زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ذكريات مع أحباب راحلين (1)
ذكرت في مقال أمس عرضا كيف أن أمي رحمها الله رفضت في بادئ الأمر تزويدها بجهاز تلفون، لأنها كانت تعتبره رجسا من صنع الشيطان، ثم سرعان ما أدركت قيمته وفوائده، وكان صوتها يتهدج من فرض الانفعال وهي تتلقى المكالمات مني، وكانت تختم كل مكاملة معي: لا عذر لك بعد اليوم لعدم التواصل معي وأتوقع منك مكالمتين كل يوم. ولم يكن الجدال يجدي مع أمي، فقد كانت دكتاتورية في الأمور العاطفية بموجب سلطاتها الأمومية. وبعد جهد أقنعتها بأن المكالمة من منطقة الخليج إلى السودان تستغرق زمنا طويلا في الطريق، ولهذا لم تعد تلح في أمر المكالمات اليومية.
وقد استقبلت على مدى سنوات شفاهة وعبر الرسائل الإلكترونية أسئلة مؤداها: لماذا لا يكون لأبيك نصيب فيما تكتب. ودائماً تأتي على ذكر أمك؟ والإجابة بديهية: لأنها أمي.. ولأنني عشت في كنفها سنوات أطول من تلك التي عشتها في كنف أبي، وليس لأنه كانت هناك جفوة بيني وبين والدي رحمه الله، رغم انه كان ابا تقليديا لا يقبل الجدال ولم يسمع بـ«الرأي والرأي الآخر»، وأي معارضة لأفكاره كانت تنتهي بعبارة من شاكلة: اسكت يا حمارة.. اسمع الكلام يا مغفلة. فقد كانت العجمة النوبية متمكنة منه رغم انه عاش معظم عمره في مدينة ناطقة بالعربية، ومع هذا فقد كان سيبويه مقارنة بأمي.. وكانت دكتاتوريته لفظية، أي أنه لم يكن يلجأ إلى القمع والضرب.
وأذكر أنني كنت ارتدي ملابسي ذات يوم وأنا طالب جامعي عندما وقعت علبة سجائر من جيبي فالتقطها أبي، وأعادها إليّ وهو يقول: إذا كان لا بد أن تدخن فليكن داخل البيت، فأنا لا أريد أن يعرف الناس أن أحد أولاد عباس صعلوك، ولو كنت قليل الأدب لسألته: وهل تحسب نفسك الخديوي عباس؟ والمهم أنه كبر في نظري رغم انه «مسح بي الأرض»، وكان من حقه أن يمسح أنفي بالتراب، بينما «صغرت» في نظر نفسي.
أمي كانت سهلة الاستفزاز وكانت كلما نرفزتها صاحت: من أين أتي هذا الولد القبيح؟ وكنت أرد عليها بقولي: لسوء حظي فقد ورثت تقاطيعك بدلا من تقاطيع أبي، وكان أبي يسمع كلامي هذا ويضحك ثم يضيف: فعلا ولد صعلوك، هنا تنفعل أمي: بطني جابت وما خابت ولن اسمح لك بأن تصف ولدي بالصعلوك. وعندئذ تشتعل الحرب الأهلية، واتخذ موقفاً محايداً بتشجيع الطرفين بكلام ما معناه: كيف تسكت على هذا الكلام يا أبتاه؟ أرحلي يمّه إلى بيت أبيك، وسأشهد إلى جانبك في المحكمة، ثم يكتشف الطرفان أنهما ضحية مؤامرة صعلوكية، فيقومان بتطبيع العلاقات ومطاردتي ولكن هيهات.
وكانت أمي هي الأكثر حماساً في مسألة تعليمنا، بينما كان والدي لا يمانع في أن نترك الدراسة بعد الثانوية لنعينه في تجارة له كاسدة، وكلما انتقلت من مرحلة إلى أخرى بنجاح كان يقول لمن حوله: جعفر هذا ولد مبروك؛ فيوم مولده فتحها الله علي وارتفع راتبي الشهري من ثلاثة جنيهات إلى أربعة جنيهات إلا ربع، وتيسرت أموري بعدها، ولكنه (يقصدني) مخلول -أي مختلا عقليا- ويضيع عمره في الانتقال من مدرسة إلى أخرى.
المهم أنني كنت برّاً بوالدي جداً، فرغم أنني كنت أناكفهما ورغم أنهما كانا يضيقان بي أحيانا، فإنني لا أذكر قط أنني أغضبت أحدهما غضباً يصمد أكثر من بضع دقائق. وكانا يغضبان فقط إذا أحسا أنني أخطأت وعرضت حياتي للخطر (بالعودة -مثلا- من السينما بعد العاشرة ليلا)، وسبق والدي أمي إلى دار البقاء بنحو ربع قرن، وأعانني الله على أن أقوم بدور راعي أمي وولدها العاقل (سقط عني لقب صعلوك بعد مرحلة الشباب المبكر)، ولكنني لم أكف عن مناكفة أمي والاعتراض على قراراتها لأستمتع بهوجاتها وهي تتكلم معي بلغة عربية مكسرة، ورغم هذا فإنها لم تكن تختتم أي محادثة معي إلا بترديد أنها: عافية عليك وعافية منك، فأطالبها بأن يكون نص العفو مكتوباً لأنها قد تغير رأيها لاحقاً فتصيح: طول عمرك قليل أدب، فأتوسل إليها أن تخفض صوتها كي لا يسمعها عيالي فيعايرونني بذلك اللقب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك