العدد : ١٦٨٣٧ - الأحد ٢٨ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٣٧ - الأحد ٢٨ أبريل ٢٠٢٤ م، الموافق ١٩ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

وقفت على أطلالي

من‭ ‬عاداتي‭ ‬السنوية‭ ‬الراتبة‭ ‬الوقوف‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬منقضٍ،‭ ‬لأرى‭ ‬مالنا‭ ‬وما‭ ‬علينا،‭ ‬ولا‭ ‬يفوتني‭ ‬عادة‭ ‬عرض‭ ‬بعض‭ ‬تخاريف‭ ‬ماغي‭ ‬فرح‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬تكهنات‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬‮«‬عمرك‭ ‬طويل‭ ‬وأجَلَك‭ ‬قصير‮»‬،‭ ‬باستقراء‭ ‬حركة‭ ‬الكواكب‭ ‬وهي‭ ‬بهذا‭ ‬تزعم‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬التكهن‭ ‬بتلك‭ ‬الحركة،‭ ‬وبهذا‭ ‬تزعم‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الرجم‭ ‬بالغيب،‭ ‬ويستغرق‭ ‬مني‭ ‬الشروع‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬حالنا‭ ‬خلال‭ ‬الأعوام‭ ‬التي‭ ‬انقضت‭ ‬وقتا‭ ‬قصيرا‭ ‬لأنني‭ ‬وكلما‭ ‬أرجعت‭ ‬البصر‭ ‬لقراءة‭ ‬دفتر‭ ‬أحوالنا‭ ‬الماضية‭ ‬انقلب‭ ‬اليّ‭ ‬البصر‭ ‬خاسئا‭ ‬وهو‭ ‬حسير‭.‬

ولست‭ ‬بحاجة‭ ‬لتشغيل‭ ‬كل‭ ‬فصوص‭ ‬دماغي‭ (‬أصلا‭ ‬أجزاء‭ ‬منها‭ ‬تقاعدت‭)‬،‭ ‬لاستنتاج‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬تقريبا‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬راكد،‭ ‬والركود‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬فقط‭ ‬عدم‭ ‬الحركة‭ ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬أيضاً‭ ‬التحلل‭ ‬وتوالد‭ ‬الجراثيم‭ ‬والباكتيريا،‭ ‬والإنسان‭ ‬الفرد‭ ‬إذا‭ ‬صار‭ (‬راكدا‭) ‬أي‭ ‬قليل‭ ‬أو‭ ‬عديم‭ ‬الحركة،‭ ‬يصاب‭ ‬بتيبس‭ ‬المفاصل‭ ‬وربما‭ ‬تصلب‭ ‬الشرايين‭ ‬والجلطات‭.  ‬يعني‭ ‬يصاب‭ ‬بإعاقة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬أو‭ ‬آخر،‭ ‬وتخيل‭ ‬حال‭ ‬مجتمعات‭ ‬بأكملها‭ ‬تعاني‭ ‬الركود‭ ‬الثقافي‭ ‬والعلمي‭ ‬والاجتماعي‭ ‬والسياسي‭!  ‬

وما‭ ‬يثير‭ ‬دهشتي‭ ‬واستنكاري‭ ‬هو‭ ‬أننا‭ ‬شديدو‭ ‬الاحتفاء‭ ‬برؤوس‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬نسميها‭ ‬ميلادية‭ (‬بصراحة‭ ‬ملّيت‭ ‬تذكيركم‭ ‬بأن‭ ‬التسمية‭ ‬تلك‭ ‬خطأ‭ ‬وقلت‭ ‬لكم‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬إن‭ ‬المسيح‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭ ‬لم‭ ‬يولد‭ ‬قبل‭ ‬الفين‭ ‬وبضع‭ ‬سنوات،‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬تتفق‭ ‬الأناجيل‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬معين‭ ‬لمولده،‭ ‬والتقويم‭ ‬الذي‭ ‬نسميه‭ ‬‮«‬ميلادي‮»‬‭ ‬تسميته‭ ‬الصحيحة‭ ‬‮«‬غريغوري‮»‬‭/ ‬تقويمي،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬اسمه‭ ‬جولياني‭ ‬نسبة‭ ‬إلى‭ ‬جولياس‭ ‬سيزر‭/ ‬يوليوس‭ ‬قيصر‭)‬

الأول‭ ‬من‭ ‬يناير‭ ‬لا‭ ‬يأتي‭ ‬بأي‭ ‬لمسات‭ ‬سحرية،‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تبدل‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬أفضل،‭ ‬وياما‭ ‬عشنا‭ ‬وشفنا‭ ‬عشرات‭ (‬الأوائل‭ ‬من‭ ‬يناير‭) ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬تموز‭ ‬أو‭ ‬سبتمبر‭ ‬أو‭ ‬صفر،‭  ‬وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬الشخصي‭ ‬فإن‭ ‬مطالع‭ ‬الأعوام‭ ‬الجديدة‭ ‬تذكرني‭ ‬فقط‭ ‬بأن‭ ‬الله‭ ‬مد‭ ‬في‭ ‬أيامي‭ ‬سنة،‭ ‬وأن‭ ‬تلك‭ ‬السنة‭ ‬شطبت‭ ‬من‭ ‬عمري‭. ‬وانظر‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬وأرى‭ ‬فيها‭ ‬شخصاً‭ ‬لا‭ ‬أكاد‭ ‬أعرفه‭: ‬من‭ ‬أنت‭ ‬أيها‭ ‬البائس؟‭  ‬ما‭ ‬ذلك‭ ‬الكيس‭ ‬المجعد‭ ‬الذي‭ ‬يبدو‭ ‬أسفل‭ ‬عينك؟‭  ‬هل‭ ‬هذا‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭ ‬أم‭ ‬أرئيل‭ ‬شارون‭ ‬والعياذ‭ ‬بالله؟‭  ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أتجاهل‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬قبالتي‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬ألاحظ‭ ‬انه‭ ‬به‭ ‬شبها‭ ‬للشخص‭ ‬الذي‭ ‬كنته‭ ‬قبل‭ ‬عشرين‭ ‬أو‭ ‬خمس‭ ‬وعشرين‭ ‬سنة‭.‬

قبل‭ ‬أيام‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬صورة‭ ‬لي‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ (‬وهذا‭ ‬يخرس‭ ‬الألسن‭ ‬الحاقدة‭ ‬التي‭ ‬تزعم‭ ‬أنني‭ ‬أكملت‭ ‬تعليمي‭ ‬قبل‭ ‬اختراع‭ ‬الكاميرا‭)‬،‭ ‬وحسبت‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬أنها‭ ‬لشخص‭ ‬من‭ ‬ضحايا‭ ‬المجاعة‭ ‬في‭ ‬دارفور،‭ ‬ورأيت‭ ‬عدة‭ ‬صور‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬الصحف‭ ‬الخليجية‭ ‬في‭ ‬ثمانينات‭ ‬وتسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وقلت‭: ‬الدوام‭ ‬لله‭.. ‬ثم‭ ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬المرآة‭ ‬وقلت‭ ‬لنفسي‭ ‬معزياً‭: ‬ولا‭ ‬يهمك‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬فأنت‭ ‬صبوح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬صباح،‭ ‬رغم‭ ‬أنك‭ ‬لم‭ ‬تخضع‭ ‬لجراحة‭ ‬تجميل‭ ‬ولم‭ ‬تصبغ‭ ‬شعر‭ ‬رأسك‭ ‬قط‭ ‬ولم‭ ‬تستخدم‭ ‬أي‭ ‬كريم‭ ‬أو‭ ‬دهان‭ ‬أو‭ ‬بودرة‭ ‬تخفي‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬السنون‭ ‬بشكلك‭! ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬صغارا‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬كانت‭ ‬أيدينا‭ ‬وأرجلنا‭ ‬تتشقق‭ ‬شتاء‭ ‬بسبب‭ ‬استخدام‭ ‬الماء‭ ‬عند‭ ‬الوضوء،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬ليلة‭ ‬كانت‭ ‬أمهاتنا‭ ‬يمسحن‭ ‬جلودنا‭ ‬بمنتجات‭ ‬مرطبة‭ ‬للبشرة‭ ‬يأتون‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬المطبخ‭. ‬نعم‭ ‬زيت‭ ‬الطعام‭ ‬العادي‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الكريم‭ ‬الذي‭ ‬نكافح‭ ‬به‭ ‬تشقق‭ ‬وجفاف‭ ‬البشرة‭.‬

ومع‭ ‬إطلالة‭ ‬كل‭ ‬عام‭ ‬جديد‭ ‬أتذكر‭ ‬بعض‭ ‬أهلي‭ ‬‮«‬أختي‭ ‬أنجبت‭ ‬بنتها‭ ‬البكر‭ ‬في‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬كذا،‭ ‬وتعلقت‭ ‬بنتها‭ ‬بي‭ ‬وصرت‭ ‬لها‭ ‬أما‭ ‬وأبا،‭ ‬واحيانا‭ ‬كنت‭ ‬أضطر‭ ‬إلى‭ ‬التغيب‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬لأنها‭ ‬بكت‭ ‬بحرقة‭ ‬عندما‭ ‬أردت‭ ‬مغادرة‭ ‬البيت‭. ‬تلك‭ ‬البنت‭ ‬هي‭ ‬اليوم‭ ‬أم‭ ‬لأربعة‭ ‬أطفال،‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أدللها‭ ‬كطفلة‭..  ‬وأنظر‭ ‬في‭ ‬المرآة‭ ‬مجددا‭ ‬وأقول‭: ‬الحمد‭ ‬لله،‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬البائس‭ ‬الذي‭ ‬يقف‭ ‬أمامي‭ ‬هو‭ ‬جعفر‭.. ‬أنا‭.. ‬وقد‭ ‬أكرمني‭ ‬الله‭ ‬وعشت‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬السنوات،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬بعض‭ ‬التجاعيد،‭ ‬فأهلا‭ ‬بالتجاعيد‭ ‬والأخاديد‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا