زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن الأمية الحِرفية/اليدوية
بسبب عقدة مزمنة سأحدثكم عنها للمرة العاشرة ربما، فإنني أعشق امتلاك أدوات الفك والربط والدق واللحام مثل المثقاب الكهربائي (دريل) والمطارق والزرديات والكماشات والمفكات، والعقدة المزمنة منشؤها أنني لا أتمتع بمهارات يدوية، ولا قدمية (من القدم التي هي نهاية الساق/الرجل)، ولا أستطيع إصلاح أي عطل يلحق بأي شيء في البيت، بل إن ضرب مسمار طوله سنتيمتران على لوح خشبي يكلفني بضعة مسامير وإصابات في أصابعي، وأذكر أنني خلال إقامتي في لندن بلغت مالكة البيت الذي كنت أقيم فيه وعائلتي أن قفل باب إحدى الغرف لا يعمل، فجاءتني ومدّت لي قفلا جديدا، فقلت لها: وماذا أفعل به؟ نظرت إلي في استنكار وخرجت وأتت من سيارتها ببعض الأدوات ونزعت القفل القديم وقامت بتركيب القفل الجديد خلال دقائق وأنا أتصبب عرقا من الخجل.
وقد يقول قائل: لا ذنب لك في ذلك لأن معظم الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح وصيانة لم تكن موجودة على أيام صباك وطفولتك! هذا صحيح؛ فعندما كنا صغارا لم تكن هناك أنابيب ماء وحنفيات، ومن ثم لم تكن هناك بالوعات، وكنا نستحم في «الطشت» ثم نسكب الماء الناجم عن الاستحمام في أي ركن في البيت أو الشارع، ولم تكن هناك أدوات كهربائية، دعك من كل هذا، والله لم أتعامل مع البطانية إلا بعد دخول المدرسة المتوسطة وقبلها كانت أغطية البرد في بيتنا وكافة البيوت حولنا تصنع من جلود الماعز بعد دبغها (وتسمى الفروة)، ولذلك كان من المألوف أن يستيقظ الواحد من النوم وفمه مليء بشعر الغنم المتساقط من الفروة، وفي المدرسة المتوسطة وفرت لنا الحكومة السكن الداخلي وأعطتنا بطانيات وكانت تلك طفرة حضارية كبرى في مسيرة حياتي.
وأعرف أن ملايين العرب مثلي يحملون شهادات ذات أسماء طنانة ولكن منهم من لا يحسنون استبدال أسطوانة الغاز الفارغة بأخرى ممتلئة، لأن النظام التعليمي لم يمنحنا أي مهارات يدوية، وبكل خجل أقول إنني صحوت ذات صباح ووجدت أحد إطارات سيارتي مسطحا أي فارغاً من الهواء، أي مبنشرا كما يقال بالعربيزية لأن أصل الكلمة الإنجليزي «بنكْشر» وليس بنشر، وأخرجت المعدات اللازمة لفك الإطار المعطوب ورفع السيارة بالجيك (والصحيح في اصلها الإنجليزي «جاك»)، واكتشفت أنه لا بد من ربط مكونات الرافعة/الجاك بطريقة معينة قبل استخدامها، وأمضيت قرابة الساعة وأنا أجرب مختلف الطرق لتجميع أجزاء الرافعة، وفشلت كل «التجارب» فلجأت إلى التكنولوجيا، واتصلت بأحد أصدقائي على هاتفه الجوال وقلت له بكل بجاحة: عايزك في موضوع ضروري وعاجل. انزعج الصديق وانطلق بسيارته حتى بلغ بيتي خلال دقائق معدودة، وما إن رآني حتى صاح: خير.. شنو الحكاية؟ وتعجب عندما وجدني أبتسم.. قلت له بصوت يحنن قلب نتنياهو إنني لا أعرف كيف أستبدل إطار السيارة الفارغ بواحد ممتلئ بالهواء، وبحسب صاحبي في بادئ الأمر أنني «أهزر» وأتغشمر ولكنه نظر إلى السيارة وأدرك أنني «جاد» فاستشاط غضبا: أسيب شغلي عشان واحد زيك فاشل ما يعرف يفك ويركب إطار السيارة؟ والله.. ولكنني لم أتركه يكمل، لأنني أعرف بحكم أنني سوداني ماذا سيكون الحلفان/القسم، وتوسلت إليه أن يفك ويركب الإطار لأنني فعلاً «فاشل».
هدأ صديقي قليلاً وقدم لي عرضاً لم أستطع أن أرفضه، وهو أن يشرح لي طريقة تجميع الرافعة والفك والربط على أن أتولى باقي المهمة بنفسي، وتركني وذهب، وقمت بفك الإطار الفارغ وربط الإطار الاحتياطي مكانه، ثم توجهت إلى محل «بنشر» لتعبئة الإطار الفارغ بالهواء، ولحسن حظي انتبه العامل في المحل إلى الإطار الذي توليت تركيبه بنفسي وقال: منو حمار هادا يسوي تاير (إطار) هادا شكل.. سيارة يروح تلاتة أربعة كيلو تاير يروح صوب وسيارة يروح صوب وأنت يصير في موت!! كان الإطار بالمقلوب، الجزء الخارجي منه «إلى الداخل»، ومن فرط خجلي قلت له إنها سيارة زوجتي، وأنها لا تعرف حتى قيادة سيارة لعبة بالريموت كونترول.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك