زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
غاليليو جاسوسا
أحمد الله أنه مدّ في أيامي وشهدت عصر البوينغ والآيس كريم، والتلفزيون وهواتف نوكيا وآيفون، والسيارة ذات الكاميرا ونظام تحديد المواقع، وقد سبق لي أن كتبت كثيراً عن سعادتي عندما قرر الطبيب أنني بحاجة إلى نظارة طبية، فقد كانت النظارة والسيجارة في ذلك الزمان من علامات (الثقافة والوجاهة)، وقبل حين من الدهر عرض علي طبيب عيون تربطني به صداقة قوية، إجراء عملية تشطيب قرنية لي بالليزر مجاناً، كي استغنى عن النظارة، فرفضت عرضه شاكراً لثلاثة أسباب: أولهما إنني أخاف من الليزر لأنني سمعت أنه أداة في الحروب، وثانيهما أنني أدمنت النظارة وأتضايق عندما لا أرتديها، وثالثهما أن النظارة تتلف شكل العين، وتجعل الجفون مجعدة ومكرمشة ومقرمشة، وبالتالي فإن عيني وبسبب استخدام النظارات منذ سن مبكرة، صار شكلهما صينيا (يكسف ويفشَّل) والاستغناء عن النظارة سيفضح عيني، ومن ثم بقية تقاطيع وجهي، وبالتالي سيجعلني (مُعقَّداً).
ومن جهة أخرى، صار الموبايل ملازماً لي مثل النظارة، ومثل الملايين فإنني أحمله معي في كل مكان، خاصة وأنه فوق توصيل الكلام الشفهي والمكتوب مني وإلى الآخرين وبالعكس، يقوم أيضا بدور المنبه الذي يذكرني بمواعيدي وارتباطاتي، وتصلني عبره رسائل ومقاطع فيديو (تفطس) من الضحك. ولكنه تحول شيئاً فشيئاً إلى عبء، فمثلاً تأتيني مكالمات كثيرة أثناء قيادتي السيارة، ومن عادتي أن أتجاهل مثل تلك المكالمات لأن سلامتي وسلامة الآخرين فوق كل اعتبار، ولكن قد تكون المكالمة مهمة. والمشكلة هي أنني لا أستطيع رؤية الأرقام التي على شاشة التلفون «الموبايل» ما لم أخلع نظارتي، وإذا خلعت النظارة فإن السيارات التي من حولي تتحول إلى كتلة من الدخان (قمت بتعطيل خاصية بلو توث في السيارة لأنني لا أحب الكلام خلال قيادة السيارة حتى بالتخاطب المباشر مع من يركبون فيها معي).
كل هذا أمره سهل فبالإمكان إيقاف السيارة للرد على المكالمة، ولكن السنوات القليلة المقبلة ستجعل الهاتف الجوال كارثة: تكون تشق طريقك بصعوبة وسط الآلاف في مجمع للتسوق فيقترب منك محيياً شخص ثقيل الظل ظل يطاردك طوال شهرين طالباً سلفة لأنه يريد تطليق زوجته الثانية، ولا يملك الصداق المؤجل، وقد تتغيب عن عملك المسائي لأن حماتك في حالة صحية حرجة وتم نقلها إلى قسم العناية الفائقة في المستشفى، وتعود إلى العمل في اليوم التالي فيسألك رئيسك المباشر: شفت هدف الهلال الثالث كان شلون يهبل ويجنن، فتكاد تجن لأنك (أدخلت) حماتك المستشفى كذباً، كعذر للذهاب إلى الملعب لمتابعة مباراة الهلال ضد زحل. ولكنك جلست وقد لففت وجهك جيداً بالغترة في مكان لا يجلس فيه سوى «الغوغاء»، وكنت متأكداً من أن أحدا من معارفك لم يكن قريباً منك، ولم تغادر الملعب إلا بعد إطفاء الأنوار تفادياً لاحتمال مقابلة أحد زملاء العمل الذين سمعوا بأمر الحماة طريحة العناية الفائقة!
لا تحسب أن رئيسك في العمل مُنجَّم أو ضارب للودع أو أنه رآك بالفعل في الملعب، فكل ما هناك هو أنه استعان بغاليليو، وهو نظام جديد لتحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، وهذا النظام يستطيع أن يدلك على أن شخصاً ما رقم هاتفه مسجل في هاتفك الجوال موجود في منطقة محددة، بل يستطيع أن يقودك إلى حيث يقف أو يسير. ولو حصلت زوجتك على هاتف مرتبط بنظام غاليليو فإنها ستخرب بيتك لأنه يستطيع إرشادها إلى أسماء وأماكن المتاجر التي بها تنزيلات أو عروض خاصة أو سلع جديدة، كما أنك لا تستطيع أن تزعم أنك في اجتماع بينما السيد غاليليو يقول إنك في محل مساج في فندق.
وعند تزويد السيارات بهذا النظام فإنه يقوم بشل حركة سيارتك إذا اقتربت من سيارة أخرى بدرجة قد تؤدي إلى اصطدام بينهما، وسترحب شركات التأمين بهذا النظام لأنه عبارة عن صندوق أسود يرصد طريقتك في قيادة السيارة وقد ترفض تلك الشركات التأمين على سيارتك لأن لديها أدلة قاطعة بأنك مستهتر وقليل العقل وانتحاري.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك