زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لا تحددوا الأهل بتحديد النسل
كما يقول المثل الشعبي «الفاضي يعمل قاضي» أي يفتي في أمور لا تخصه فقط من باب ملء وقت فراغه، ويقع تحت طائلة هذا المثل العلماء الذين يسعون لجعل الرجل يحبل، أي يحمل ثم يضع بيبي، وهو مخلوق بلا رحم يحمل فيه الجنين، بل لا أفهم لماذا الانشغال بتركيب حبوب منع حمل للرجال، طالما أن هناك وسائل كثيرة مأمونة ومجربة لمنع الحمل عند النساء، إذا كان هناك ما يبرره، ولكن ها هي جامعة ماساشوستس الأمريكية تبرم اتفاقا مع شركة سبير ماتيك السويدية لطرح حبوب تشل قدرات السائل المنوي على تخصيب بويضة المرأة، وقد يكون عقار التعقيم الاصطناعي هذا قيد التداول قريبا! هذا غير الفاسيكتومي والهيستريكتومي (تعقيم الرجل والمرأة، على التوالي، جراحياً)، وبحكم انتمائي إلى أسرة كبيرة (عددياً وليس بالمنظور الاجتماعي التفاخري) فإنني أسعد بأن أكون محاطاً بجيش من الإخوة والأخوات وأولاد وأبناء وبنات العم والعمة والخال والخالة.
وأكثر ما أفتقده منذ أن هاجرت إلى منطقة الخليج هو النوم ليلا في الحوش، وحولي أسِرّة مبعثرة عشوائيا، يرقد فيها أخوتي وأقاربي،.. خيخاخوخاخخخ.. هذا خالي محمد، وسيظل يقدم معزوفته تلك حتى الفجر، ولابد من نقل سريري إلى مكان لا يصلني فيه شخيره!! هاهاهي هئ هئ. هذا أخي الأكبر الذي لا يحلو له الضحك إلا وهو نائم.. همهم نمنمنم.. هذا أخي الذي يكبرني مباشرة، ويمارس الأكل فور نومه، مع أنه في صحوه ضعيف الميل إلى الأكل. أوركسترا نشاز ولكنها تنبض دفئاً وحباً!! كم أفتقدهم... وكلما زرت السودان وتوافد الأقارب على بيتي أو دخلت بيوتهم، أحسست بالسعادة، كلما أدركت أن عائلتي الممتدة أصلاً، تمددت بانضمام أجيال جديدة إليها، بعضهم ذوو بشرة فاتحة بعد أن تزوج بعض الأقارب من خارج العائلة (ربما لتحسين النسل!) وبعضهم شديد السمرة وبملامح نوبية صميمة.
أصغر أخواتي صارت جدة، ويوما ما كنت أنظر إلى ساعتي وأنا في مكان عملي، مترقبا حلول موعد عودتي إلى البيت لحمل بنتها البكر التي صارت اليوم «ماما»، وأعتقد أنه ومهما انعتقنا من العصبية القبلية وتوسع أفقنا الاجتماعي فإن في داخل كل منا جينة الاعتزاز بالانتماء إلى تكتل بشري، وأصغر التكتلات البشرية وأقواها بنياناً، هي العائلة الصغيرة وتليها «الممتدة» أي تلك التي تضم كل الأقارب.
ولكن ذلك يكلفنا نحن السودانيين شططاً في بعض الأحيان، فالمغتربون منا مطالبون في كل إجازة بشراء هدايا للأقارب، وهب أنك تريد فقط قصر الهدايا على أقارب الدرجة الأولى (رغم أن الأمر ليس على كيفك، فهناك أقارب بل جيران لا تربطهم بك صلة قرابة، يعتبرون حصولهم على هدايا حقاً ثابتاً)، ولنفترض أن أقاربك من الدرجة الأولى كانوا ستين عندما غادرت السودان قبل 15 سنة، ستكتشف في عام 2025 أن عددهم ارتفع إلى 235، ذلك أن معظم أهلنا لا يعرفون حبوب منع الحمل، وبعضهم يحسب أنها مثل البندول تؤخذ عند اللزوم!
عندما زرت السودان في أوائل الألفية الثالثة بعد غياب 14 سنة متتالية عنه، فوجئت في بيوت أقاربي بكائنات غريبة الملامح يطالبني أهلهم بحملهم وتقبيلهم، وتلك الكائنات كانت أطفالا من مختلف الأحجام والمقاسات، بعضهم كان يعاني من تسيب في الأنف، وبعضهم كان في مرحلة تجريب كفاءة الأسنان بغرسها في لحم كل من يقترب منه، والبعض الآخر لم يكن يتعامل مع الحفاظات (البامبرز).. والنتيجة معروفة!! ضاعت قيافتي وأناقتي ومعها أريج العطر الذي اشتريته من السوق الحرة في المطار. ما شاء الله، كل هؤلاء مني وأنا منهم؟ اللهم زد وبارك.. وزدني وبارك لي فيما أعطيتني حتى أستطيع تقديم الهدايا لكل أفراد الأسرة التي تواصل التمدد.. اقتطع قيمة الهدايا من قوت عيالي بكل سرور، لأن ذلك هو ضريبة »الانتماء« التي تدفعها ورجلك فوق رقبتك وأنت سعيد. أنا أعطي أهلي مما عندي وهم يعطونني مما عندهم ولو كان مجرد ابتسامة أو كلمة حب.. ولو كان أهلي يتعاملون مع حبوب منع الحمل لخففوا الأعباء المالية التي أتكبدها بين الحين والآخر لترضيتهم، وبالمقابل لخف حجم وكم الحب والحنان اللذين أنعم بهما وأنا بينهم، بل وأنا بعيد عنهم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك