العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

عالم يتغير

فوزية رشيد

السعداوي: من وإلى العالم الآخر!

{‭ ‬منذ‭ ‬اللقاء‭ ‬الأول‭ ‬به‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬‮«‬عبدالله‭ ‬السعداوي‮»‬‭ ‬وكأنه‭ ‬من‭ ‬فضاء‭ ‬آخر‭! ‬يمسك‭ ‬بين‭ ‬يديه‭ ‬طرفي‭ ‬الخيط‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬الجنون‭ ‬والعقل،‭ ‬يستخرج‭ ‬منهما‭ ‬درر‭ ‬الحكمة‭! ‬وسواء‭ ‬بكلامه‭ ‬وكان‭ ‬قارئًا‭ ‬فهمًا،‭ ‬حتى‭ ‬أنيّ‭ ‬في‭ ‬مرة‭ ‬كان‭ ‬يحاضر‭ ‬في‭ ‬ندوة‭ ‬له،‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بأسماء‭ ‬المؤلفين‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬وفي‭ ‬الشرق،‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬‮«‬هل‭ ‬من‭ ‬داع‭ ‬لكل‭ ‬هذه‭ ‬الأسماء؟‭! ‬ألا‭ ‬تخشى‭ ‬من‭ ‬مغبة‭ ‬استعراضية؟‭!‬‮»‬‭ ‬ردّ‭ ‬وهو‭ ‬يضحك‭: (‬لو‭ ‬قلت‭ ‬فقط‭ ‬أفكاري‭ ‬كما‭ ‬هي‭ ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬سيعبأ‭ ‬بها‭! ‬الناس‭ ‬هنا‭ ‬تهمهم‭ ‬الأسماء‭ ‬الأخرى‭!) ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الوقت‭ ‬شعرتُ‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬أكثر‭ ‬وثوقا‭ ‬بأفكاره‭ ‬الخاصة،‭ ‬منتشلاً‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬ضياعه‭ ‬فيها‭ ‬بعد‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬المسرحية‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬التأليف،‭ ‬والتي‭ ‬قام‭ ‬بإخراجها‭ ‬‮«‬جمال‭ ‬الصقر‮»‬‭ ‬وهي‭ ‬مسرحية‭ (‬مؤلف‭ ‬ضاع‭ ‬في‭ ‬نفسه‭)!‬

{‭ ‬توالت‭ ‬مشاركاته‭ ‬وتجاربه‭ ‬المسرحية‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬قطر‭ ‬والشارقة‭ ‬والبحرين،‭ ‬ليدخل‭ ‬منطقة‭ ‬‮«‬التجريب‭ ‬المسرحي‮»‬‭ ‬من‭ ‬أوسع‭ ‬أبوابه‭ ‬أو‭ ‬يغدو‭ ‬مع‭ ‬الوقت،‭ ‬أحد‭ ‬أبرز‭ ‬مؤسسي‭ ‬‮«‬المسرح‭ ‬التجريبي‮»‬‭ ‬في‭ ‬البحرين‭ ‬والخليج،‭ ‬وكانت‭ ‬مشاركاته‭ ‬المسرحية‭ ‬في‭ ‬‮«‬مهرجان‭ ‬المسرح‭ ‬التجريبي‮»‬‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬قفزة‭ ‬نوعية‭ ‬لتجاربه‭ ‬التي‭ ‬صقلها‭ ‬بحسه‭ ‬المرهف،‭ ‬وشغفه‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬الوجودي،‭ ‬سواء‭ ‬بما‭ ‬ألفه‭ ‬أو‭ ‬أخرجه‭ ‬من‭ ‬أعمال‭ ‬له‭ ‬ولغيره‭ ‬ولمسرحيين‭ ‬عرب‭ ‬ومن‭ ‬العالم‭.‬

{‭ ‬المسرح‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬السعداوي‭ ‬يشبه‭ ‬المعركة‭ ‬الدسمة‭ ‬التي‭ ‬يخرج‭ ‬من‭ ‬أوراها‭ ‬منتصرًا‭ ‬على‭ ‬نفسه‭!‬،‭ ‬ومؤرقًا‭ ‬باستيعاب‭ ‬الجمهور‭ ‬لما‭ ‬يريد‭ ‬إيصاله‭ ‬من‭ ‬تكثيف‭ ‬في‭ ‬الفكرة‭ ‬والصورة‭ ‬والخيال‭ ‬المسرحي،‭ ‬ولكأن‭ ‬هواجسه‭ ‬الملحّة‭ ‬تراوده‭ ‬بين‭ ‬عالمين‭: ‬ما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬جنون‭ ‬في‭ ‬الواقع‭ ‬وما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬في‭ ‬الجنون‭! ‬ليكابد‭ ‬في‭ ‬دهشة‭ ‬العالمين‭ ‬أحلامًا‭ ‬تتراوح‭ ‬أيضًا‭ ‬بين‭ ‬الواقعي‭ ‬والانحياز‭ ‬للهموم‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والفانتازي‭ ‬التي‭ ‬تلوّح‭ ‬له‭ ‬كسارية‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الفانتازيا‭ ‬والعبث‭!‬

وحين‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬الإخراج‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬القاهرة‭ ‬للمسرح‭ ‬التجريبي‭ ‬عام‭ ‬1994‭ ‬عن‭ ‬مسرحيته‭ ‬‮«‬الكمامة‮»‬،‭ ‬كنت‭ ‬حينها‭ ‬مقيمة‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬وأتسابق‭ ‬مع‭ ‬الزمن‭ ‬والقاعات‭ ‬لحضور‭ ‬العروض‭ ‬المسرحية‭ ‬من‭ ‬مسرح‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭!‬،‭ ‬وحضرت‭ ‬البروفة‭ ‬الأخيرة‭ ‬لإحدى‭ ‬مسرحياته،‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬إن‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬الكمامة‮»‬‭ ‬أو‭ ‬غيرها،‭ ‬وعايشت‭ ‬زمن‭ ‬القلق‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يحاصره،‭ ‬وهو‭ ‬سعيد‭ ‬بمشاركتي‭ ‬واستطلاع‭ ‬رأيي‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬بعفوية‭: ‬‮«‬لا‭ ‬تقلق‭! ‬أنت‭ ‬إنسان‭ ‬جميل‭ ‬وحتمًا‭ ‬سيكون‭ ‬العمل‭ ‬جميلاً‮»‬‭ ‬وكان‭ ‬العرض‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬أحياء‭ ‬القاهرة‭ ‬القديمة‭.‬

{‭ ‬‮«‬عبد‭ ‬الله‭ ‬السعداوي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أصطحب‭ ‬بعض‭ ‬أطفال‭ ‬العائلة‭ ‬لمسرحياته،‭ ‬وكانت‭ ‬ابنة‭ ‬أخي‭ (‬فاطمة‭) ‬شغوفة‭ ‬به‭ ‬وهي‭ ‬تكتشف‭ ‬معه‭ ‬عوالم‭ ‬المسرح‭ ‬والشغف‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الثلاث‭ ‬السنوات،‭ ‬ويدللها‭ ‬السعداوي‭ ‬بـ‭ (‬فطومة‭) ‬وهي‭ ‬تناديه‭ (‬السداوي‭) ‬من‭ ‬دون‭ ‬لفظ‭ ‬العين‭ ‬وكأن‭ ‬خيطًا‭ ‬خفيًا‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬طفولة‭ ‬روحه‭ ‬وطفولة‭ ‬العمر‭ ‬لدى‭ ‬فطومة‭! ‬فترتفع‭ ‬ضحكاته‭ ‬وهو‭ ‬يداعبها‭ ‬كأصغر‭ ‬متفرج‭ ‬لاكتشافاته‭ ‬التجريبية‭! ‬أيام‭ ‬لا‭ ‬تُنسى‭ ‬وصحبة‭ ‬مسرحية‭ ‬لا‭ ‬تغيب‭ ‬عن‭ ‬البال،‭ ‬كلما‭ ‬قفز‭ ‬‮«‬السعداوي‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬الذاكرة‭ ‬بشخصه‭ ‬أو‭ ‬بكلامه‭ ‬أو‭ ‬رحلاته‭ ‬التجريبية‭! ‬وربما‭ ‬لهذا‭ ‬جمع‭ ‬حوله‭ ‬الشباب‭ ‬الصغار‭ ‬من‭ ‬المسرحيين،‭ ‬ليشق‭ ‬معهم‭ ‬مسار‭ ‬أسئلته‭ ‬الوجودية‭ ‬وتوغله‭ ‬في‭ ‬التجريب،‭ ‬فكان‭ ‬بمثابة‭ ‬الأب‭ ‬الروحي‭ ‬لهم‭.‬

{‭ ‬في‭ ‬قفزات‭ ‬الفكر‭ ‬المؤرق‭ ‬بالاكتشاف،‭ ‬ورغم‭ ‬تعقيدات‭ ‬التجريب،‭ ‬كان‭ ‬‮«‬السعداوي‮»‬‭ ‬قادرًا‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يحتفظ‭ ‬ببساطة‭ ‬روحه‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬رغم‭ ‬أيضًا‭ ‬زخم‭ ‬الغموض‭ ‬الذي‭ ‬يلفّ‭ ‬أسئلته‭ ‬المدهشة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬والموت‭! ‬لكأنه‭ ‬هو‭ ‬بنفسه‭ ‬إحدى‭ ‬الشخوص‭ ‬المسرحية‭ ‬التي‭ ‬تطلّ‭ ‬بوجه‭ ‬ضاحك‭ ‬فيما‭ ‬الحزن‭ ‬والقلق‭ ‬يعتصر‭ ‬الأعماق‭! ‬أو‭ ‬لكأنه‭ ‬من‭ ‬الشخصيات‭ ‬الروائية‭ ‬المرتحلة‭ ‬بين‭ ‬البعد‭ ‬المادي‭ ‬الواقعي،‭ ‬والبعد‭ ‬الآخر‭ ‬الميتافيزيقي‭ ‬الغيبي‭! ‬عالم‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وعالم‭ ‬من‭ ‬هناك‭!‬،‭ ‬والتجريب‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬يختصر‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬العالمين،‭ ‬فيربك‭ ‬المتلقي‭ ‬أو‭ ‬المشاهد‭ ‬بأرق‭ ‬في‭ ‬السؤال‭ ‬يكون‭ ‬مبهرًا‭ ‬بضوئه‭ ‬في‭ ‬لحظة،‭ ‬لينقلب‭ ‬إلى‭ ‬عتمة‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬أخرى‭! ‬هل‭ ‬كان‭ ‬يختصر‭ ‬في‭ ‬تجريبه‭ ‬المسرحي‭ ‬كل‭ ‬عناصر‭ ‬المدارس‭ ‬الأخرى‭ ‬سواء‭ ‬الدرامية‭ ‬أو‭ ‬الميلودرامية،‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬أو‭ ‬الحداثية؟‭! ‬وفيما‭ ‬هو‭ ‬مبحر‭ ‬بسفينة‭ ‬الاكتشاف‭ ‬في‭ ‬العوالم‭ ‬الغامضة،‭ ‬لا‭ ‬ينسى‭ ‬أن‭ ‬يتكئ‭ ‬على‭ ‬عصاه‭ ‬برهة‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬كشف‭ ‬آخر‭! ‬لتتوالى‭ ‬الأعمال‭ ‬التي‭ ‬أخرجها‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭.‬

{‭ ‬بتواضعه‭ ‬الجمّ،‭ ‬واتساع‭ ‬عينيه‭ ‬بنظرات‭ ‬مُلغزة،‭ ‬وشغفه‭ ‬بارتحالات‭ ‬الغموض‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬أصابه‭ ‬ملل‭ ‬الانكشاف‭ ‬وسقوط‭ ‬الأقنعة‭! ‬كان‭ ‬يبني‭ ‬بتؤدة‭ ‬تجاربه‭ ‬وتجريبه‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬والحياة‭! ‬فيطلّ‭ ‬على‭ ‬عالم‭ ‬الأصدقاء‭ ‬ورفاق‭ ‬المسرح‭ ‬بومضاته‭ ‬المدهشة،‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬يعلق‭ ‬على‭ ‬أمر‭ ‬ما‭! ‬فيتضح‭ ‬حجم‭ ‬العمق‭ ‬الذي‭ ‬يقبع‭ ‬خلف‭ ‬بساطته‭! ‬مثلما‭ ‬يتضح‭ ‬الحب‭ ‬الآسر‭ ‬للحياة‭ ‬التي‭ ‬يراها‭ ‬وكأنها‭ ‬مأسورة‭ ‬في‭ ‬أقفاص‭ ‬النسيان‭ ‬وهو‭ ‬يحاول‭ ‬فك‭ ‬رتاجها‭!‬

رحم‭ ‬الله‭ ‬‮«‬السعداوي‮»‬‭ ‬الشخصية‭ ‬المذهلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تُنسى،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬اللقاء‭ ‬به‭ ‬مستمرًا‭ ‬أو‭ ‬متواصلاً،‭ ‬ولكن‭ ‬تلك‭ ‬الومضات‭ ‬القليلة‭ ‬وإضاءاته‭ ‬الروحية‭ ‬والفكرية،‭ ‬التي‭ ‬يصادفها‭ ‬منه‭ ‬من‭ ‬عرفه،‭ ‬تكفي‭ ‬ليعرف‭ ‬أنه‭ ‬أمام‭ ‬شخصية‭ ‬مختلفة،‭ ‬وخاصة،‭ ‬ومغايرة،‭ ‬وضاربة‭ ‬في‭ ‬عمق‭ ‬الحياة‭ ‬واكتشافاتها‭ ‬وتجلياتها‭ ‬بهوس‭ ‬الأسئلة‭ ‬والتجريب‭! ‬إنه‭ ‬‮«‬عبد‭ ‬الله‭ ‬السعداوي‮»‬‭ ‬وكفى‭! ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬والعزاء‭ ‬لكل‭ ‬محبيه‭ ‬وأهله‭ ‬ولكل‭ ‬أهل‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن‭.‬

إقرأ أيضا لـ"فوزية رشيد"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا