مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
أليس فيكم رجل رشيد؟!
ظهرتْ في أعقابِ حرب 1967 أغنيةٌ نادرةٌ للمطربةِ اللبنانيَّةِ فيروز بعنوان «سافرت القضية» أُعيدَ تداولُها مؤخرًا على منصاتِ التواصلِ الاجتماعيِّ، عندما تستمعُ إلى الأغنيةِ تتصوَّرُ أنها تروي واقعَنا هذه الأيام، ونحن نتابعُ مرافعاتِ القضيةِ التي أقامتها دولةُ جنوب إفريقيا أمامَ محكمةِ العدلِ الدوليَّة عن جرائمِ الإبادةِ الجماعيَّة التي ترتكبُها إسرائيلُ بحق الشعبِ الفلسطينيِّ.
فأيُّ مراقبٍ سياسيِّ مع كلِّ الحيدةِ في عقلِه لا يستطيعُ أن يقرأَ مستقبلَ القضيةِ الفلسطينيَّة، والسببُ الواضحُ أنه لا يوجدُ هناك رجلٌ رشيدُ العقلِ لا في أمريكا ولا في الغربِ، ولا في إسرائيل، أما العرب فقدراتُهم محدودةٌ في التأثيرِ في المشهد.
إن ما جرى ويجري في غزة، والعالمُ يراه لحظةً بلحظة من خلال كلِّ الوسائطِ الإعلاميَّة المختلفة، ويتابعُ تلك الجرائمَ التي تُرتكبُ من قبل إسرائيل بحق الشعبِ الفلسطينيِّ، وسط سكوتٍ مدقع من المجتمعِ الدوليِّ، الذي بات يفسحُ المجالَ أمام سيادةِ منطق الغابة في العلاقاتِ الدوليَّة وسط غيابٍ تام للقيمِ الإنسانيَّة والبشريَّة مع القضايا الإنسانيَّة.
واليوم العالمُ مجتمع في جنيف من أجل دورةٍ جديدة لمجلسِ حقوق الإنسان، عن أيِّ حقوقٍ يتحدثون وقد دُهس الحقُ في الحياةِ تحتَ أقدامِ القوى الدوليَّة الكبرى، مع مساندتِهم العمياء للعدوانِ الإسرائيليِّ في غزة، وها نحن مقبلون على مجزرةٍ جديدةٍ ترتِّبُ لها إسرائيلُ أمام أعينِ العالم وهي اجتياحُ رفح الفلسطينيِّة تلك البقعة التي تكدَّسَ فيها الفلسطينيون هربًا من جحيمِ إسرائيلَ.
وعلى العالمِ أن يدركَ أن أكبرَ خطرٍ يهددُ البشريةَ جمعاء هو أن يكفرَ الإنسانُ بالمنظومةِ الدوليَّة القائمة التي تعجزُ عن ضمانِ الأمنِ والأمانِ والاستقرار لكلِّ إنسان يتوقُ إلى العيشِ بسلام.
فقبل أيام أقدم آرون بوشنل أحدُ أفرادِ القواتِ الجويَّة الأمريكيَّة على إضرامِ النار في نفسِه أمام السفارةِ الإسرائيليَّة في واشنطن، ولفظ أنفاسَه الأخيرةَ متأثرًا بإصابته، قائلا: «لن أكونَ متواطئا بعد الآن في الإبادةِ الجماعيَّة» في رسالةٍ حاول من خلالها فضحَ جرائم الاحتلال التي لم تكن كافية لتحرك ساكنًا في موقفِ الإدارةِ الأمريكيَّة برئاسة جو بايدن لوقف إطلاق النار بشكلٍ جاد لتنهي معاناةَ الفلسطينيين مع استمرارِ الأزمةِ الإنسانيَّة في غزة الممتدة إلى أكثر من 4 أشهر وراح ضحيتها حوالي 30 ألفَ شهيد.
ومن المخزي أن بعضَ الأصواتِ الأمريكيَّة والغربيَّة مازالت تتعامى عن الجرائمِ الإسرائيليَّة ولا تسميها بمسمها الحقيقي وهي الإبادةُ الجماعيَّة، بل والأكثر قذارةً من ذلك هو محاولةُ إيجادِ مبرراتٍ لهذه الجرائمِ الإنسانيَّة.
خطوةُ المواطنِ الأمريكيِّ، تعيدُ إلى الأذهانِ ما أقدم عليه الراهبُ البوذي ثيش كوانج دوك في 10 يونيو 1963، من إحراق لنفسه بالقرب من السفارةِ الكمبوديَّة في مدينة هوشي منه في فيتنام والمعروفة باسم سايجون، احتجاجًا على الحربِ الأمريكيَّة في فيتنام، والتي أودت بحياةِ ملايين من الفيتناميين، بدعمٍ ومباركةٍ أمريكيَّة، وها نحن اليوم نشاهدُ قوات الاحتلالِ الإسرائيليِّ وقد قتلت أكثرَ من 30 ألفًا وأصابت حوالي 70 ألفًا آخرين خلال مذبحتِها ضد الفلسطينيين التي بدأت في 7 أكتوبر 2023، كما أن هناك حوالي 7500 فلسطينيِّ في عدادِ المفقودين أو محاصرين تحت الأنقاض، بحسب وزارة الصحةِ الفلسطينيَّة، وكذلك تتم هذه المذبحةُ بدعمٍ ومباركةٍ وبمشاركة أمريكيَّة باعتراف القادةِ الإسرائيليين أنفسِهم.
واقعةُ الراهبِ البوذي كانت علامةً فارقة في تاريخِ الحربِ الفيتناميَّة، فهل يكون موقفُ الجنديِّ الأمريكيِّ نقطةَ تحوُّل تدفع الإدارةَ الأمريكيَّة والغربَ كي يراجعوا سياستهم المنحازةَ لإسرائيلَ على حسابِ الفلسطينيين.
إن اقدامَ أي إنسان على إنهاءِ حياته بهذا الأسلوبِ القاسي دليلٌ على اليأسِ والإحباط من وجودِ منظومةٍ دوليَّة تستطيعُ أن تطبقَ العدالةَ في العالم.
الساسةُ الأمريكيون والغربيون من خلال عشراتِ الرحلاتِ المكوكيَّة إلى المنطقة يسعون إلى صرفِ أنظار شعوبهم عن الجرائمِ الإسرائيليَّة من خلال التركيزِ على سيناريو «اليوم التالي»، بدعوى وضع ترتيبات لمشهد ما بعد الحرب، والسؤالُ الأهم الذي لم يجب عنه أحدٌ أولا، متى ستقفُ الحربُ؟!
فالغربُ أتاح كلَّ الفرص أمام نتنياهو ومجلسِ حربِه المقيت، كي يعملَ آلته العسكرية لتقتل يمينًا وشمالا بدعوى حق الدفاعِ عن النفس، وتحريرِ الرهائن، وهي هي الحقيقةُ الجليةُ بوضوح، منذ الدفعِ بالبارجات الحربيَّة الأمريكيَّة والبريطانيَّة والفرنسيَّة إلى شرق البحر المتوسط، وكذلك من خلال إمدادِ إسرائيل بالأسلحة والقنابل التي تفتكُ بكلِّ شيء في غزة، في المقابل يرددون دائما أنهم طلبوا منها آلا تفرطَ في استخدامِها، مالكم كيف تحكمون؟!
وهذا ما كشف عنه رئيسُ الوزراءِ الإسرائيليِّ الأسبق إيهود أولمرت في مقاله في صحيفة «هآرتس» قبل بضعةِ أيام عندما كتب: «إن غزةَ مجرد خطوةٍ في مخطط حكومة بنيامين نتنياهو لـ«تطهير» الضفة الغربيَّة المحتلة من الفلسطينيين وتفريغ المسجد الأقصى من المسلمين وضم الأراضي الفلسطينية إلى إسرائيل»، لكن اختتم مقالَه قائلا: «من الواضح أننا بعيدون عن النصرِ الكامل، مثل هذا النصر غير ممكن وحتى لو استمرَ العملُ العسكريُّ عدةَ أشهر أخرى، فإن الثمنَ الذي يدفعُه لا يستحق رؤيةَ النصر الذي لا توجد إمكانيةٌ لتحقيقه، كما أن نتنياهو يدركُ أن استمرارَ هذه العمليَّة المتهورة «يقصد العدوانَ على غزة» سيؤدي إلى عزلةِ إسرائيل عن المجتمع الدولي بشكل لم تشهده من قبل».
وأتساءل هنا بعد أن أقدمت الحكومةُ الفلسطينيَّةُ على الاستقالةِ تنفيذًا للمطلبِ الأمريكيِّ، ماذا عن الحكومة الإسرائيلية؟ ألم يأن الأوانُ أن يرحلَ هذا القاتل «نتنياهو» هو وأتباعه المجرمون من المشهد حتى يمكن الوصولُ إلى تسويةٍ عادلة لهذا الصراع؟
إنني وإذ أحذِّر من امتدادِ المشهد الدامي حتى حلول شهر رمضان المبارك، أقول إن سيناريو «اليوم التالي» سيطولُ انتظاره، وإن وعدَ بايدن بأن العملياتِ العسكريَّة الإسرائيليَّة ستتوقفُ الأسبوع القادم لهو أكبرُ دليلٍ على أن الساسةَ الأمريكيين اكتشفوا أن إسرائيلَ لم تنتصر في هذه الحرب سوى في تدميرِ سمعتها وسمعة حلفائها.
ويأتي هذا الإعلانُ الأمريكيُّ في محاولةٍ منهم لجذب انتباه العالم معهم لتحسين صورتهم المشوهة، ولكننا نعلمُ أن العمليَّةَ لن تنتهيَ بهذه الصورة بل كما قلنا إن الصورةَ النهائيَّة تفوقُ تصورَ أي إنسانٍ على أرضِ الواقع.
المشهدُ الضبابيُّ في فلسطينَ المحتلة يلقي بآلامٍ تثقلُ النفسَ التي تأبى أن تغضَّ الطرفَ عن المعاناةِ الفلسطينيَّة، ولم يعد يحتمل الأمرُ مزيدًا من التراخي الدولي في إيجادِ حل لهذه الأزمةِ الإنسانيَّة التي تنذرُ بمزيدٍ من الانهيارِ الأخلاقيِّ في قيمِ المنظومةِ العالميَّة.
العقل يحتار وهو يرى الدول الغربية الكبرى تماطل في وقف إطلاق النار الفوري في غزة، ومد يد العون لأكثر من مليوني فلسطيني محاصرين تحت القصف الإسرائيلي برا وبحرا وجوا، هل هذه الدول لها الحق أن تدعي أو تسوّق أبجديات مبادئ حقوق الإنسان؟
اليوم، نرى الولايات المتحدة التي تسوّق نفسها كقوة عظمى في العالم، تأبى أن تمارس ضغوطا حقيقية على حليفتها وربيبتها «إسرائيل» لوقف جرائمها ضد الفلسطينيين، ويصل بها الحال إلى إنزال المساعدات الإغاثية للشعب الفلسطيني جوا، في اعتراف واضح بحجم المعاناة التي يعيشها أهل غزة، مع تأكيد عجزها عن فرض أي حل على مجرمي الحرب في إسرائيل الذين لا يحترمون أي قيم إنسانية.
كلمات أغنية المطربة اللبنانية فيروز تعبر عن واقع القضية الفلسطينية المأزوم على مدار أكثر من ٧٥ عاما.
سافرت القضية تَعرضُ شكواها فـي رُدهة المحاكمِ الدولية
وكانت الجمعية قد خصصت الجلسة للبحث فـي قضيّة القضيّة
وجاءَ مندوبون عَن سائر الأُمم جاؤوا من الأُمم
من دول الشمال والجنوب
والدولِ الصّغيرة ، والدّولِ الكبيرة ،
واجتمع الجميع فـي جلسةٍ رسمية ..
وكانت الجمعية قد خصصت الجلسة
للبحث فـي قضية القضية ..
وخطبَ الأمينُ العامْ : حكى عن السلام ..
وبحثَ الأعضاءُ الموضوعْ ..
وطُرحَ المشروعْ : عدالةُ القضية ،
حريةُ الشُعوب ، كرامةُ الإنسانْ وسُرعَةُ الحقوقْ ،
وَقفُ إطلاقِ النّار ، إنهاءِ النّزاع .
التّصويت .. التّوصيات .. البَتُّ فـي المشاكلِ المُعلقة... الإجمـــــاع .
وصرّحَت مصادِرٌ موثوقة .. نقلاً عن المراجعِ المطلعة
ودرست الهيئة وارتأت الهيئة
وقررت الهيئة .. إرسالَ مبعوثْ .
وصرّحَ المبعوثْ .. بأنهُ مبعوثْ ،
من قِبَلِ المصادرْ .. وأنّ حلاًّ مـــا
فـي طريقِ الحلّ ... وحين جاء الليــــلْ ..
كانَ القُضــاةُ تَعِبــــوا.. أتعبَهُم طــــولُ النّقاش ..
فأغلقوا الــدّفاتر وذهبـــوا للنـوم .
وكان فـي الخــارج.. صوتُ شــتاءٍْ وظلامْ
وبائســونَ يبحثونَ عن ســلامْ..
والجوعُ فـي ملاجىْ المشَرّدين ينامْ
وكانتِ الرّياحُ ماتزالْ ....
تقتَلعُ الخيــــامْ
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك