زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن السائل المدهش
مثل كثيرين فإنني مازلت في حال اندهاش في أمر التلفزيون الذي يأتي بالصور والأصوات الحية عبر آلاف الأميال، وفي أمر التلفون، وكيفية نقله للكلام، وفي أمر الطائرة: كيف يتمكن هذا الجسم الضخم من الطيران بما عليه من حمولة؟ ولكنني سأظل محتارا في أمر الماء، فهو شيء يتعذر وصفه حسِّيا، شيء جميل شكلا ومذاقا، ينعشك إذا لامس جسمك في الاستحمام ويمتعك عند الشرب، ومع هذا فقد يتحول الى قوة مدمرة (الفيضانات والسيول الجارفة)، ولكن الثابت في أمر الماء أنه والأوكسجين أمران لا حياة بدونهما.
قبل عدة سنوات التقيت في العاصمة الأردنية عمان ألمانيا يعمل في مجال الاستشارات الإعلامية، ولأن اللقاء كان في سياق ورشة عمل، لتدريب الكوادر الصحفية الشابة في الأردن، فقد كان صاحبنا يبهرني بنشاطه وحركته الدائبة، بينما كان أبو الجعافر يستفيد من جلوسه خلف طاولة عليها غطاء من قماش ويخلع حذاءه كي يمنع قدميه من التصلب خلال الجلسات الطويلة، وينثر الدرر وهو مقعمز (بالليبي)، أي مقنب (بالسوداني)، أي منسدح (بالخليجي) وكان يستغل كل سانحة للخروج من القاعة التي كانت تجري فيها فعاليات الورشة لتنشيط الدورة الدموية.
وكنا مدعوّين ذات مساء لعشاء، فقلت لهم صادقا إنني أعاني من صداع شديد وإنني بحاجة إلى الراحة، ومن ثم فلن أستطيع تلبية الدعوة، فما كان من صاحبي الألماني إلا أن قال لي إن أمامي نحو سبع ساعات حتى موعد العشاء، وإنني لو شربت كميات كبيرة من الماء خلال تلك المدة فسوف أتخلص من الصداع، ولبّيت دعوة العشاء ولكن بعد الاستعانة بالبندول، وخلال تناول الطعام قال لي الخواجة إنه لم يعان من الصداع طوال نحو 25 سنة لأنه يشرب 4 لترات ماء يومياً على مدار السنة.
وبعدها بأشهر قليلة التقيت أستاذا جامعيا سودانيا، في غلاسغو باسكتلندا، حكى لي عرضاً كيف تخلص من الصداع النصفي (الشقيقة) بشرب الماء بكميات تجارية، وقال إنه منذ أن بدأ في الإكثار من شرب الماء، لم تأته نوبة من ذلك الصداع المدمر، الذي لازمه نحو عشرين سنة، وقال أيضا إنه في شتاء اسكتلندا القارص والقارس والجليد يغطي كل شبر في المدينة يواصل شرب لترات الماء الأربعة يوميا، وأوصلت المعلومة إلى بنت لي تعاني من الشقيقة وتضطر في أحوال كثيرة إلى الجلوس في غرفة مظلمة، لأنها لا تطيق الضوء والضجيج خلال نوبات الصداع، ومنذ نحو عامين صارت بنتي هذه طالعة ونازلة وهي تحمل زجاجة ماء في يدها، نوبات الصداع لم تختف بل صارت خفيفة وفي فترات متباعدة، وصارت هي مقتنعة بأنها لو واصلت شرب الماء بكميات كبيرة فإنها قد تتخلص من الشقيقة نهائياً.
وقرأت كلاما كثيرا عن أن الماء يسهم في تخفيف الآلام المزمنة والآلام المجهولة السبب، ولكنني أحزن لأولئك الذين يشترون الماء المعبأ في قوارير بلاستيكية ويطلقون عليه اسما لا يستحقه «ماء صحة»، بينما أفضل أنواع الماء وأكثرها استيفاء لشروط السلامة الصحية هو الذي في حنفيات بيوتنا، لأنه يتعرض للمعالجة على أيدي مهنيين وفق معايير صحية وفنية دولية متعارف عليها، ولكن المصيبة هي ان البلديات التي تزيل القمامة من الشوارع وتغلق المطاعم التي لا تتقيد بشروط السلامة الصحية لا تكلف نفسها فحص ما بخزانات الماء في البيوت من طين وطحالب، لأنها لم تخضع للغسل منذ تم وضعها على السقوف قبل عشرين أو ثلاثين سنة (يعني استخدام الفلتر لا يجعل مياه تلك الخزانات صالحة للشرب).
والبلديات عليها «بالمظهر»: الشوارع نظيفة وفيها براميل للقمامة تحمل عبارة «حافظوا على نظافة مدينتكم»، ولكن لا شأن لها بعمارة سكنية تحتل القطط منعطفات سلالمها، ولا يهمها خزان الماء الذي تغطي جدرانه طبقة من الأوساخ يبلغ سمكها أحياناً قدما واحدة. وقلبي على أولئك الذين لا يستطيعون الأكل ما لم تكن في متناول أيديهم زجاجة مشروب غازي، ولو كان الأمر بيدي لأرغمت شركات تلك المشروبات على أن تكتب عليها: هذا المشروب يسبّب هشاشة العظام، والغازات التي تثقب أوزون أنف من يجلس بجوارك.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك