العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤١ - الخميس ٠٢ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

الأذان والإحساس بالأمان

كنت‭ ‬عائدا‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬رحلة‭ ‬الى‭ ‬بلد‭ ‬أوروبي‭ ‬كانت‭ ‬لغير‭ ‬غرض‭ ‬السياحة‭/‬الصياعة،‭ ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬مقر‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬العاصمة‭ ‬القطرية‭ ‬الدوحة،‭ ‬ولأنني‭ ‬أبله‭ ‬وأهبل‭ ‬وعبيط،‭ ‬وربما‭ ‬لخلل‭ ‬في‭ ‬الذاكرة،‭ ‬فقد‭ ‬استخدمت‭ ‬شركة‭ ‬طيران‭ ‬عربية،‭ ‬فكان‭ ‬طبيعياً‭ ‬ألا‭ ‬تصل‭ ‬أمتعتي‭ ‬معي،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أقوم‭ ‬بتسجيل‭ ‬بلاغ‭ ‬بذلك‭ ‬لدى‭ ‬مندوب‭ ‬شركة‭ ‬الطيران‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬طلب‭ ‬مني‭ ‬تقديم‭ ‬وصف‭ ‬للحقائب‭: ‬ألوانها‭ ‬وأشكالها‭ ‬ومحتوياتها،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنها‭ ‬جميعها‭ ‬سمراوات‭ ‬من‭ ‬عائلات‭ ‬محافظة،‭ ‬وإن‭ ‬في‭ ‬ركن‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬قطعة‭ ‬مثلثة‭ ‬الشكل‭ ‬من‭ ‬الذهب‭ ‬الخالص،‭ ‬وكذا‭ ‬ساعة‭ ‬رولكس‭ ‬من‭ ‬الاسبستوس‭ ‬عيار‭ ‬178‭ ‬قيراطا‭.‬

غضب‭ ‬الرجل‭ ‬وقال‭ ‬لي‭ ‬إنه‭ ‬يريد‭ ‬وصفاً‭ ‬دقيقاً‭ ‬للحقائب‭ ‬ولا‭ ‬داعي‭ ‬للتريقة‭ ‬وخفة‭ ‬الدم،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنني‭ ‬لست‭ ‬مطالباً‭ ‬بمعرفة‭ ‬وصف‭ ‬حقائبي‭ ‬وإنني‭ ‬بالفعل‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ألوانها،‭ (‬لاحظت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬الحقائب‭ ‬في‭ ‬سير‭ ‬الامتعة‭ ‬الكهربائي‭ ‬في‭ ‬المطارات‭ ‬متشابهة‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬التصميم‭ ‬واللون‭ ‬الداكن‭).‬

المهم‭ ‬قلت‭ ‬لموظف‭ ‬شركة‭ ‬الطيران‭ ‬الذي‭ ‬طالبني‭ ‬بملء‭ ‬استمارة‭ ‬الأمتعة‭ ‬المفقودة‭ ‬إنني‭ ‬عرفت‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬أن‭ ‬لوني‭ ‬أسمر‭ ‬وفي‭ ‬رواية‭ ‬أخرى‭ ‬أسود‭ ‬لأنني‭ ‬أعاني‭ ‬عمى‭ ‬الألوان‭.‬

المهم‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬فجرا‭ ‬وكان‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬هو‭ ‬صوت‭ ‬المؤذنين‭ ‬يتناهى‭ ‬إلى‭ ‬مسامعي‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات،‭ ‬وكنت‭ ‬محروما‭ ‬بضعة‭ ‬أسابيع‭ ‬من‭ ‬سماع‭ ‬ذلك‭ ‬النداء‭ ‬الذي‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬بالأمان،‭ ‬فبحكم‭ ‬نشأتي‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬لم‭ ‬تعرف‭ ‬الكهرباء،‭ ‬حيث‭ ‬كل‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬ترويها‭ ‬الأمهات‭ ‬والجدات‭ ‬عن‭ ‬الجن‭ ‬والعفاريت،‭ ‬كان‭ ‬اذان‭ ‬الفجر‭ ‬يعني‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلينا‭ ‬رحيل‭ ‬الظلام‭ ‬بكل‭ ‬تجاويفه‭ ‬المخيفة،‭ ‬وكان‭ ‬صوت‭ ‬المؤذن‭ ‬هو‭ ‬‮«‬صفارة‭ ‬الأمان‮»‬‭.‬

وإلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬أخاف‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما‭ ‬من‭ ‬الظلام،‭ ‬وربما‭ ‬فاقم‭ ‬ضعف‭ ‬البصر‭ ‬ضيقي‭ ‬وخوفي‭ ‬من‭ ‬الظلام،‭ ‬ولي‭ ‬معارف‭ ‬يملكون‭ ‬الشجاعة‭ ‬ويعلنون‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يستطيعون‭ ‬النوم‭ ‬في‭ ‬الظلام،‭ ‬ولو‭ ‬وضعوا‭ ‬لي‭ ‬كنزا‭ ‬يساوي‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬مقبرة‭ ‬وقالوا‭ ‬لي‭ ‬اذهب‭ ‬وخذه‭ ‬ليلاً‭ ‬ليكون‭ ‬ملكاً‭ ‬خالصاً‭ ‬لك‭ ‬لدفعت‭ ‬لمن‭ ‬يقدم‭ ‬لي‭ ‬العرض‭ ‬رشوة‭ ‬كي‭ ‬يعفيني‭ ‬من‭ ‬ارتياد‭ ‬المقبرة‭ ‬ليلاً‭! (‬بكل‭ ‬صراحة‭ ‬فإنني‭ ‬ارتعد‭ ‬عند‭ ‬المرور‭ ‬بمقبرة‭ ‬بمفردي‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬رابعة‭ ‬النهار‭).‬

المهم‭ ‬أنه‭ ‬منذ‭ ‬طفولتي‭ ‬الباكرة‭ ‬صار‭ ‬لأذان‭ ‬الفجر‭ ‬وقع‭ ‬طيب‭ ‬في‭ ‬نفسي،‭ ‬وعندما‭ ‬تسافر‭ ‬إلى‭ ‬بلاد‭ ‬لا‭ ‬يرتفع‭ ‬فيها‭ ‬صوت‭ ‬المؤذن‭ ‬ثم‭ ‬تعود‭ ‬لتسمعه‭ ‬فإنه‭ ‬يجعلك‭ ‬تدرك‭ ‬أنك‭ ‬في‭ ‬دارك‭ ‬وبين‭ ‬أهلك،‭ ‬فعندما‭ ‬يتناهى‭ ‬صوت‭ ‬المؤذن‭ ‬إلى‭ ‬أذنيك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الاتجاهات‭ ‬تكون‭ ‬حتما‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬تربط‭ ‬بين‭ ‬سكانه‭ ‬رابطة‭ ‬قوية‭ ‬تبدأ‭ ‬بالتكبير‭ ‬وتنتهي‭ ‬بـ«السلام‮»‬‭.‬

نعم‭ ‬هناك‭ ‬مخاوف‭ ‬تلازمنا‭ ‬منذ‭ ‬الطفولة،‭ ‬ولكن‭ ‬تربيتنا‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لنا‭ ‬كـ«رجال‮»‬‭ ‬بإظهارها،‭ ‬كما‭ ‬أنه‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬أبا‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬واجبه‭ ‬أن‭ ‬يحصن‭ ‬عياله‭ ‬ضد‭ ‬الخوف‭ ‬بأن‭ ‬يتخلص‭ ‬من‭ ‬المخاوف‭ ‬المترسبة‭ ‬في‭ ‬دواخله‭ ‬أو‭ ‬يتغلب‭ ‬عليها‭ ‬كي‭ ‬يعطيهم‭ ‬الإحساس‭ ‬بالأمان‭. ‬

‭(‬لا‭ ‬أخفي‭ ‬على‭ ‬عيالي‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬القطط‭ ‬ليلا،‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬صورة‭ ‬واسم‭ ‬فاروق‭ ‬الفيشاوي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬تسبب‭ ‬لي‭ ‬الارتعاش‭ ‬وحمى‭ ‬النفاس‭).‬

الإحساس‭ ‬بالأمان‭ ‬والاطمئنان‭ ‬لا‭ ‬أجده‭ ‬قط‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬بلد‭ ‬أوروبي‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬شوارع‭ ‬مدنه‭ ‬تشع‭ ‬بالضياء،‭ ‬وتعج‭ ‬برجال‭ ‬الشرطة‭. ‬فهناك‭ ‬تدرك‭ ‬غريزياً‭ ‬أنك‭ ‬غريب‭ ‬ديار‭ ‬وغريب‭ ‬أهل،‭ ‬وأن‭ ‬وجودك‭ ‬غير‭ ‬مرغوب‭ ‬فيه،‭ ‬وأنك‭ ‬قد‭ ‬تتعرض‭ ‬لاعتداء‭ ‬بسبب‭ ‬لون‭ ‬بشرتك‭ ‬أو‭ ‬لأنك‭ (‬لو‭ ‬كنت‭ ‬امرأة‭) ‬ترتدي‭ ‬زياً‭ ‬يوحي‭ ‬بانتمائك‭ ‬إلى‭ ‬أمة‭ ‬الإسلام‭. ‬وقد‭ ‬يعتدي‭ ‬عليك‭ ‬أحدهم‭ ‬بلا‭ ‬سبب‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬لون‭ ‬بشرتك‭ ‬أو‭ ‬هويتك‭ ‬الدينية‭. ‬

ولكن‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬فإن‭ ‬احتمالات‭ ‬التعرض‭ ‬للمخاطر‭ ‬الجسدية‭ ‬والنهب‭ ‬تحت‭ ‬التهديد‭ ‬بالسلاح‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬تزداد‭ ‬كلما‭ ‬ارتدت‭ ‬مناطق‭ ‬معينة‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬تنشط‭ ‬فيها‭ ‬البغايا‭ ‬وتجارة‭ ‬المخدرات،‭ ‬وتكثر‭ ‬فيها‭ ‬الأندية‭ ‬الليلية‭ ‬أو‭ ‬توجد‭ ‬فيها‭ ‬العصابات‭ ‬الشبابية‭.‬

عندما‭ ‬كنت‭ ‬أدرس‭ ‬الإنتاج‭ ‬البرامجي‭ ‬التلفزيوني‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬أحد‭ ‬أساتذتي‭ ‬يقوم‭ ‬بتصوير‭ ‬برنامج‭ ‬تلفزيوني‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬لندن‭ ‬حيث‭ ‬يسكن‭ ‬‮«‬ربعنا‭ ‬السود‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬يحرص‭ ‬على‭ ‬اصطحابي‭ ‬معه‭ ‬كي‭ ‬يضمن‭ ‬سلامته‭. ‬يعني‭ ‬أنا‭ ‬الأجنبي‭ ‬الأسود‭ ‬كنت‭ ‬كفيله‭ ‬في‭ ‬بلده،‭ ‬أما‭ ‬اليوم‭ ‬فإن‭ ‬الأسود‭ ‬والأبيض‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬لا‭ ‬يأمنان‭ ‬شر‭ ‬الأسود‭ ‬ولا‭ ‬الأبيض‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا