زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أين نحن من أجدادنا
يحلو لي التباهي بين الحين والآخر بتركة جدي لأبي وكان يوصف بالفنجري، والفنجري عند السودانيين والمصريين هو الذي يبذل ماله بسخاء ومشهود له بالشهامة والكرم، وقد تقال الكلمة في وصف شخص يفعل ذلك من باب التباهي والفشخرة، وكان جدي لأبي رجلا فنجريا برجوازيا، و«كان» يملك مساحات طيبة من الأراضي الخصبة، ولو حسبت اليوم نصيبي من الأراضي التي ورثناها عنه، لما فزت بأكثر من مساحة قبر، والسر في ذلك أن جدي لأبي قايض أراضي زراعية شاسعة بحمير. نعم، فكلما أعجب بحمار ساوم صاحبه: أعطيك ربع فدان مقابل الحمار، وحمار أبيض على حمار بني على حمار أسود على حمار بيج وآخر تركواز، صار جدي يملك قطيعاً من الحمير «آخر موديل»، ويقال إن عمدة بلدتنا كان يغار من جدي لأنه يملك أسطولا من الحمير ذات الدفع الرباعي، بينما كان هو (العمدة) يملك حمارا واحدا، وبالتالي لم يترك جدي لورثته سوى قطعة أرض بيضاء غير صالحة للزراعة من فرط تشبعها بالأملاح.
واعتقد أن جدي عاش هانئ البال مستمتعاً بحميره المزودة بسروج جميلة الصنع. فقد كان ذلك زمن الاستقرار المادي والنفسي. وكان كل شيء يسير على حاله لعشرات السنين: ليس هناك دولار يصعد ويهبط فتنفجر معه الشرايين وتتصلب الأوردة، أو أسهم تنهار فتنهار معها الأعصاب وتصاب البيوت بالخراب، عندما يصب رب البيت الذي أفلس بسبب الأسهم جام غضبه على أم العيال: أنت امرأة شؤم.. روحي بيت أهلك، وعساكي ما تردين، لأني ما أبي (أريد) أشوف خلقتك.. خلينا نجيبها من قاصرها.. روحي أنت طالق ولعلمك لا ترفعين عليّ دعوى نفقة لأنك ما راح تحصلين شيء يا غراب البين.
جدي كان سعيداً بحميره التي كانت السرعة القصوى لأعلاها لياقة بدنية عشرة كيلومترات في الساعة، وأنا أركب سيارة قوة ألف حمار كل شيء فيها يعمل أتوماتيكياً، وأنا سعيد بها ولكن العيال يريدون مني أن أشتري بي ام دبليو أو لكزس. وأعرف أنه لو فقدت قواي العقلية واشتريت إحدى هاتين السيارتين فإن العيال سيبدأون في الطنطنة: بابا ممكن نشتري لامبورغيني أو فيراري؟ هذا لا يختلف في تقديري عن سؤالي: بابا ممكن تتزوج نانسي عجرم أو هيفاء وهبي؟ يا عيال كل فولة ولها كيال، ومن فضل الله انه ألهم اليابانيين والكوريين أن يصنعوا سيارات يستطيع أمثالي شراءها. ثم أقول لهم: عندما أحرزت نتيجة طيبة عند الانتقال من الصف الثالث إلى الرابع الابتدائي... لا يتركونني أكمل بل يصيحون بصوت واحد: حافظين الموال.. خالك أعطاك حمارا تذهب به إلى المدرسة وصرت من الطبقة الارستقراطية مثل أولاد العمدة وشيخ البلد.
والذنب ليس ذنبنا وحدنا في أننا في حالة هلع وهرولة وتشتت ذهن، ولا نقنع بما لدينا، بل معنيون ببورصة طوكيو والكويت وبمؤشر داو جونز ومجريات الأمور في بورصة هونغ كونغ.. عندما كنا صغارا كانت هناك قواعد متوارثة تحكم سلوك الفرد والجماعة وكان لكل بلدة وقرية منظومة من (اللوائح) غير المكتوبة يلتزم بها الجميع. كنا إذا سمعنا ونحن صبية بأن شخصاً من قرية أخرى تحرش لفظياً بفتاة من حينا، نتربص له ونرجمه بالحجارة وننهال عليه بالسباب حتى يتوارى عن الأنظار بعد افتضاح أمره.. واليوم لا يخاف الناس على بناتهم إلا من أولاد الجيران. وعلى صعيد آخر، قد يلجأ اليك صديق طالباً سلفة - مثلاً - لأنه يريد عرض زوجته الحامل على طبيب خاص، وتكون قادراً على تسليفه ولكنك تتساءل في سرك: طيب لو مات قبل أن يسدد السلفة؟ هل أطالبه بمستند يقر فيه باستدانة المال مني؟ عيب! لا حل سوى أن أعتذر له متعللاً بعدم امتلاكي المبلغ المطلوب.
والشاهد هو أننا نملك أشياء لم يكن أجدادنا يحلمون بها، ولا نعرف لها طعما، وكلما امتلكنا شيئا اكتشفنا أن علينا امتلاك أشياء أخرى، ولكننا لا نعرف مقدار السعادة التي كان يجدونها في القليل الذي كان عندهم. ولهذا يقال إن عين ابن آدم لا يملأها إلا التراب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك