العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لا تحددوا الأهل بتحديد النسل

كما‭ ‬يقول‭ ‬المثل‭ ‬الشعبي‭ ‬‮«‬الفاضي‭ ‬يعمل‭ ‬قاضي‮»‬‭ ‬أي‭ ‬يفتي‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬لا‭ ‬تخصه‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬ملء‭ ‬وقت‭ ‬فراغه،‭ ‬ويقع‭ ‬تحت‭ ‬طائلة‭ ‬هذا‭ ‬المثل‭ ‬العلماء‭ ‬الذين‭ ‬يسعون‭ ‬لجعل‭ ‬الرجل‭ ‬يحبل،‭ ‬أي‭ ‬يحمل‭ ‬ثم‭ ‬يضع‭ ‬بيبي،‭ ‬وهو‭ ‬مخلوق‭ ‬بلا‭ ‬رحم‭ ‬يحمل‭ ‬فيه‭ ‬الجنين،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أفهم‭ ‬لماذا‭ ‬الانشغال‭ ‬بتركيب‭ ‬حبوب‭ ‬منع‭ ‬حمل‭ ‬للرجال،‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬وسائل‭ ‬كثيرة‭ ‬مأمونة‭ ‬ومجربة‭ ‬لمنع‭ ‬الحمل‭ ‬عند‭ ‬النساء،‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ما‭ ‬يبرره،‭ ‬ولكن‭ ‬ها‭ ‬هي‭ ‬جامعة‭ ‬ماساشوستس‭ ‬الأمريكية‭ ‬تبرم‭ ‬اتفاقا‭ ‬مع‭ ‬شركة‭ ‬سبير‭ ‬ماتيك‭ ‬السويدية‭ ‬لطرح‭ ‬حبوب‭ ‬تشل‭ ‬قدرات‭ ‬السائل‭ ‬المنوي‭ ‬على‭ ‬تخصيب‭ ‬بويضة‭ ‬المرأة،‭ ‬وقد‭ ‬يكون‭ ‬عقار‭ ‬التعقيم‭ ‬الاصطناعي‭ ‬هذا‭ ‬قيد‭ ‬التداول‭ ‬قريبا‭! ‬هذا‭ ‬غير‭ ‬الفاسيكتومي‭ ‬والهيستريكتومي‭ (‬تعقيم‭ ‬الرجل‭ ‬والمرأة،‭ ‬على‭ ‬التوالي،‭ ‬جراحياً‭)‬،‭ ‬وبحكم‭ ‬انتمائي‭ ‬إلى‭ ‬أسرة‭ ‬كبيرة‭ (‬عددياً‭ ‬وليس‭ ‬بالمنظور‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التفاخري‭) ‬فإنني‭ ‬أسعد‭ ‬بأن‭ ‬أكون‭ ‬محاطاً‭ ‬بجيش‭ ‬من‭ ‬الإخوة‭ ‬والأخوات‭ ‬وأولاد‭ ‬وأبناء‭ ‬وبنات‭ ‬العم‭ ‬والعمة‭ ‬والخال‭ ‬والخالة‭.‬

وأكثر‭ ‬ما‭ ‬أفتقده‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬هاجرت‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬هو‭ ‬النوم‭ ‬ليلا‭ ‬في‭ ‬الحوش،‭ ‬وحولي‭ ‬أسِرّة‭ ‬مبعثرة‭ ‬عشوائيا،‭ ‬يرقد‭ ‬فيها‭ ‬أخوتي‭ ‬وأقاربي،‭.. ‬خيخاخوخاخخخ‭.. ‬هذا‭ ‬خالي‭ ‬محمد،‭ ‬وسيظل‭ ‬يقدم‭ ‬معزوفته‭ ‬تلك‭ ‬حتى‭ ‬الفجر،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬نقل‭ ‬سريري‭ ‬إلى‭ ‬مكان‭ ‬لا‭ ‬يصلني‭ ‬فيه‭ ‬شخيره‭!!  ‬هاهاهي‭ ‬هئ‭ ‬هئ‭. ‬هذا‭ ‬أخي‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يحلو‭ ‬له‭ ‬الضحك‭ ‬إلا‭ ‬وهو‭ ‬نائم‭.. ‬همهم‭ ‬نمنمنم‭.. ‬هذا‭ ‬أخي‭ ‬الذي‭ ‬يكبرني‭ ‬مباشرة،‭ ‬ويمارس‭ ‬الأكل‭ ‬فور‭ ‬نومه،‭ ‬مع‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬صحوه‭ ‬ضعيف‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬الأكل‭. ‬أوركسترا‭ ‬نشاز‭ ‬ولكنها‭ ‬تنبض‭ ‬دفئاً‭ ‬وحباً‭!! ‬كم‭ ‬أفتقدهم‭... ‬وكلما‭ ‬زرت‭ ‬السودان‭ ‬وتوافد‭ ‬الأقارب‭ ‬على‭ ‬بيتي‭ ‬أو‭ ‬دخلت‭ ‬بيوتهم،‭ ‬أحسست‭ ‬بالسعادة،‭ ‬كلما‭ ‬أدركت‭ ‬أن‭ ‬عائلتي‭ ‬الممتدة‭ ‬أصلاً،‭ ‬تمددت‭ ‬بانضمام‭ ‬أجيال‭ ‬جديدة‭ ‬إليها،‭ ‬بعضهم‭ ‬ذوو‭ ‬بشرة‭ ‬فاتحة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تزوج‭ ‬بعض‭ ‬الأقارب‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬العائلة‭ (‬ربما‭ ‬لتحسين‭ ‬النسل‭!) ‬وبعضهم‭ ‬شديد‭ ‬السمرة‭ ‬وبملامح‭ ‬نوبية‭ ‬صميمة‭.‬

أصغر‭ ‬أخواتي‭ ‬صارت‭ ‬جدة،‭ ‬ويوما‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬ساعتي‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬عملي،‭ ‬مترقبا‭ ‬حلول‭ ‬موعد‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬لحمل‭ ‬بنتها‭ ‬البكر‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬اليوم‭ ‬‮«‬ماما‮»‬،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أنه‭ ‬ومهما‭ ‬انعتقنا‭ ‬من‭ ‬العصبية‭ ‬القبلية‭ ‬وتوسع‭ ‬أفقنا‭ ‬الاجتماعي‭ ‬فإن‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬منا‭ ‬جينة‭ ‬الاعتزاز‭ ‬بالانتماء‭ ‬إلى‭ ‬تكتل‭ ‬بشري،‭ ‬وأصغر‭ ‬التكتلات‭ ‬البشرية‭ ‬وأقواها‭ ‬بنياناً،‭ ‬هي‭ ‬العائلة‭ ‬الصغيرة‭ ‬وتليها‭ ‬‮«‬الممتدة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬كل‭ ‬الأقارب‭.‬

ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬يكلفنا‭ ‬نحن‭ ‬السودانيين‭ ‬شططاً‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬فالمغتربون‭ ‬منا‭ ‬مطالبون‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬إجازة‭ ‬بشراء‭ ‬هدايا‭ ‬للأقارب،‭ ‬وهب‭ ‬أنك‭ ‬تريد‭ ‬فقط‭ ‬قصر‭ ‬الهدايا‭ ‬على‭ ‬أقارب‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ (‬رغم‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬كيفك،‭ ‬فهناك‭ ‬أقارب‭ ‬بل‭ ‬جيران‭ ‬لا‭ ‬تربطهم‭ ‬بك‭ ‬صلة‭ ‬قرابة،‭ ‬يعتبرون‭ ‬حصولهم‭ ‬على‭ ‬هدايا‭ ‬حقاً‭ ‬ثابتاً‭)‬،‭ ‬ولنفترض‭ ‬أن‭ ‬أقاربك‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬كانوا‭ ‬ستين‭ ‬عندما‭ ‬غادرت‭ ‬السودان‭ ‬قبل‭ ‬15‭ ‬سنة،‭ ‬ستكتشف‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2025‭ ‬أن‭ ‬عددهم‭ ‬ارتفع‭ ‬إلى‭ ‬235،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬معظم‭ ‬أهلنا‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬حبوب‭ ‬منع‭ ‬الحمل،‭ ‬وبعضهم‭ ‬يحسب‭ ‬أنها‭ ‬مثل‭ ‬البندول‭ ‬تؤخذ‭ ‬عند‭ ‬اللزوم‭!‬

عندما‭ ‬زرت‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة‭ ‬بعد‭ ‬غياب‭ ‬14‭ ‬سنة‭ ‬متتالية‭ ‬عنه،‭ ‬فوجئت‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬أقاربي‭ ‬بكائنات‭ ‬غريبة‭ ‬الملامح‭ ‬يطالبني‭ ‬أهلهم‭ ‬بحملهم‭ ‬وتقبيلهم،‭ ‬وتلك‭ ‬الكائنات‭ ‬كانت‭ ‬أطفالا‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الأحجام‭ ‬والمقاسات،‭ ‬بعضهم‭ ‬كان‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬تسيب‭ ‬في‭ ‬الأنف،‭ ‬وبعضهم‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬تجريب‭ ‬كفاءة‭ ‬الأسنان‭ ‬بغرسها‭ ‬في‭ ‬لحم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يقترب‭ ‬منه،‭ ‬والبعض‭ ‬الآخر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الحفاظات‭ (‬البامبرز‭).. ‬والنتيجة‭ ‬معروفة‭!! ‬ضاعت‭ ‬قيافتي‭ ‬وأناقتي‭ ‬ومعها‭ ‬أريج‭ ‬العطر‭ ‬الذي‭ ‬اشتريته‭ ‬من‭ ‬السوق‭ ‬الحرة‭ ‬في‭ ‬المطار‭. ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله،‭ ‬كل‭ ‬هؤلاء‭ ‬مني‭ ‬وأنا‭ ‬منهم؟‭  ‬اللهم‭ ‬زد‭ ‬وبارك‭.. ‬وزدني‭ ‬وبارك‭ ‬لي‭ ‬فيما‭ ‬أعطيتني‭ ‬حتى‭ ‬أستطيع‭ ‬تقديم‭ ‬الهدايا‭ ‬لكل‭ ‬أفراد‭ ‬الأسرة‭ ‬التي‭ ‬تواصل‭ ‬التمدد‭.. ‬اقتطع‭ ‬قيمة‭ ‬الهدايا‭ ‬من‭ ‬قوت‭ ‬عيالي‭ ‬بكل‭ ‬سرور،‭ ‬لأن‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬ضريبة‭ ‬‮»‬الانتماء‮«‬‭ ‬التي‭ ‬تدفعها‭ ‬ورجلك‭ ‬فوق‭ ‬رقبتك‭ ‬وأنت‭ ‬سعيد‭. ‬أنا‭ ‬أعطي‭ ‬أهلي‭ ‬مما‭ ‬عندي‭ ‬وهم‭ ‬يعطونني‭ ‬مما‭ ‬عندهم‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬مجرد‭ ‬ابتسامة‭ ‬أو‭ ‬كلمة‭ ‬حب‭.. ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬أهلي‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬حبوب‭ ‬منع‭ ‬الحمل‭ ‬لخففوا‭ ‬الأعباء‭ ‬المالية‭ ‬التي‭ ‬أتكبدها‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬لترضيتهم،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬لخف‭ ‬حجم‭ ‬وكم‭ ‬الحب‭ ‬والحنان‭ ‬اللذين‭ ‬أنعم‭ ‬بهما‭ ‬وأنا‭ ‬بينهم،‭ ‬بل‭ ‬وأنا‭ ‬بعيد‭ ‬عنهم‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا