عالم يتغير
فوزية رشيد
ملتقى المبدعات: عُمان والاستثمار في الهويّة والأصالة!
{ في ملتقى المبدعات العربيات الثالث الذي أقيم في مسقط 29 أبريل الماضي، وكنت من المشاركين فيه باعتباري من اللجنة التأسيسية ومن المكرّمات، وكانت زيارتي الأولى لمسقط، فإن ما شدني في العاصمة العمانية إلى جانب طيبة أهلها المعروفين بها، هو ذلك (الاستثمار في الهويّة والأصالة) رغم مظاهر النهضة العمرانية وشق الطرقات في الجبال الوعرة، والأنظمة الحديثة في جميع المؤسسات والوزارات، إلا أن إصرار «الجيل العماني الراهن» على الاستثمار في تاريخه وماضيه العريق والحفاظ على لباسه الوطني ولغته وهويته، بل حتى «الأوركسترا السلطانية» وظهور المشاركات والمشاركين فيها باللباس العماني التقليدي، كل ذلك وغيره كان يشكل عامل جذب كبير حتى بالنسبة إليّ كخليجية، وخاصة أننا في زمن واقعين فيه تحت حوافر (التطرّف في الحداثة)، وتذويب الهويات والخصوصيات وملامح التراث والتاريخ في البلدان! حتى بدت المظاهر الحياتية تشبه حبات المسبحة المتشابهة بذات النكهة العمرانية والشوارع والمطاعم وغيرها، فلم تعد للشعوب أي قدرة على معرفة ما تمتلكه من تاريخ وحضارة وخصوصية وهويّة وقيم وجماليات في العمران القديم؛ وبالتالي لم تعد تعتز بما لا تعرفه عن نفسها وبلدها!
{ في اليوم الثاني للملتقى قطعنا المسافة نحو «نزوى السياحية» وهي مدينة قديمة، حيث أخذنا الترحال والتجوال بدءا من وجبة الغذاء العمانية (الشوي) وهي عبارة عن ذبيحة يتم طبخها بالدفن في الأرض، إلى التجوال في عربات «نزوى» السياحية المكشوفة والمريحة مع مرشد سياحي لكل عربة لندخل مع الطرقات والبيوت القديمة إلى الماضي العريق والحارات الأثرية، وحيث التراث العماني يطلّ بأسراره العميقة! ومن قلعة نزوى إلى البوابات التاريخية المسماة بـ«الصباحات» إلى الأسوار التاريخية والأفلاج والمساجد القديمة وبيوت الطين. وأثناء التجوال كانت النزل أو أماكن الإقامة الأثرية أكثر من ينزل فيها من الأجانب، مثلما أكثر الحشود والسواح في السوق القديم أيضا منهم!
{ الجميل واللافت أيضا هو استثمار عدد من الشباب العماني من «ولاية نزوى» في مجموعة من المنازل القديمة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين وإعادة ترميمها لتكون مؤهلة وقابلة لتجربة «الإقامة» فيها بالطابع التراثي العماني القديم، مع إدخال بعض الحداثة عليها بما لا يخل إطلاقا بهويتها الأثرية، وهذا ما جعلها مركز جذب للسواح خاصة الأجانب، الذين عادة ما يبحثون عما يميز الشعوب والدول الأخرى من تاريخ وتراث ومعالم حضارية قديمة، وهذا ما قدمته «نزل الدار» لهم بإطلالاتها على القلاع والمقاهي والبيوت القديمة والأزقة مع ما يتوافر فيها من حدائق وبرك سباحة حديثة!
{ قانونيا وحتى وقت قريب وربما إلى الآن، فإن المعمار الأفقي باللون الأبيض أو الحليبي هو الرائج في كل مسقط، وبهندسة معمارية قديمة تشير إلى الذاكرة التاريخية للمباني القديمة في عمان، وليمتزج التاريخ بالشوارع المنظمة وبالنخيل والأشجار والبحر في مناطق مسقط المطلة عليه، فيبدو المشهد ساحرا وكأن الشوارع والمباني تتنفس التاريخ والطبيعة معا! إنه مرة أخرى الإصرار العماني على حفظ الأصالة والتراث المعماري، وربما هذا ما يميز عمان عن الدول الخليجية الأخرى من حيث، وبشكل واضح، تغليب ذائقتها التاريخية الأصيلة على الذائقة الحداثية رغم استعانتها بها!
{ قبل أعوام زرت «صلالة» في جولة سياحية، وحيث الطبيعة الباذخة خاصة في شهور الصيف، تجعل من جغرافيا عمان متنوعة وأغلبها مناطق جبلية ممتدة، مما يترك لدى السائح بشكل عام إمكانية التجوال في المدن والأماكن التي تحمل كل منها خصوصيتها، وبما تم حفظه في «المتحف الوطني» وعدد آخر من المتاحف التي ترصد سيرورة «عمان عبر الزمان»، والتي تمتد كما حضارات الجزيرة العربية وحضارة «دلمون» إلى آلاف السنين قبل الميلاد، وأكثر بكثير مما يعتقد البعض!
{ وبما أن الملتقى كان للمبدعات العربيات، فإن التعرف على إسهامات المرأة العمانية على المستوى الإبداعي كان مهما، مثلما كان لافتا دورها في مستقبل الإبداع البشري مع التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، وعرض قصص النجاح والتحديات، التي خرجت منها المرأة العمانية وهي تخطو بثبات في مسيرة نهضة بلادها! ولعل ما لمسناه من الوزيرات وعلى رأسهن وزيرة التنمية الاجتماعية من دماثة خلق وتواضع هو ما كان يميز كل من كنا نلتقيه في هذا الملتقى من شخصيات رسمية ومن الشعب العماني.
{ الشباب العماني، وخاصة أصحاب الاستثمار في الهوية التاريخية لعمان، واعون جدا لقيمة تاريخهم ونكهة حضارتهم القديمة، وأهمية أصالتهم وكيفية الحفاظ عليها حتى لا تغرق بلدهم في هوية الآخرين باسم الحداثة، فتضيع الخصوصية التاريخية والحضارية في معمعة التشابه الإسمنتي للعمران الغربي وقيمه! هكذا حدثني أحدهم. كم هو ممتع أن يرى السائح خاصة الأجنبي ما يختلف عما اعتاد عليه، سواء من عادات وتقاليد أو ثقافة أو لغة أو هويّة أو عمران! تلك أسرار الوصفات الناجحة للسياحة التي ما إن تجدها في بلد ما حتى تعشقه!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك