توسعت‭ ‬مداركي،‭ ‬وعرفت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ألوانا‭ ‬كثيرة‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬غير‭ ‬الروايات‭ ‬ودواوين‭ ‬الشعر‭ ‬تستحق‭ ‬القراءة،‭ ‬وفيها‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬لغتي‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬عاجزة‮»‬،‭ ‬فطفقت‭ ‬أقرأ‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يقع‭ ‬يدي‭ ‬من‭ ‬نتاج‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية،‭ ‬وقرأت‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي،‭ ‬وبسبب‭ ‬السجالات‭ ‬السياسية‭ ‬المحتدمة‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أخوض‭ ‬غمارها‭ ‬بالإعراب‭ ‬عن‭ ‬رأيي‭ ‬بمقالات‭ ‬مطولة‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬اليومية،‭ ‬وكانت‭ ‬جريدة‭ ‬الصحافة‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬نشر‭ ‬مقال‭ ‬لي،‭ ‬وأحسست‭ ‬وقتها‭ ‬بأنني‭ ‬في‭ ‬قامة‭ ‬عبدالحليم‭ ‬حافظ،‭ ‬وخاصة‭ ‬أن‭ ‬المقال‭ ‬كان‭ ‬ردا‭ ‬على‭ ‬مقال‭ ‬لسفيرنا‭ ‬وقتها‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬يعقوب‭ ‬عثمان‭.. ‬رأسي‭ ‬برأس‭ ‬سفير‭.. ‬يا‭ ‬للعظمة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا