العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عن عصر ذهبي وهمي

شكوت‭ ‬مرارا‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يحسنون‭ ‬سوى‭ ‬الشكوى،‭ ‬وعندما‭ ‬يتسامرون‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضا‭ ‬تحسب‭ ‬أنهم‭ ‬يشاركون‭ ‬في‭ ‬مسابقة‭: ‬‮«‬من‭ ‬أكثرنا‭ ‬مرضاً؟‮»‬‭ ‬فإذا‭ ‬قال‭ ‬أحدهم‭ ‬إنه‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬والسكري‭ ‬قاطعه‭ ‬آخر‭: ‬أنا‭ ‬بدون‭ ‬فخر‭ ‬عندي‭ ‬انسداد‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬صمامات‭ ‬وتضخم‭ ‬في‭ ‬عضلات‭ ‬القلب،‭ ‬والطبيب‭ ‬قال‭ ‬إنه‭ ‬لم‭ ‬يجد‭ ‬لي‭ ‬قطع‭ ‬غيار،‭ ‬فينبري‭ ‬ثالث‭: ‬أنا‭ ‬في‭ ‬سنة‭ ‬واحدة‭ ‬شلت‭ ‬المرارة‭ ‬والزائدة‭ ‬واللوزتين‭ ‬والطحال،‭ ‬وإن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬الصيف‭ ‬راح‭ ‬أشيل‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬المصران‭ ‬الغليظ‭!‬

وإذا‭ ‬لم‭ ‬يشغل‭ ‬العواجيز‭ ‬أنفسهم‭ ‬بالتباهي‭ ‬بما‭ ‬عندهم‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬فإنهم‭ ‬يتباكون‭ ‬على‭ ‬أيام‭ ‬زمان‭ ‬‮«‬والحياة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬حلوة‮»‬‭! ‬وأفرك‭ ‬فروة‭ ‬رأسي‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬جميلا‭ ‬قبل‭ ‬أربعين‭ ‬أو‭ ‬ستين‭ ‬سنة‭ ‬ليتباكى‭ ‬عليه‭ ‬الجماعة؟‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬الذكريات‭ ‬الحلوة‭ ‬عن‭ ‬فترة‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬يتحدث‭ ‬عنها‭ ‬بعض‭ ‬أبناء‭ ‬جيلي؟‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬انه‭ ‬مر‭ ‬علينا‭ ‬أسبوع‭ ‬واحد‭ ‬ونحن‭ ‬نلعب‭ -‬كأطفال‭- ‬من‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يتعرض‭ ‬أحدنا‭ ‬للدغة‭ ‬عقرب‭ ‬أو‭ ‬ثعبان‭ ‬أو‭ ‬رفسة‭ ‬حمار‭.‬

أصبت‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬بضيق‭ ‬في‭ ‬التنفس‭ ‬فذهب‭ ‬بي‭ ‬والدي‭ ‬إلى‭ ‬رجل‭ ‬حبشي‭ ‬وكان‭ ‬تشخيص‭ ‬حالتي‭ ‬كما‭ ‬يأتي‭: ‬هناك‭ ‬شحم‭ ‬متراكم‭ ‬في‭ ‬الصدر‭ ‬والبطن‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬إذابته‭ ‬بالكي‭ ‬بالنار،‭ ‬وهكذا‭ ‬وضع‭ ‬مسمارا‭ ‬طويلا‭ ‬على‭ ‬جمر‭ ‬متقد،‭ ‬ثم‭ ‬كوى‭ ‬بطني‭ ‬وصدري‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬عشرة‭ ‬مواضع،‭ ‬وكان‭ ‬الشيء‭ ‬الإيجابي‭ ‬الوحيد‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجربة‭ ‬العلاجية‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬‮«‬محتشماً‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬أمارس‭ ‬السباحة‭ ‬في‭ ‬حضور‭ ‬الآخرين،‭ ‬إلا‭ ‬بنصف‭ ‬ملابسي،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يروا‭ ‬الخطوط‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬خلفها‭ ‬الكي‭ ‬في‭ ‬بطني،‭ ‬ويحسبوا‭ ‬أنني‭ ‬حمار‭ ‬وحشي‭ ‬مستنسخ‭.‬

ويا‭ ‬سلام‭ ‬على‭ ‬الطعام‭ ‬أيام‭ ‬زمان؛‭ ‬العائلات‭ ‬الارستقراطية‭ ‬كانت‭ ‬تذوق‭ ‬اللحم‭ ‬مرتين‭ ‬في‭ ‬الأسبوع،‭ ‬ولعل‭ ‬كثيرين‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تتعرض‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬لغزو‭ ‬الجراد‭ ‬خلال‭ ‬العقود‭ ‬الأخيرة،‭ ‬والسر‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الجراد‭ ‬تعلم‭ ‬الدرس،‭ ‬فهو‭ ‬يغزو‭ ‬البلاد‭ ‬ليأكل‭ ‬من‭ ‬محاصيلها‭ ‬الزراعية،‭ ‬ولكنه‭ ‬غزا‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬وستينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬فوجد‭ ‬نفسه‭ ‬مأكولا،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يرحبون‭ ‬بقدومه‭ ‬ويصطادونه‭ ‬بعشرات‭ ‬ومئات‭ ‬الآلاف‭ ‬ويأكلونه‭ ‬مشويا‭ ‬ومحمرا،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬قررت‭ ‬القيادة‭ ‬القومية‭ ‬لحركة‭ ‬الجراد‭ ‬الأحرار‭ ‬عدم‭ ‬التحليق‭ ‬في‭ ‬الأجواء‭ ‬العربية‭.‬

ويقال‭ ‬إنه‭ ‬خلال‭ ‬هجرة‭ ‬الجراد‭ ‬من‭ ‬الغرب‭ ‬إلى‭ ‬الشرق‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬حيث‭ ‬تعرضت‭ ‬المحاصيل‭ ‬في‭ ‬غرب‭ ‬إفريقيا‭ ‬للدمار‭ ‬الشامل‭ ‬حلقت‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬الأجواء‭ ‬العربية،‭ ‬وكلما‭ ‬رأت‭ ‬خضرة‭ ‬تهاوت‭ ‬نحوها،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬قائد‭ ‬السرب‭ ‬يقول‭ ‬لهم‭: ‬فوق،‭ ‬فوق‭.. ‬أي‭ ‬واصلوا‭ ‬التحليق‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭.. ‬فحدثت‭ ‬حركة‭ ‬احتجاجات‭ ‬وتمرد،‭ ‬وعندما‭ ‬علم‭ ‬القائد‭ ‬بذلك‭ ‬جمعهم‭ ‬وألقى‭ ‬فيهم‭ ‬خطبة‭ ‬قصيرة‭: ‬لقد‭ ‬أوصانا‭ ‬أجدادنا‭ ‬بتفادي‭ ‬العالم‭ ‬العربي،‭ ‬ويا‭ ‬أولاد‭ ‬الكلب‭ ‬لو‭ ‬نزلتم‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬سيأكلونكم‭ ‬عن‭ ‬بكرة‭ ‬أبيكم‭!‬

كيف‭ ‬تكون‭ ‬الحياة‭ ‬حلوة‭ ‬بدون‭ ‬ثلاجة؟‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬انتقلنا‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬يرسلني‭ ‬في‭ ‬قائظة‭ ‬النهار‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬لبيع‭ ‬الثلج‭ ‬لأشتري‭ ‬‮«‬رُبع‭ ‬لوح‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬دليلا‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬عائلتنا‭ ‬صارت‭ ‬برجوازية،‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭ ‬كنت‭ ‬أبقى‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬في‭ ‬المكتب‭ ‬حتى‭ ‬قبل‭ ‬المغيب‭ ‬بدقائق‭! ‬لماذا؟‭ ‬لأن‭ ‬المكتب‭ ‬به‭ ‬مروحة‭. ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬مكيفات‭ ‬الهواء،‭ ‬ثم‭ ‬حلت‭ ‬السيارات‭ ‬محل‭ ‬الحمير،‭ ‬ولعلمكم‭ ‬فركوب‭ ‬الحمير‭ ‬يسبب‭ ‬البواسير،‭ ‬وأنا‭ ‬أتكلم‭ ‬عن‭ ‬تجربة‭ ‬فزملائي‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية‭ ‬مازالوا‭ ‬يذكرون‭ ‬كيف‭ ‬كانوا‭ ‬يحسدونني‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أملك‭ ‬حمارا‭ ‬أروح‭ ‬وأجي‭ ‬به‭. ‬ودفعت‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬لاحقاً‭!!‬

واليوم‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬أجنبي‭ ‬وبعد‭ ‬سويعات‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬أحضان‭ ‬اهلك‭.. ‬وحتى‭ ‬لو‭ ‬بقيت‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬أهلك‭ ‬انتهى‭ ‬عصر‭ ‬القلق‭ ‬عندما‭ ‬كانت‭ ‬الرسالة‭ ‬لبريدية‭ ‬تسير‭ ‬15‭ ‬يوماً‭ ‬لقطع‭ ‬البحر‭ ‬الأحمر‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬السودان‭ ‬والسعودية‭ (‬مثلا‭) ‬والآن‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتواصل‭ ‬مع‭ ‬أهلي‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬يومياً،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬كيف‭ ‬قاومت‭ ‬أمي‭ ‬تزويد‭ ‬بيتها‭ ‬بالتلفون،‭ ‬وكيف‭ ‬كانت‭ ‬كلما‭ ‬كلمتها‭ ‬قليلا‭ ‬ثم‭ ‬طلبت‭ ‬أن‭ ‬أحدث‭ ‬إحدى‭ ‬أخواتي‭ ‬تصيح‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭: ‬يا‭ ‬بنت‭ ‬تعالي‭ ‬كلمي‭ ‬أخوكي‭. ‬ثم‭ ‬‮«‬تقفل‭ ‬الخط‮»‬‭.‬

رجاء‭ ‬لا‭ ‬تحدثوني‭ ‬عن‭ ‬عصر‭ ‬ذهبي‭ ‬وهمي‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا