زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ورثت الفقر أبا عن جَد
ظلم ذوي القربى شديد المضاضة، ولك أن تتخيل مدى حزني لأن عيالي عايروني بهذا الأمر أو ذاك، بل استكثروا عليّ الاقتران بأمهم!! عندما كان أكبر عيالي طفلاً صغيرا لم يكن هناك انترنت أو موبايل أو مكدونالدز أو بيرغر كنغ أو بلاي ستيشن أو شعبان عبدالرحيم، وكان منتهى الترف أن اشتري له سندويتش شاورما -وفي المناسبات والأعياد- دجاج كنتاكي، وكان مهووساً بالسيارات، ويود لو يشتري كل السيارات الصغيرة المعروضة في دكاكين الألعاب، ولم أكن ألبي معظم طلباته لأسباب عديدة من بينها أنني أحرص على ان يعرف عيالي أن طلباتهم ليست «أوامر»، ومنها أن إمكاناتي المادية لم تكن تسمح بالبحبحة في الكماليات، وهكذا، وكلما رفضت له طلباً توجه نحو أمه وسألها: ماما ليه ما تزوجتِ راجل غني؟ فتقول له أمه: القسمة والنصيب يا ولدي (وهذه ظاهرها التسليم بالقضاء والقدر وباطنها الشكوى).
وعلى كل حال فقد كان سؤال هذا الولد الاستنكاري عن بؤس الحال المادي لوالده، أفضل من سؤال أخته التي كانت في صغرها تنظر إلى بشرتها السمراء وتسأل أمها: ماما ليه تزوجتِ الراجل الأسود ده؟.. بذمتك أليس أبو الجعافر جديرا بالإعجاب لأنه تحمّل كل تلك الإساءات الطبقية والعنصرية الجارحة ولم يحرم أيا من عياله من الميراث، بل مازال ينفق عليهم قدر طاقته؟
ذلك الولد أكمل تعليمه الجامعي وحصل على وظيفة، وسألني وهو على أعتاب الحياة العملية: كيف يمكن أن أصبح غنياً؟ قلت له: الغبي لا يمكن أن يكون «غنيا»، فاستنكر كلامي هذا، خاصة الجزئية المتعلقة بالغباء، فشرحت له أن غباءه يكمن في أنه اختار مهنة لا يمكن أن تجعل منه غنياً. فقد دخل مجال الإدارة الصحية والطبية، وقلت له إن هناك مهناً لا تسمح لمن يمارسها بالثراء. التدريس مثلاً، والمدرس لا يصبح غنيا حتى لو مارس الدروس الخصوصية عشر ساعات يوميا بعد انتهاء عمله الرسمي لعشرين سنة، وهناك العامل الجيني: ليس في عائلتنا شخص يمكن أن يوصف بالغنى لو مجازاً، واسم عائلتي هو «فقير».. أي والله العظيم بالتحديد تسمى عائلتنا وهي نوبية «فقير نَسَّي».. والكلمة الأخيرة بفتح النون وكسر السين المشددة تعني حفيد، أي أن ترجمة اسم عائلتي هي «حفيد الفقراء»، اسم محبط ومثبط للهمة! وكما يقال فللإنسان حظ من اسمه، ولا عزاء في كلمة فقير في السودان تعني «فقيه ومعلم قرآن». وبالمناسبة فحتى الأطباء حظهم من الثراء ضعيف ولو عملوا في القطاع الخاص.
والشاهد هو أن أي شخص يتقاضى راتباً شهرياً نظير عمله لا يمكن أن يكون غنياً إلا في حالتين: أن يكون مرتشياً أو يكون مختلساً (والمختلس اسم الدلع لحرامي بس «على مستوى» وشكله العام يوحي بالاحترام والمهابة).. الغريب في الأمر أن ظروفي المالية ظلت تتحسن عاما بعد عام، ولكن كلما ارتفع دخلي الشهري ارتفعت مطالب أسرتي الممتدة التي تشمل أقاربي حتى الدرجة الخامسة، وأطالع كشف الحساب البنكي وتعلو شفتي ابتسامة: ما شاء الله عندي مبلغ محترم في حساب الادخار أو الودائع. ويرن الهاتف وتسمع صوت بنت خالة زوج بنت عمك وهي تحدد المبلغ المطلوب لتركيب جسر أسنان لجدتها. ويخونك التعبير: جدتك لا تزال حية تسعى؟ ويأتيك الرد الغاضب: الله أكبر عليك قل ما شاء الله وحول ألف وخمسمائة دولار في موعد أقصاه السبت المقبل. قاتل الله الهواتف، ففيما مضى كانت مثل تلك الطلبات تأتي عبر الرسائل البريدية أو البرقيات وكان بإمكانك إنكار تسلمها، ولكن الموبايل السخيف، الذي انتشر في الأيدي أكثر من انتشار الساعات، يجعلك هدفا سهلا، وكأن الذي فينا لا يكفينا فإن الحكومة السودانية جعلت لنفسها نصيباً محدداً في راتبي وراتب كل سوداني يعمل في الخارج.. بل إن كل مغترب سوداني مطالب بدفع زكاة سنوية سواء كان يملك مالاً واجب التزكية أو كان من مستحقي الزكاة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك