العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ذكريات مع أحباب راحلين (2)

أعتز‭ ‬وأفخر‭ ‬بأنني‭ ‬لم‭ ‬أتمرد‭ ‬قط‭ ‬على‭ ‬سلطات‭ ‬أبي‭ ‬وأمي‭ ‬رحمهما‭ ‬الله،‭ ‬حتى‭ ‬وهما‭ ‬يصدران‭ ‬أوامر‭ ‬او‭ ‬قرارات‭ ‬كنت‭ ‬أراها‭ ‬غير‭ ‬منصفة،‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬يضفيا‭ ‬عليّ‭ ‬قط‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬قليل‭ ‬أدب‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬استمتع‭ ‬بمناكفة‭ ‬أمي‭ ‬وأبي،‭ ‬مستغلا‭ ‬روح‭ ‬الدعابة‭ ‬عندهما،‭ ‬ورغم‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬يعلمان‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أفعل‭ ‬ذلك‭ ‬بكل‭ ‬أدب،‭ ‬لاستدراجهما‭ ‬إلى‭ ‬مناكفات‭ ‬بحيث‭ ‬ينقلبا‭ ‬على‭ ‬بعضهما‭ ‬البعض،‭ ‬إلا‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬ينقلبان‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬الأمر،‭ ‬ومنحاني‭ ‬مرارا‭ ‬لقب‭ ‬‮«‬صعلوك‮»‬،‭ ‬وقلت‭ ‬إنني‭ ‬أتحدث‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬عن‭ ‬أمي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬حديثي‭ ‬عن‭ ‬أبي،‭ ‬لأنني‭ ‬عشت‭ ‬تحت‭ ‬رعايتها‭ ‬المباشرة‭ ‬سنوات‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬في‭ ‬جلباب‭ ‬أبي،‭ ‬ثم‭ ‬أكرمني‭ ‬الله‭ ‬بأن‭ ‬صرت‭ ‬مسؤولا‭ ‬عنها،‭ ‬بل‭ ‬وفور‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية،‭ ‬أتيت‭ ‬بها‭ ‬لتقيم‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬الخرطوم‭ ‬فتمنعت‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر،‭ ‬فقلت‭ ‬لها‭ ‬إنني‭ ‬لو‭ ‬سكنت‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬العزاب‭ ‬قد‭ ‬‮«‬أنحرف‭ ‬وذنبي‭ ‬على‭ ‬جنبك‮»‬،‭ ‬فجاءت‭ ‬وأقامت‭ ‬معي‭.‬

وأكتب‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬أمي‭ ‬بفخر‭ ‬وإعزاز،‭ ‬لأنني‭ ‬لمست‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬ينسون‭ ‬آباءهم‭ ‬وأمهاتهم‭ ‬بمجرد‭ ‬أن‭ ‬ينشغلوا‭ ‬بأمور‭ ‬الحياة‭ ‬وجمع‭ ‬المال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يرزقوا‭ ‬بالعيال،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنه‭ ‬يفترض‭ ‬ان‭ ‬امتلاك‭ ‬الذرية‭ ‬يجعل‭ ‬الإنسان‭ ‬السوي‭ ‬يفهم‭ ‬معنى‭ ‬حب‭ ‬الوالدين‭ ‬لعيالهما،‭ ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬هاتفت‭ ‬أمي،‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬القطرية،‭ ‬الدوحة،‭ ‬وعرضت‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬قطر‭ ‬لقضاء‭ ‬شهر‭ ‬الصوم‭ ‬معنا،‭ ‬فردت‭ ‬باستنكار‭: ‬هل‭ ‬تريدون‭ ‬إلباسي‭ ‬تهمة‭ ‬جديدة؟

وأصل‭ ‬الحكاية‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬وفور‭ ‬عودتي‭ ‬مع‭ ‬عائلتي‭ ‬من‭ ‬لندن‭ ‬عام‭ ‬1996،‭ ‬استقدمتها‭ ‬إلى‭ ‬الدوحة،‭ ‬وذات‭ ‬صباح‭ ‬انتبهت‭ ‬زوجتي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬صدر‭ ‬أمي‭ ‬يصدر‭ ‬أصواتاً‭ ‬نشازاً‭ ‬مثل‭ ‬كركرة‭ ‬الشيشة،‭ ‬واستدرجتها‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬الطبية،‭ ‬وعرضتها‭ ‬على‭ ‬طبيب‭ ‬سوداني‭ ‬لأن‭ ‬طبيباً‭ ‬من‭ ‬جنسية‭ ‬أخرى‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬ليفهم‭ ‬حرفاً‭ ‬مما‭ ‬تقوله‭ ‬أمي‭ ‬بلسانها‭ ‬النوبي‭ ‬الأعوج،‭ ‬فسألها‭ ‬الطبيب‭: ‬خير‭ ‬يا‭ ‬حاجة‭ ‬مم‭ ‬تشكين؟‭ ‬قالت‭: ‬ولا‭ ‬شيء‭ ‬فقط‭ ‬هذه‭ ‬البنت‭ ‬أجبرتني‭ ‬على‭ ‬الحضور‭ ‬إلى‭ ‬هنا،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬هناك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ركبتي‭ ‬تؤلمني‭ ‬أحياناً،‭ ‬ولكن‭ ‬الطبيب‭ ‬قال‭ ‬لها‭ ‬إنه‭ ‬يلاحظ‭ ‬أنها‭ ‬تتنفس‭ ‬بصعوبة،‭ ‬فعقبت‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بالزعم‭ ‬بأن‭ ‬نَفَسها‭ ‬ظل‭ ‬كذلك‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬سنة‭.‬

وبعد‭ ‬الكشف‭ ‬عليها‭ ‬بالسماعة‭ ‬جلس‭ ‬الطبيب‭ ‬أرضاً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خارت‭ ‬قواه‭ ‬ثم‭ ‬همس‭ ‬قائلاً‭: ‬دي‭ ‬جات‭ ‬من‭ ‬وين‭ ‬وكيف؟‭ (‬من‭ ‬أين‭ ‬أتت‭ ‬هذه‭ ‬وكيف؟‭).. ‬قلبها‭ ‬بالكاد‭ ‬ينبض‭ ‬كذا‭ ‬وعشرين‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬الدقيقة،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬إبلاغ‭ ‬أمي‭ ‬بحقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬طلب‭ ‬الإسعاف،‭ ‬وتم‭ ‬نقلها‭ ‬إلى‭ ‬المستشفى‭ ‬الكبير،‭ ‬حيث‭ ‬أدخلت‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬العناية‭ ‬الفائقة‭ ‬وزودوها‭ ‬بعدد‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭ ‬والأنابيب،‭ ‬ولسانها‭ ‬يلهج‭ ‬بشكر‭ ‬الأطباء‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭ ‬لهم‭: ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الاهتمام‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ألم‭ ‬بسيط‭ ‬في‭ ‬الركبة‭.‬

سبحان‭ ‬الله‭.. ‬لقد‭ ‬تطور‭ ‬الطب‭ ‬كثيراً،‭ ‬فقد‭ ‬اكتشف‭ ‬الأطباء‭ ‬بسهولة‭ ‬أن‭ ‬كهرباء‭ ‬قلبها‭ ‬مثل‭ ‬كهرباء‭ ‬بلادها‭ ‬لا‭ ‬توفر‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬المطلوب‭ ‬من‭ ‬الطاقة،‭ ‬وتقرر‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬تزويدها‭ ‬بمنظم‭ ‬ضربات‭ ‬القلب‭ ‬‮«‬بيس‭ ‬ميكر‮»‬،‭ ‬ونقلوها‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬وفتحوا‭ ‬جرحاً‭ ‬سطحياً‭ ‬على‭ ‬صدرها‭ ‬ووضعوا‭ ‬ذلك‭ ‬الجهاز‭ ‬العجيب‭ ‬بداخله‭ ‬وأغلقوا‭ ‬الجرح‭ ‬فخرجت‭ ‬من‭ ‬غرفة‭ ‬العمليات‭ ‬خلال‭ ‬دقائق‭ ‬معدودة‭ ‬وقلبها‭ ‬يدق‭ ‬ثمانين‭ ‬دقة‭ ‬في‭ ‬الدقيقة‭.‬

وبالطبع‭ ‬فقد‭ ‬تعجبت‭ ‬لأن‭ ‬ألم‭ ‬الركبة‭ ‬استوجب‭ ‬فتح‭ ‬الصدر‭ ‬ولكنها‭ ‬فسرت‭ ‬ذلك‭ ‬بأحد‭ ‬أمرين‭: ‬إما‭ ‬أن‭ ‬الأطباء‭ ‬جهلة‭ ‬وحسبوا‭ ‬أن‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬تعاني‭ ‬منه‭ ‬في‭ ‬الصدر‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الركبة،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الطب‭ ‬تطور،‭ ‬بحيث‭ ‬إن‭ ‬جهازا‭ ‬يزرع‭ ‬في‭ ‬الصدر‭ ‬يعالج‭ ‬آلام‭ ‬مفاصل‭ ‬الركبة،‭ ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬أخبرناها‭ ‬بحقيقة‭ ‬حالها‭ ‬وما‭ ‬خضعت‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬جراحة،‭ ‬قالت‭: ‬إن‭ ‬الأطباء‭ ‬‮«‬حمير‮»‬‭ ‬وإنها‭ ‬لم‭ ‬تشكُ‭ ‬قط‭ ‬من‭ ‬قلبها‭ ‬أو‭ ‬صدرها‭ ‬وإنهم‭ ‬أرادوا‭ ‬تغطية‭ ‬فشلهم‭ ‬في‭ ‬تشخيص‭ ‬حال‭ ‬ركبتها،‭ ‬بالزعم‭ ‬بأن‭ ‬علتها‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬جسمها،‭ ‬ومنذ‭ ‬يومها‭ ‬رفضت‭ ‬أن‭ ‬تأتي‭ ‬إلى‭ ‬قطر‭ ‬كيلا‭ ‬يقوم‭ ‬طبيب‭ ‬‮«‬مستهبل‮»‬‭ ‬بزرع‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬بطنها‭ ‬بزعم‭ ‬ان‭ ‬‮«‬سمعها‮»‬‭ ‬صار‭ ‬ثقيلا‭ ‬بعض‭ ‬الشيء‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا