العدد : ١٦٨٣٦ - السبت ٢٧ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٣٦ - السبت ٢٧ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٨ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

سوّاها فينا الخواجة

كانت‭ ‬أكبر‭ ‬طفرة‭ ‬مهنية‭ ‬في‭ ‬مسيرتي‭ ‬هي‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التلفزة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬درست‭ ‬فنونها‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وربما‭ ‬ذلك‭ ‬ما‭ ‬جعلني‭ ‬شديد‭ ‬التحسس‭ ‬تجاه‭ ‬التلفزيون،‭ ‬فأن‭ ‬تدرس‭ ‬أصول‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬في‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬التلفزيون،‭ ‬حيث‭ ‬حرية‭ ‬التعبير‭ ‬والإبداع‭ ‬مصانة،‭ ‬ثم‭ ‬تجد‭ ‬نفسك‭ ‬لاحقا‭ ‬ملزما‭ ‬بالعمل‭ ‬في‭ ‬قناة‭ ‬رسمية‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬نظام‭ ‬دكتاتوري‭ (‬كان‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬جعفر‭ ‬نميري‭ ‬من‭ ‬1969‭ ‬الى‭ ‬1985‭)‬،‭ ‬فلا‭ ‬غرابة‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬تحس‭ ‬بأنك‭ ‬‮«‬خنت‭ ‬الأمانة‮»‬‭- ‬أمانة‭ ‬المهنة‭.‬

قبل‭ ‬قرن‭ ‬إلا‭ ‬قليلا،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬السادس‭ ‬والعشرين‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1926م،‭ ‬قام‭ ‬البريطاني‭ ‬بائس‭ ‬الحال‭ ‬جون‭ ‬بيرد‭ ‬بدعوة‭ ‬علية‭ ‬القوم‭ ‬إلى‭ ‬شقة‭ ‬بائسة‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬سوهو‭ ‬في‭ ‬لندن‭ (‬لم‭ ‬تكن‭ ‬الدعوة‭ ‬تتعلق‭ ‬بالشيء‭ ‬الذي‭ ‬في‭ ‬بالكم‭ ‬يا‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬تعرفون‭ ‬عن‭ ‬سوهو‭ ‬إلا‭ ‬أضواءه‭ ‬الحمراء‭!!!).. ‬شاهد‭ ‬ضيوف‭ ‬بيرد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأسلاك‭ ‬تلتف‭ ‬حول‭ ‬قطع‭ ‬من‭ ‬الكرتون‭ ‬وآنية‭ ‬الطبخ‭ ‬القديمة،‭ ‬وفتافيت‭ ‬زجاج‭ ‬من‭ ‬مصابيح‭ ‬إضاءة‭ ‬الشوارع‭ ‬وعلى‭ ‬سطح‭ ‬لامع‭ ‬فوجئوا‭ ‬بصورهم‭ ‬تتحرك‭ ‬أمامهم‭ ‬تقلد‭ ‬كل‭ ‬حركة‭ ‬يأتون‭ ‬بها‭ ‬وهكذا‭ ‬كانت‭ ‬تلك‭ ‬المجموعة‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬شاهد‭ ‬ذلك‭ ‬‮«‬البتاع‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬تلفزيون‮»‬‭. ‬وتتألف‭ ‬الكلمة‭ ‬من‭ ‬شطرين‭: ‬تيلي‭ ‬وتعني‭ ‬مسافة،‭ ‬وفيجن‭ ‬وتعني‭ ‬رؤية،‭ ‬ومعا‭ ‬تعنيان‭ ‬رؤية‭ ‬الأشياء‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬مسافة‭.‬

أذكر‭ ‬أن‭ ‬صحيفة‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الكويتية‭ ‬سألت‭ ‬وزيراً‭ ‬كويتياً‭ ‬قبل‭ ‬عام‭ ‬2003‭ ‬عن‭ ‬رد‭ ‬فعله‭ ‬إزاء‭ ‬ما‭ ‬تردد‭ ‬عن‭ ‬تدهور‭ ‬صحة‭ ‬الرئيس‭ ‬العراقي‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬فقال‭: ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يبارك‭ ‬فيه‭ ‬دنيا‭ ‬ولا‭ ‬آخرة،‭ ‬وكلما‭ ‬شاهدت‭ ‬برامج‭ ‬القنوات‭ ‬التلفزيونية‭ ‬العربية‭ ‬صحت‭: ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يبارك‭ ‬في‭ ‬الخواجة‭ ‬بيرد،‭ ‬وابن‭ ‬عمه‭ ‬غريهام‭ (‬وليس‭ ‬غراهام‭) ‬بيل‭ ‬وماركوني،‭ ‬اللذين‭ ‬اخترعا‭ ‬التلفون،‭ (‬كان‭ ‬لي‭ ‬زميل‭ ‬عمل‭ ‬يمني‭ ‬هو‭ ‬أيضاً‭ ‬جاري‭ ‬في‭ ‬السكن،‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬الموبايل‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬نتبادل‭ ‬مكالمة‭ ‬هاتفية‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬واحد‭: ‬الله‭ ‬يخليك‭ ‬اتصل‭ ‬بزوجتك‭ ‬كي‭ ‬تروح‭ ‬بيتنا‭ ‬وتقول‭ ‬للمدام‭ ‬تحط‭ ‬سماعة‭ ‬التلفون‭ ‬كي‭ ‬اتمكن‭ ‬من‭ ‬محادثتها‭... ‬يعني‭ ‬بسبب‭ ‬بيل‭ ‬وماركوني‭ ‬بات‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬واسطة‭ ‬كي‭ ‬يكلم‭ ‬زوجته‭).‬

ولكن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬كوم‭ ‬والتلفزيون‭ ‬كوم‭ ‬بل‭ ‬كوم‭ ‬ضخم‭ ‬من‭ ‬التفاهات‭ ‬والقاذورات‭ ‬الأكثر‭ ‬ضرراً‭ ‬من‭ ‬اليورانيوم‭ ‬المستنفد‭ ‬أو‭ ‬المنضّب‭ ‬الذي‭ ‬تقول‭ ‬الصحف‭ ‬إنه‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬موجة‭ ‬من‭ ‬السرطانات‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والبلقان‭! ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬التلفزيون‭ ‬رجلاً‭ ‬لقتلته‭ ‬وشربت‭ ‬من‭ ‬دمه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬ظللت‭ ‬أعتاش‭ ‬من‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬طوال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬وكانت‭ ‬أمتع‭ ‬فترة‭ ‬عمل‭ ‬بالتلفزيون‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬خلالها‭ ‬في‭ ‬الرقابة‭ ‬على‭ ‬البرامج‭ ‬في‭ ‬تلفزيون‭ ‬قطر،‭ ‬وكنت‭ ‬مثل‭ ‬القاضي‭ ‬الإيراني‭ ‬الشهير‭ ‬آية‭ ‬الله‭ ‬خلخالي‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬في‭ ‬بدايات‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬بأحكامه‭ ‬القاسية‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬اعتبرهم‭ ‬خصوم‭ ‬الثورة،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬يوزع‭ ‬أحكام‭ ‬الإعدام‭ ‬‮«‬بسخاء‮»‬‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يمثلون‭ ‬أمامه،‭ ‬وبدوري‭ ‬كنت‭ ‬أصدر‭ ‬أحكاما‭ ‬بالإعدام‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬البرامج‭ ‬والمسلسلات‭ ‬التي‭ ‬تمر‭ ‬بي،‭ ‬حتى‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مدير‭ ‬التلفزيون‭ ‬ذات‭ ‬مرة‭ ‬مداعباً‭: ‬أيش‭ ‬رأيك‭ ‬أن‭ ‬تتولى‭ ‬أنت‭ ‬إعداد‭ ‬وإنتاج‭ ‬وإخراج‭ ‬البرامج‭ ‬والمسلسلات‭ ‬كي‭ ‬تكون‭ ‬عندنا‭ ‬مادة‭ ‬صالحة‭ ‬للبث،‭ ‬واكتشف‭ ‬الجماعة‭ ‬لاحقاً‭ ‬أنني‭ ‬عدو‭ ‬للتلفزيون‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المبدأ‭ ‬فكلفوني‭ ‬بمراقبة‭ ‬برامج‭ ‬الأطفال،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬حسن‭ ‬حظي‭ ‬لأنني‭ ‬أحب‭ ‬أفلام‭ ‬الكرتون‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬بينها‭ ‬مادة‭ ‬عربية‭ ‬المنشأ‭ ‬كي‭ ‬تعكنن‭ ‬علي‭ ‬مزاجي‭ ‬وأعصابي‭!‬

ولكن‭ ‬المصيبة‭ ‬الآن‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬التلفزيون‭ ‬والتلفون‭ ‬تحالفا‭ ‬كي‭ ‬يسلباني‭ ‬قواي‭ ‬العقلية‭ ‬المحدودة‭ ‬أصلاً،‭ ‬فكل‭ ‬من‭ ‬خب‭ (‬بالخاء‭) ‬ودب‭ ‬جلس‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭ ‬واضعاً‭ ‬أمامه‭ ‬التلفون‭ ‬مبتسماً‭ ‬في‭ ‬بلاهة‭ ‬يحسده‭ ‬عليها‭ ‬هبنقة‭: ‬ألو‭ ‬مين‭ ‬معي؟‭ ‬ألو‭... ‬ألو‭... ‬يظهر‭ ‬ضاع‭ ‬الخط‭!! ‬فأصيح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوتي‭: ‬يا‭ ‬ريت‭ ‬حظك‭ ‬أيضاً‭ ‬يضيع‭ ‬ويطيح‭! ‬أما‭ ‬الذي‭ ‬يفرس‭ ‬كرشي‭ ‬ويبط‭ ‬كبدي‭ ‬ويفقع‭ ‬مرارتي‭ ‬فهو‭ ‬المشاهدون‭ ‬الذين‭ ‬يتصلون‭ ‬بمثل‭ ‬تلك‭ ‬البرامج‭ ‬الركيكة‭: ‬ألو‭... ‬ممكن‭ ‬أشارك؟‭ ‬تأمل‭ ‬بلاهة‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يتكرر‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬برامج‭ ‬البث‭ ‬المباشر‭: ‬التلفون‭ ‬موضوع‭ ‬أساساً‭ ‬كي‭ ‬يشارك‭ ‬الجمهور،‭ ‬ولا‭ ‬يتم‭ ‬فتح‭ ‬الخط‭ ‬إلا‭ ‬للسماح‭ ‬للمتصل‭ ‬بالمشاركة‭ ‬ولكن‭ ‬سيادته‭ ‬أو‭ ‬سيادتها‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تطرح‭ ‬ذلك‭ ‬السؤال‭ ‬البليد‭! ‬ولو‭ ‬طولتم‭ ‬بالكم‭ ‬معي‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أفش‭ ‬غلي‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنة‭ ‬كاملة،‭ ‬وسامحوني‭ ‬إذا‭ ‬نهشت‭ ‬لحم‭ ‬عزيز‭ ‬لديكم‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭!!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا