العدد : ١٦٨٣٩ - الثلاثاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٣٩ - الثلاثاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن الأمية الحِرفية/اليدوية

بسبب‭ ‬عقدة‭ ‬مزمنة‭ ‬سأحدثكم‭ ‬عنها‭ ‬للمرة‭ ‬العاشرة‭ ‬ربما،‭ ‬فإنني‭ ‬أعشق‭ ‬امتلاك‭ ‬أدوات‭ ‬الفك‭ ‬والربط‭ ‬والدق‭ ‬واللحام‭ ‬مثل‭ ‬المثقاب‭ ‬الكهربائي‭ (‬دريل‭) ‬والمطارق‭ ‬والزرديات‭ ‬والكماشات‭ ‬والمفكات،‭ ‬والعقدة‭ ‬المزمنة‭ ‬منشؤها‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أتمتع‭ ‬بمهارات‭ ‬يدوية،‭ ‬ولا‭ ‬قدمية‭ (‬من‭ ‬القدم‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬نهاية‭ ‬الساق‭/‬الرجل‭)‬،‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬إصلاح‭ ‬أي‭ ‬عطل‭ ‬يلحق‭ ‬بأي‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬ضرب‭ ‬مسمار‭ ‬طوله‭ ‬سنتيمتران‭ ‬على‭ ‬لوح‭ ‬خشبي‭ ‬يكلفني‭ ‬بضعة‭ ‬مسامير‭ ‬وإصابات‭ ‬في‭ ‬أصابعي،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬خلال‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬بلغت‭ ‬مالكة‭ ‬البيت‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أقيم‭ ‬فيه‭ ‬وعائلتي‭ ‬أن‭ ‬قفل‭ ‬باب‭ ‬إحدى‭ ‬الغرف‭ ‬لا‭ ‬يعمل،‭ ‬فجاءتني‭ ‬ومدّت‭ ‬لي‭ ‬قفلا‭ ‬جديدا،‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭: ‬وماذا‭ ‬أفعل‭ ‬به؟‭ ‬نظرت‭ ‬إلي‭ ‬في‭ ‬استنكار‭ ‬وخرجت‭ ‬وأتت‭ ‬من‭ ‬سيارتها‭ ‬ببعض‭ ‬الأدوات‭ ‬ونزعت‭ ‬القفل‭ ‬القديم‭ ‬وقامت‭ ‬بتركيب‭ ‬القفل‭ ‬الجديد‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭ ‬وأنا‭ ‬أتصبب‭ ‬عرقا‭ ‬من‭ ‬الخجل‭.‬

وقد‭ ‬يقول‭ ‬قائل‭: ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬لك‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬معظم‭ ‬الأشياء‭ ‬التي‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إصلاح‭ ‬وصيانة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬صباك‭ ‬وطفولتك‭! ‬هذا‭ ‬صحيح؛‭ ‬فعندما‭ ‬كنا‭ ‬صغارا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أنابيب‭ ‬ماء‭ ‬وحنفيات،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬بالوعات،‭ ‬وكنا‭ ‬نستحم‭ ‬في‭ ‬‮«‬الطشت‮»‬‭ ‬ثم‭ ‬نسكب‭ ‬الماء‭ ‬الناجم‭ ‬عن‭ ‬الاستحمام‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬ركن‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬أو‭ ‬الشارع،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬هناك‭ ‬أدوات‭ ‬كهربائية،‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬والله‭ ‬لم‭ ‬أتعامل‭ ‬مع‭ ‬البطانية‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬دخول‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وقبلها‭ ‬كانت‭ ‬أغطية‭ ‬البرد‭ ‬في‭ ‬بيتنا‭ ‬وكافة‭ ‬البيوت‭ ‬حولنا‭ ‬تصنع‭ ‬من‭ ‬جلود‭ ‬الماعز‭ ‬بعد‭ ‬دبغها‭ (‬وتسمى‭ ‬الفروة‭)‬،‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬المألوف‭ ‬أن‭ ‬يستيقظ‭ ‬الواحد‭ ‬من‭ ‬النوم‭ ‬وفمه‭ ‬مليء‭ ‬بشعر‭ ‬الغنم‭ ‬المتساقط‭ ‬من‭ ‬الفروة،‭ ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬وفرت‭ ‬لنا‭ ‬الحكومة‭ ‬السكن‭ ‬الداخلي‭ ‬وأعطتنا‭ ‬بطانيات‭ ‬وكانت‭ ‬تلك‭ ‬طفرة‭ ‬حضارية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬حياتي‭.‬

وأعرف‭ ‬أن‭ ‬ملايين‭ ‬العرب‭ ‬مثلي‭ ‬يحملون‭ ‬شهادات‭ ‬ذات‭ ‬أسماء‭ ‬طنانة‭ ‬ولكن‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬استبدال‭ ‬أسطوانة‭ ‬الغاز‭ ‬الفارغة‭ ‬بأخرى‭ ‬ممتلئة،‭ ‬لأن‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬لم‭ ‬يمنحنا‭ ‬أي‭ ‬مهارات‭ ‬يدوية،‭ ‬وبكل‭ ‬خجل‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬صحوت‭ ‬ذات‭ ‬صباح‭ ‬ووجدت‭ ‬أحد‭ ‬إطارات‭ ‬سيارتي‭ ‬مسطحا‭ ‬أي‭ ‬فارغاً‭ ‬من‭ ‬الهواء،‭ ‬أي‭ ‬مبنشرا‭ ‬كما‭ ‬يقال‭ ‬بالعربيزية‭ ‬لأن‭ ‬أصل‭ ‬الكلمة‭ ‬الإنجليزي‭ ‬‮«‬بنكْشر‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬بنشر،‭ ‬وأخرجت‭ ‬المعدات‭ ‬اللازمة‭ ‬لفك‭ ‬الإطار‭ ‬المعطوب‭ ‬ورفع‭ ‬السيارة‭ ‬بالجيك‭ (‬والصحيح‭ ‬في‭ ‬اصلها‭ ‬الإنجليزي‭ ‬‮«‬جاك‮»‬‭)‬،‭ ‬واكتشفت‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬ربط‭ ‬مكونات‭ ‬الرافعة‭/‬الجاك‭ ‬بطريقة‭ ‬معينة‭ ‬قبل‭ ‬استخدامها،‭ ‬وأمضيت‭ ‬قرابة‭ ‬الساعة‭ ‬وأنا‭ ‬أجرب‭ ‬مختلف‭ ‬الطرق‭ ‬لتجميع‭ ‬أجزاء‭ ‬الرافعة،‭ ‬وفشلت‭ ‬كل‭ ‬‮«‬التجارب‮»‬‭ ‬فلجأت‭ ‬إلى‭ ‬التكنولوجيا،‭ ‬واتصلت‭ ‬بأحد‭ ‬أصدقائي‭ ‬على‭ ‬هاتفه‭ ‬الجوال‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬بكل‭ ‬بجاحة‭: ‬عايزك‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬ضروري‭ ‬وعاجل‭. ‬انزعج‭ ‬الصديق‭ ‬وانطلق‭ ‬بسيارته‭ ‬حتى‭ ‬بلغ‭ ‬بيتي‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة،‭ ‬وما‭ ‬إن‭ ‬رآني‭ ‬حتى‭ ‬صاح‭: ‬خير‭.. ‬شنو‭ ‬الحكاية؟‭ ‬وتعجب‭ ‬عندما‭ ‬وجدني‭ ‬أبتسم‭.. ‬قلت‭ ‬له‭ ‬بصوت‭ ‬يحنن‭ ‬قلب‭ ‬نتنياهو‭ ‬إنني‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬كيف‭ ‬أستبدل‭ ‬إطار‭ ‬السيارة‭ ‬الفارغ‭ ‬بواحد‭ ‬ممتلئ‭ ‬بالهواء،‭ ‬وبحسب‭ ‬صاحبي‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬أهزر‮»‬‭ ‬وأتغشمر‭ ‬ولكنه‭ ‬نظر‭ ‬إلى‭ ‬السيارة‭ ‬وأدرك‭ ‬أنني‭ ‬‮«‬جاد‮»‬‭ ‬فاستشاط‭ ‬غضبا‭: ‬أسيب‭ ‬شغلي‭ ‬عشان‭ ‬واحد‭ ‬زيك‭ ‬فاشل‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬يفك‭ ‬ويركب‭ ‬إطار‭ ‬السيارة؟‭ ‬والله‭.. ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أتركه‭ ‬يكمل،‭ ‬لأنني‭ ‬أعرف‭ ‬بحكم‭ ‬أنني‭ ‬سوداني‭ ‬ماذا‭ ‬سيكون‭ ‬الحلفان‭/‬القسم،‭ ‬وتوسلت‭ ‬إليه‭ ‬أن‭ ‬يفك‭ ‬ويركب‭ ‬الإطار‭ ‬لأنني‭ ‬فعلاً‭ ‬‮«‬فاشل‮»‬‭.‬

هدأ‭ ‬صديقي‭ ‬قليلاً‭ ‬وقدم‭ ‬لي‭ ‬عرضاً‭ ‬لم‭ ‬أستطع‭ ‬أن‭ ‬أرفضه،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬لي‭ ‬طريقة‭ ‬تجميع‭ ‬الرافعة‭ ‬والفك‭ ‬والربط‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أتولى‭ ‬باقي‭ ‬المهمة‭ ‬بنفسي،‭ ‬وتركني‭ ‬وذهب،‭ ‬وقمت‭ ‬بفك‭ ‬الإطار‭ ‬الفارغ‭ ‬وربط‭ ‬الإطار‭ ‬الاحتياطي‭ ‬مكانه،‭ ‬ثم‭ ‬توجهت‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬‮«‬بنشر‮»‬‭ ‬لتعبئة‭ ‬الإطار‭ ‬الفارغ‭ ‬بالهواء،‭ ‬ولحسن‭ ‬حظي‭ ‬انتبه‭ ‬العامل‭ ‬في‭ ‬المحل‭ ‬إلى‭ ‬الإطار‭ ‬الذي‭ ‬توليت‭ ‬تركيبه‭ ‬بنفسي‭ ‬وقال‭: ‬منو‭ ‬حمار‭ ‬هادا‭ ‬يسوي‭ ‬تاير‭ (‬إطار‭) ‬هادا‭ ‬شكل‭.. ‬سيارة‭ ‬يروح‭ ‬تلاتة‭ ‬أربعة‭ ‬كيلو‭ ‬تاير‭ ‬يروح‭ ‬صوب‭ ‬وسيارة‭ ‬يروح‭ ‬صوب‭ ‬وأنت‭ ‬يصير‭ ‬في‭ ‬موت‭!! ‬كان‭ ‬الإطار‭ ‬بالمقلوب،‭ ‬الجزء‭ ‬الخارجي‭ ‬منه‭ ‬‮«‬إلى‭ ‬الداخل‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬خجلي‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬إنها‭ ‬سيارة‭ ‬زوجتي،‭ ‬وأنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬حتى‭ ‬قيادة‭ ‬سيارة‭ ‬لعبة‭ ‬بالريموت‭ ‬كونترول‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا