زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أعطوا العيال حق تقرير المصير
في معظم الدول العربية ينتهي العام الدراسي في المراحل ما قبل الجامعية في شهر يونيو، ولهذا فهذا الشهر ثقيل على نفوس ملايين الطلاب، لأنه موسم امتحانات نهاية العام الدراسي، ولكن نصفه الثاني مبهج لبعض أولئك الملايين لأنه بداية إجازة صيفية طويلة، بينما تعيش بعض شرائح الطلاب في أجواء من التوتر الشديد خلال الجزء الأخير من ذلك الشهر، لأنهم يكونون بانتظار نتائج امتحانات حاسمة، تقرر مستقبلهم الأكاديمي ومن ثم المهني، ولولا أن العرب مصابون بضعف الذاكرة الإرادي، لأصيبوا عند مقدم كل شهر يوني/ حزيران باكتئاب وبائي، لأنه الشهر الذي هزمت فيه إسرائيل ثلاثة جيوش عربية واحتلت سيناء وغزة والضفة الغربية والجولان، ثم أسموا الهزيمة نكسة، بمعنى كبوة عابرة يستأنف الفارس بعدها «السباق».
وكتبت كثيرا، وسأظل أكتب عن كرهي للامتحانات، لأنها نوع من القسر والقهر، وتشكل من ثم ضغطاً شديداً على أعصاب أولادنا وبناتنا في ظل أنظمة تعليمية تقوم على الحشو، وليس فيها أي قدر من الديمقراطية فيما يتعلق بحرية الاختيار، ففي المرحلة الثانوية تحديدا، فأنت إما (أدبي) وإما (علمي). هب أنني فعلا أدبي الميول، ولكنني لا أحب مادة التاريخ. حسب النظم القائمة سيقولون لي: ستدرس التاريخ رغم أنفك وأنوف (من خلَّفوك) طالما أنك في المساق الأدبي، وقد أكون بارعا في الرياضيات والفيزياء، ولكنني لا أحب علم الأحياء، وهنا أيضاً لا تملك حق رفض هذه المادة، فالمقررات مقسومة إلى فئتين، وعليك اختيار جميع مواد أي من الفئتين ورجلك فوق رقبتك.
هذا فيما يتعلق بالمدرسة.. أما في البيت، فإن 90 بالمائة من العائلات تلوي أيدي العيال ليلتحقوا بالمساق العلمي لأنه وحده الذي يقود إلى دراسة الهندسة والطب، واسمحوا لي بممارسة دور (الأستاذ) في مجال الخيارات الأكاديمية، وأن أخاطب أولياء أمور الطلاب في هذا الشأن، ويؤهلني لذلك الدور أنني كنت يوما ما طالباً ثم صرت مدرساً بالمرحلة الثانوية ثم نلت ترقية وصرت (أباً)، بل من الآباء الذين يعتقدون أن أهم خدمة يسديها الوالدان لعيالهما هي منحهم أفضل الفرص التعليمية.
وكتبت أكثر من مرة عن كيف إنني منذ أن يلتحق احد عيالي بالمرحلة الثانوية أبدأ مناقشته عن مسيرته الأكاديمية المستقبلية: ما المواد التي ترغب في دراستها وتحسب أنك تستطيع ان تتفوق فيها نسبيا.. ويستمر النقاش قرابة سنتين إلى ان يستطيع تحديد نوع الدراسة الجامعية التي يرغب فيها.. وكانت كبرى بناتي متفوقة في كل مراحلها الدراسية وحصلت على العديد من الجوائز والدروع (طبعا طالعة لأبيها!!)، وعندما قررت دراسة اللغة الانجليزية في الجامعة ذهل أقرباؤنا وأصدقاؤنا: حرام.. البنت شاطرة وتقدر تدخل أي كلية علمية/عملية! قلت لهم إنها تريد دراسة الانجليزية والقرار لها. مصمصوا شفاههم سخرية أو شفقة على المسكين الذي ترك بنته تدرس مادة لا تؤهلها لأي وظيفة محترمة، هذه البنت نالت دبلوما عالياً في اللغة الفرنسية والماجستير في فقه اللغة التطبيقي في الانجليزية ثم صارت مدرسة في الجامعة وعمرها 23 سنة (قولوا ما شاء الله)، ثم حصلت على الدكتوراه من جامعة بريطانية، وليس قصدي هنا هو التباهي بتفوق ابنتي، بل تقديم دليل على أن أترك الطالب يختار ما يريده من موادّ تكفل له التفوق الأكاديمي ومن ثم الوظيفي.
عندما أحرزت في الشهادة الثانوية درجات طيبة، أجبرني أحد أقاربي وكان أستاذاً جامعيا في القانون، على دخول كلية القانون، ومكثت بتلك الكلية ثلاثة أشهر حسبتها ثلاثة قرون، وهربت منها وطلبت اللجوء في كلية الآداب، ولكن كان عليّ أن ألتحق بها في العام الدراسي التالي وبذلك تأخرت مسيرتي التعليمية سنة كاملة، ولكنني لم أندم قط على التحاقي بكلية الآداب التي قضيت بها أخصب سنوات عمري.
من سيدرس ويتعب هو ولدك أو ابنتك فاترك له/لها حق تقرير المصير والمسير والمسار الأكاديمي.. ولو تحقق حلم جميع أولياء الأمور بجعل عيالهم أطباء ومهندسين لكان جميع الحمالين في الأسواق الشعبية وغاسلي السيارات من حاملي بكالوريوس الطب والهندسة..
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك