زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ثم ماذا بعد يا عشبيون؟
ما يعرف بالطب الحديث وليد شرعي للطب الشعبي، فقد اكتسب بنو البشر عبر القرون خبرات هائلة في معالجة الجروح والقروح وجبر الكسور، واكتشفوا قدرات العديد من النباتات والأعشاب في علاج العديد من الأمراض، وأعتقد أنني خبير في شؤون الأعشاب، لأنها كانت تمثل الغذاء والدواء بالنسبة إلي في مرحلتي الطفولة والصبا، فقد كنا نعرف عشرات الأصناف من النباتات النيلية والصحراوية: هذه طعمها حلو، وهذا يسبب الإسهال، وتلك تزيل الإمساك والأخرى سامة، وكانت بعض الأعشاب الطبية المجربة عبر القرون موجودة بصفة دائمة في صندوق الاسعافات الأولية في بيتنا، وكان ذلك الصندوق هو ما يسميه أهل مصر والسودان «السحارة»؛ وهو عبارة عن صندوق خشبي ضخم كان أهلنا يخبئون بداخلها حليهم الذهبية والسلع التموينية المعرضة للسطو من قبلنا نحن الأطفال، على رأسها السكر. وبالمناسبة فالمشروم الذي صار اليوم ذا شنّة ورنّة كان يعتبر في منطقتنا طعام الفقراء، الذين لا يجدون سبيلا للحم، ومن آيات استخفاف أهلي النوبيين به أنهم يسمونه «كجِن قور» أي علف الحمير.
أما الحلبة فهي الغذاء الرئيسي عندنا في السودان للمرأة النفساء أي حديثة الولادة، وتُمنع النفساء من مغادرة السرير طوال أربعين يوماً تظل خلالها تتغذى على الحلبة المطبوخة بالطحين والماء وتؤكل وعليها الزبدة المذابة، وعصيدة التمر، وبنهاية مدة النفاس تلك تكون قد تحولت إلى كائن يشبه وحيد القرن، فلا يكون من سبيل أمام زوجها إلا أن يطلقها أو يتزوج عليها حفاظاً على سلامته الشخصية، وقد ثبت علمياً أن الحلبة عالية القيمة الغذائية وتساعد المرأة المرضعة على در حليب يكفي للاستهلاك المحلي والتصدير، وفي مستشفيات الهند يقدمون الحلبة أو منقوعها لحديثات الولادة، وفي أمريكا تعطى الحلبة fenugreek في شكل حبوب للمرأة حديثة الولادة قليلة لبن الثدي.
وبما أن زوجتي تجيد صناعة عصيدة الحلبة (يسميها أهلنا في السودان «مديدة») فإنني على استعداد لتوفيرها لمستشفيات النساء والولادة في الخليج بالطن المتري وبسعر الكلفة، وتنظيم دورات في إعدادها (تحت إشراف زوجتي طبعاً) بواقع مائة دولار فقط للساعة الواحدة تعزيزاً للتضامن العربي والمصير المشترك الأغبر.
ما فاجأني وأفقدني توازني مؤخرا هو ما سمعته مجددا من بعض الأخوة السودانيين عن مزايا البرسيم (الجت) الطبية؛ وهو نبتة شديدة الخضرة يصل ارتفاعها إلى نحو قدمين احياناً وإذا زرعتها مرة واحدة فإنك تظل تقطعها أو تحشها مرة تلو الأخرى فتعاود النمو، وهي من ثم نبات اقتصادي مفيد جداً للبهائم والدواب، أو هكذا كنت أظن إلى أن قال لي أولئك الإخوة إن البرسيم يخفض نسبة السكر في الدم، ودلوني على شخص تداوى به «لن أستطيع أن أذكر اسمه لأنه يشغل منصباً حساساً قد يفقده إذا ذاع أمر تعاطيه البرسيم».
ذلك الشخص عاقل وراشد ومستنير، وفوق كل هذا فهو فنان ذو ريشة مبدعة، وقد أكد لي أنه تعاطى البرسيم أخضر ومجففاً، وأنه استغنى عن الأدوية الكيميائية المنشطة للبنكرياس بعد أن تعافى من «السكري»، ولو لم أكن أعرفه جيداً وأثق في رجاحة عقله لطلبت سيارة الاسعاف ونقلته إلى المستشفى لإجراء عملية غسيل مخ ومعدة له كي يتوب عن تناول البرسيم، ولكن من دله على تلك الوصفة العجيبة أكد لي أنه قرأ تقريراً طبياً يفيد بأن ابحاثاً أمريكية أثبتت فعالية البرسيم في معالجة مرضى السكر.. (صاحبي هذا أكل ذلك العشب حينا من الدهر، ثم عاد إلى رشده بعد أن ارتفع «السكر» عنده، وانصاع لأمر الطبيب بتعاطي الإنسولين!!).
ثم ماذا بعد؟ هل يستبعد أن أذهب إلى مركز طبي لأشكو من الإمساك كعادتي فيقول لي الطبيب: كل تبن، ومطلوب مني الا أغضب، بل أتوجه إلى زريبة البهائم للحصول على تبن معقم على أساس أنه يحوي كمية كبيرة من الالياف الطبيعية؟ على كل حال كلام الأطباء على عيني ورأسي، ولكنني أحذر أطباء الحداثة والأعشاب (الهوميوباثي) من أنه إذا أوصاني أحدهم بتناول الكوسا كدواء فلا يلومن إلا نفسه، فما من قوة على الأرض تستطيع إقناعي أن الكوسا التي تعافها الخراف تصلح للاستهلاك الآدمي، وبالمناسبة فإن الخراف معروفة بالنهم والدناءة والشراهة وتأكل العلف والكرتون والجرائد، وكل شيء، إلا الكوسا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك