زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
سوّاها فينا الخواجة
كانت أكبر طفرة مهنية في مسيرتي هي العمل في مجال التلفزة، بعد أن درست فنونها في بريطانيا، وربما ذلك ما جعلني شديد التحسس تجاه التلفزيون، فأن تدرس أصول العمل التلفزيوني في مسقط رأس التلفزيون، حيث حرية التعبير والإبداع مصانة، ثم تجد نفسك لاحقا ملزما بالعمل في قناة رسمية في ظل نظام دكتاتوري (كان على رأسه جعفر نميري من 1969 الى 1985)، فلا غرابة في أن تحس بأنك «خنت الأمانة»- أمانة المهنة.
قبل قرن إلا قليلا، وبالتحديد في اليوم السادس والعشرين من يناير من عام 1926م، قام البريطاني بائس الحال جون بيرد بدعوة علية القوم إلى شقة بائسة في حي سوهو في لندن (لم تكن الدعوة تتعلق بالشيء الذي في بالكم يا من لا تعرفون عن سوهو إلا أضواءه الحمراء!!!).. شاهد ضيوف بيرد مجموعة من الأسلاك تلتف حول قطع من الكرتون وآنية الطبخ القديمة، وفتافيت زجاج من مصابيح إضاءة الشوارع وعلى سطح لامع فوجئوا بصورهم تتحرك أمامهم تقلد كل حركة يأتون بها وهكذا كانت تلك المجموعة أول من شاهد ذلك «البتاع» الذي أصبح اسمه «تلفزيون». وتتألف الكلمة من شطرين: تيلي وتعني مسافة، وفيجن وتعني رؤية، ومعا تعنيان رؤية الأشياء من على مسافة.
أذكر أن صحيفة الرأي العام الكويتية سألت وزيراً كويتياً قبل عام 2003 عن رد فعله إزاء ما تردد عن تدهور صحة الرئيس العراقي صدام حسين فقال: الله لا يبارك فيه دنيا ولا آخرة، وكلما شاهدت برامج القنوات التلفزيونية العربية صحت: الله لا يبارك في الخواجة بيرد، وابن عمه غريهام (وليس غراهام) بيل وماركوني، اللذين اخترعا التلفون، (كان لي زميل عمل يمني هو أيضاً جاري في السكن، في عصر ما قبل الموبايل كثيراً ما نتبادل مكالمة هاتفية من صنف واحد: الله يخليك اتصل بزوجتك كي تروح بيتنا وتقول للمدام تحط سماعة التلفون كي اتمكن من محادثتها... يعني بسبب بيل وماركوني بات الواحد منا يحتاج إلى واسطة كي يكلم زوجته).
ولكن كل ذلك كوم والتلفزيون كوم بل كوم ضخم من التفاهات والقاذورات الأكثر ضرراً من اليورانيوم المستنفد أو المنضّب الذي تقول الصحف إنه تسبب في موجة من السرطانات في العراق والبلقان! ولو كان التلفزيون رجلاً لقتلته وشربت من دمه، على الرغم من أنني ظللت أعتاش من العمل في التلفزيون طوال أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، وكانت أمتع فترة عمل بالتلفزيون تلك التي عملت خلالها في الرقابة على البرامج في تلفزيون قطر، وكنت مثل القاضي الإيراني الشهير آية الله خلخالي الذي اشتهر في بدايات الثورة الإيرانية بأحكامه القاسية على من اعتبرهم خصوم الثورة، فقد كان يوزع أحكام الإعدام «بسخاء» على من يمثلون أمامه، وبدوري كنت أصدر أحكاما بالإعدام على معظم البرامج والمسلسلات التي تمر بي، حتى قال لي مدير التلفزيون ذات مرة مداعباً: أيش رأيك أن تتولى أنت إعداد وإنتاج وإخراج البرامج والمسلسلات كي تكون عندنا مادة صالحة للبث، واكتشف الجماعة لاحقاً أنني عدو للتلفزيون من حيث المبدأ فكلفوني بمراقبة برامج الأطفال، وكان ذلك من حسن حظي لأنني أحب أفلام الكرتون ولم تكن بينها مادة عربية المنشأ كي تعكنن علي مزاجي وأعصابي!
ولكن المصيبة الآن هي أن التلفزيون والتلفون تحالفا كي يسلباني قواي العقلية المحدودة أصلاً، فكل من خب (بالخاء) ودب جلس أمام الكاميرا واضعاً أمامه التلفون مبتسماً في بلاهة يحسده عليها هبنقة: ألو مين معي؟ ألو... ألو... يظهر ضاع الخط!! فأصيح بأعلى صوتي: يا ريت حظك أيضاً يضيع ويطيح! أما الذي يفرس كرشي ويبط كبدي ويفقع مرارتي فهو المشاهدون الذين يتصلون بمثل تلك البرامج الركيكة: ألو... ممكن أشارك؟ تأمل بلاهة هذا السؤال الذي يتكرر في جميع برامج البث المباشر: التلفون موضوع أساساً كي يشارك الجمهور، ولا يتم فتح الخط إلا للسماح للمتصل بالمشاركة ولكن سيادته –أو سيادتها– لا بد أن تطرح ذلك السؤال البليد! ولو طولتم بالكم معي أستطيع أن أفش غلي في التلفزيون على مدى سنة كاملة، وسامحوني إذا نهشت لحم عزيز لديكم بين الحين والآخر!!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك