زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
وقفت على أطلالي
من عاداتي السنوية الراتبة الوقوف على أطلال كل عام منقضٍ، لأرى مالنا وما علينا، ولا يفوتني عادة عرض بعض تخاريف ماغي فرح التي تأتي في شكل تكهنات من فئة «عمرك طويل وأجَلَك قصير»، باستقراء حركة الكواكب وهي بهذا تزعم أنها قادرة على التكهن بتلك الحركة، وبهذا تزعم القدرة على الرجم بالغيب، ويستغرق مني الشروع في كتابة شيء عن حالنا خلال الأعوام التي انقضت وقتا قصيرا لأنني وكلما أرجعت البصر لقراءة دفتر أحوالنا الماضية انقلب اليّ البصر خاسئا وهو حسير.
ولست بحاجة لتشغيل كل فصوص دماغي (أصلا أجزاء منها تقاعدت)، لاستنتاج أن كل شيء تقريبا في عالمنا راكد، والركود لا يعني فقط عدم الحركة بل يعني أيضاً التحلل وتوالد الجراثيم والباكتيريا، والإنسان الفرد إذا صار (راكدا) أي قليل أو عديم الحركة، يصاب بتيبس المفاصل وربما تصلب الشرايين والجلطات. يعني يصاب بإعاقة من نوع أو آخر، وتخيل حال مجتمعات بأكملها تعاني الركود الثقافي والعلمي والاجتماعي والسياسي!
وما يثير دهشتي واستنكاري هو أننا شديدو الاحتفاء برؤوس السنوات التي نسميها ميلادية (بصراحة ملّيت تذكيركم بأن التسمية تلك خطأ وقلت لكم قبل أيام قليلة إن المسيح عليه السلام لم يولد قبل الفين وبضع سنوات، بل لا تتفق الأناجيل على تاريخ معين لمولده، والتقويم الذي نسميه «ميلادي» تسميته الصحيحة «غريغوري»/ تقويمي، وكان من قبل اسمه جولياني نسبة إلى جولياس سيزر/ يوليوس قيصر)
الأول من يناير لا يأتي بأي لمسات سحرية، تؤدي إلى تبدل الحال إلى أفضل، وياما عشنا وشفنا عشرات (الأوائل من يناير) ولم تكن تختلف عن الأول من تموز أو سبتمبر أو صفر، وعلى المستوى الشخصي فإن مطالع الأعوام الجديدة تذكرني فقط بأن الله مد في أيامي سنة، وأن تلك السنة شطبت من عمري. وانظر في المرآة وأرى فيها شخصاً لا أكاد أعرفه: من أنت أيها البائس؟ ما ذلك الكيس المجعد الذي يبدو أسفل عينك؟ هل هذا جعفر عباس أم أرئيل شارون والعياذ بالله؟ أحاول أن أتجاهل الشخص الذي يقف قبالتي في المرآة رغم أنني ألاحظ انه به شبها للشخص الذي كنته قبل عشرين أو خمس وعشرين سنة.
قبل أيام عثرت على صورة لي وأنا طالب في المرحلة الثانوية (وهذا يخرس الألسن الحاقدة التي تزعم أنني أكملت تعليمي قبل اختراع الكاميرا)، وحسبت في بادئ الأمر أنها لشخص من ضحايا المجاعة في دارفور، ورأيت عدة صور لي في الصحف الخليجية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي وقلت: الدوام لله.. ثم عدت إلى المرآة وقلت لنفسي معزياً: ولا يهمك أبو الجعافر فأنت صبوح أكثر من صباح، رغم أنك لم تخضع لجراحة تجميل ولم تصبغ شعر رأسك قط ولم تستخدم أي كريم أو دهان أو بودرة تخفي ما فعلته السنون بشكلك! عندما كنا صغارا في أقصى شمال السودان كانت أيدينا وأرجلنا تتشقق شتاء بسبب استخدام الماء عند الوضوء، وفي كل ليلة كانت أمهاتنا يمسحن جلودنا بمنتجات مرطبة للبشرة يأتون بها من المطبخ. نعم زيت الطعام العادي كان هو الكريم الذي نكافح به تشقق وجفاف البشرة.
ومع إطلالة كل عام جديد أتذكر بعض أهلي «أختي أنجبت بنتها البكر في يناير من عام كذا، وتعلقت بنتها بي وصرت لها أما وأبا، واحيانا كنت أضطر إلى التغيب عن العمل لأنها بكت بحرقة عندما أردت مغادرة البيت. تلك البنت هي اليوم أم لأربعة أطفال، ولكنها لا تزال تطلب مني أن أدللها كطفلة.. وأنظر في المرآة مجددا وأقول: الحمد لله، هذا الشخص البائس الذي يقف أمامي هو جعفر.. أنا.. وقد أكرمني الله وعشت كل هذه السنوات، ولو كان ثمن ذلك بعض التجاعيد، فأهلا بالتجاعيد والأخاديد.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك