عالم يتغير
فوزية رشيد
وأنا أتأمل تضحيات أهل غزة وصمودهم!
{ ما جرى في غزة وعلى أهلها خلال الشهور الأربعة الماضية كان حدثا لا سابقة له في كل الحروب التي شهدها العالم! سواء من حيث التدمير والتجريف الممنهج للمباني السكنية والشقق وتفجيرها على رؤوس قاطنيها، أو تدمير لكل المؤسسات الخدمية والمستشفيات والمؤسسات الإنسانية، أو من حيث الحصار القاتل وإجبار أهل غزة على النزوح من الشمال إلى الوسط إلى الجنوب، ورغم ذلك استهداف أرواحهم وهم ينزحون! أو من حيث حصار المساعدات الغذائية والأدوية وكل متطلبات الحياة! أو من حيث ظروف الخيم المؤقتة التي تكدس فيها أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، ما بين أطفال ونساء حوامل وكبار سن في ظروف شتاء قاسية وانتشار الأمراض والأوبئة، وكل مسببات التهجير القسري أو الطوعي! واستشهاد المئات (بمعدل يومي) حتى اقترب العدد من (100 ألف) أغلبهم من الأطفال والنساء!
{ رغم كل ذلك وغيره كثير من قصص المآسي التي لا يستوعبها عقل فإن أهل غزة صمدوا صمودا أسطوريا والمقاومة واصلت أداءها المذهل في تكبيد الجيش الصهيوني خسائر لم يشهدها منذ نشوئه سواء في جنوده وضباطه أو في آلياته العسكرية وقد اجتمع الغرب كله خلفه بقيادة الولايات المتحدة لدعمه وإسناده في الإبادة الجماعية والتطهير العرقي ومحاولات التهجير لشعب واجه مصيره وحيدا! ليقف الغرب والكيان الصهيوني عاجزا أمام تحقيق الأهداف المعلنة لعدوان فجع شعوب العالم من هول أحداثه!
{ هذه التضحيات التي لا يمكن وصفها بالكلمات! وهذا الصمود الذي أذهل العالم كله أمر لا ينتمي إلى هذا الزمان، هو أمر أسطوري ينفتح فيه الخيال على أساطير وقصص من عصور أخرى لم تكن فيها الرؤية المادية والغرائزية قد اكتسحت الإنسان والشعوب كما هي الآن!
أهل غزة وهم يتجاسرون على الزمن وعلى الموت وعلى فقد الأرواح من أبنائهم وعوائلهم وفقد بيوتهم بل البقاء فيها رغم القصف الوحشي حتى تختلط عظامهم بتراب وأنقاض مساكنهم ورغم ذلك يحمدون الله ويتوكلون عليه ويشكرونه هؤلاء ليسوا من طينة هذا العصر الأناني في أفكاره وشخوصه! هؤلاء وكأنهم قادمون إلى زماننا من زمن آخر ومكان آخر، فكيف لهم كل هذا الصمود والموت يحاصرهم كما الدمار والجوع والعطش والمرض من كل جهة؟!
{ هؤلاء القادمون ونحن نراقب الكوارث التي حلت بهم على الشاشات وضحاياهم يتم تسجيلها كأرقام! هل هم قادمون من فضاء آخر؟! ما هو سرهم الذي جعل كثيرا من شعوب العالم تبحث فيه لعلهم يجدون إجابة له! أعاد بعضهم قراءة القرآن لمن كان يعرفه وآخرون بدأوا لأول مرة! بل كثير منهم دخل الإسلام من باب صمود أهل غزة! وكلهم يفككون لغز أهل غزة والشكر والحمد لله على كل ما أصابهم، بيقين مطلق أن ضحاياهم شهداء عند الله وأحياء يرزقون، إنها العلاقة مع الله التي أعادت إلى البشرية أبجديات لغز الحياة وسرها ولغز الموت وسره، والأبعاد المختلفة للوجود الإنساني في الحياة أو ما بعد الموت! وكأنهم تذكرة لمعرفة أخرى وترحال آخر تتعرف عليه شعوب أسرتها الحياة المادية وشهواتها ومطامعها وأنانياتها فأيقظهم من غفوتهم الدم الفلسطيني المراق والتضحيات المكللة بالصبر والصمود والحمد، فحازوا بها وبدمائهم الزكية صفة أطلقها عليهم كثيرون من شعوب العالم وخاصة في الغرب أن أهل غزة أنقى البشر وأرقاهم بل هم الشعب الذي اختارهم الله ليعلقوا الجرس في رقاب البشرية في هذا الزمن المضمحل والراكد خارج إنسانيته وسموه الإنساني)!
{ هي البوابة التي فتحها الفلسطينيون الصامدون والمقاومون في غزة والضفة الغربية ليطل منها هذا العالم على رؤى أخرى غير تلك التي هو منجرف في داخلها! وليتعرف على ذلك الخيط الرفيع الذي يصل بين الحياة الزائلة والأخرى الممتدة في الروح الخالدة في غيب ما بعد الموت! وحيث سؤال من نحن؟! ولماذا جئنا إلى هذا العالم؟! وما هو الإيمان واليقين؟! وما هو الخير وما هو الشر؟! وما الصلة الممتدة بين الأبعاد المادية في هذه الحياة والأبعاد الواقعة خلف المادي والمحسوس؟! كل تلك الأسئلة الفلسفية والميتافيزيقية وما وراء الطبيعة التي شغلت عقول الفلاسفة والمفكرين منذ الأزل جاء أهل غزة ليجيبوا عنها بأرواحهم ودمائهم وإيمانهم ويقينهم وصلتهم بالله!
{ لا شيء يحدث صدفة! فبقدر ما كشف العدوان البربري على غزة خواء هذا العالم المحكوم بزيف السلطات والمؤسسات والمنظمات! كشف صمود أهل غزة والمقاومين قيمة الصلة الحقيقية بالله والإيمان المطلق به في إمدادهم بالقوة والصمود والتحدي لكل الظروف القاهرة وإعادة المعنى للانتماء إلى الأرض والحق والمصير! فلو اجتمعت قوى العالم كله كما حدث في حرب الإبادة على غزة ما تمكنت تلك القوى من سلب المؤمنين والموقنين إيمانهم ويقينهم أو سلبهم القوة الذاتية الأسطورية المستمدة من ذلك الإيمان واليقين! هو درس العصر لكل الشعوب لإعادة التفكير في مغزى الحياة ومآلات ما بعد الموت! وفهم حقيقة القوة الذاتية المستمدة من الارتباط بخالق هذا الكون! هل استوعب العالم الدرس أم أنه سيبقى متخبطا في بحثه عن الأسئلة والإجابات بعد كل ما رآه وعايشه؟!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك