العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

كانت لي أيام عِز

أحمد‭ ‬الله‭ ‬بكرة‭ ‬وعشيّاً‭ ‬لأنه‭ ‬مد‭ ‬في‭ ‬أيامي،‭ ‬حتى‭ ‬أكمل‭ ‬عيالي‭ ‬تعليمهم‭ ‬العالي،‭ ‬وصار‭ ‬لي‭ ‬أحفاد،‭ ‬ومع‭ ‬هذا،‭ ‬وربما‭ ‬بسبب‭ ‬هذا،‭ ‬فمنذ‭ ‬سنين‭ ‬طويلة‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أعيش‭ ‬لنفسي،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬عندي‭ ‬نفس‮»‬‭ ‬أو‭ ‬مزاج‭ ‬لشيء‭ ‬معين،‭ ‬فلم‭ ‬أعد‭ ‬اشتهي‭ ‬شيئاً‭ ‬لنفسي،‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬مأكلا‭ ‬أو‭ ‬ملبسا،‭ ‬لأنني‭ ‬قررت‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬لعيالي‭ ‬ولأهلي‭ ‬عموما،‭ ‬وعندما‭ ‬كان‭ ‬عيالي‭ ‬صغارا‭ ‬كانت‭ ‬المتعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعادلها‭ ‬متعة‭ ‬عندي،‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬البيت‭ ‬حاملاً‭ ‬بعض‭ ‬الأشياء‭ ‬التافهة‭ ‬التي‭ ‬يعشقها‭ ‬الصغار،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتمادى‭ ‬في‭ ‬الهدايا‭ ‬والعطايا،‭ ‬وأعيد‭ ‬على‭ ‬مسامع‭ ‬عيالي‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭: ‬اخشوشنوا‭ ‬فإن‭ ‬النعمة‭ ‬لا‭ ‬تدوم،‭ ‬ولكن‭ ‬ابنتي‭ ‬المتوحشة‭ ‬مروة‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬طفولتها‭ ‬لا‭ ‬ترحمني‭ ‬إذا‭ ‬رفضت‭ ‬لها‭ ‬طلباً،‭ ‬وخاصة‭ ‬إذا‭ ‬تعللت‭ ‬بارتفاع‭ ‬سعر‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬طلبته‭: ‬ماما‭ ‬لماذا‭ ‬لم‭ ‬تختاري‭ ‬زوجاً‭ ‬ميسور‭ ‬الحال؟‭ ‬فأرد‭ ‬عليها‭: ‬لو‭ ‬فعلت‭ ‬ذلك‭ ‬لما‭ ‬كنت‭ ‬أنت‭ ‬مروة‭ ‬ابنة‭ ‬ذلك‭ ‬الميسور‭ ‬الحال،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬تفهم‭ ‬قصدي‭ ‬وتردد‭: ‬حكم‭ ‬القوي‭ ‬على‭ ‬الضعيف،‭ ‬أو‭ ‬ربنا‭ ‬على‭ ‬المفتري،‭ ‬والمقصود‭ ‬بالمفتري‭ ‬هو‭ ‬أنا،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أن‭ ‬صاحبة‭ ‬اللقب‭ ‬عن‭ ‬جدارة‭ ‬هي‭ ‬أمها‭! ‬وما‭ ‬من‭ ‬شيء‭ ‬كان‭ ‬ينرفز‭ ‬حبيبتي‭ ‬مروة‭ ‬مثل‭ ‬قولي‭ ‬أمامها‭ ‬كلما‭ ‬عايرتني‭ ‬بمحدودية‭ ‬مواردي‭ ‬المالية‭: ‬أوضاعنا‭ ‬المالية‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭ ‬على‭ ‬أحسن‭ ‬ما‭ ‬يرام،‭ ‬وكلها‭ ‬كم‭ ‬سنة‭ -‬إذا‭ ‬مد‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬أيامي‭- ‬وأكون‭ ‬ممن‭ ‬يخرجون‭ ‬الزكاة‭ ‬عن‭ ‬أنصبة‭ ‬حال‭ ‬عليها‭ ‬الحول‭! ‬وقد‭ ‬عادت‭ ‬مروة‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬مبتسمة‭ ‬منشرحة‭ ‬الصدر‭ ‬ومددت‭ ‬لي‭ ‬قصاصة‭ ‬من‭ ‬جريدة‭ ‬أمريكية‭ ‬وهي‭ ‬تقول‭: ‬معك‭ ‬حق‭ ‬يا‭ ‬بابا،‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نيأس‭ ‬من‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭.‬

كانت‭ ‬في‭ ‬القصاصة‭ ‬حكاية‭ ‬المتشرد‭ ‬الأمريكي‭ ‬ستيفن‭ ‬كنت،‭ ‬الذي‭ ‬رأى‭ ‬شرطيا‭ ‬يقترب‭ ‬منه‭ ‬ففر‭ ‬هارباً‭ ‬وهو‭ ‬يحسب‭ ‬أن‭ ‬الشرطي‭ ‬بصدد‭ ‬اعتقاله،‭ ‬ولكن‭ ‬الشرطي‭ ‬مد‭ ‬إليه‭ ‬ورقة‭ ‬مالية‭ ‬من‭ ‬فئة‭ ‬المائة‭ ‬دولار‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬أرجو‭ ‬ألا‭ ‬تنسانا‭.. ‬فنحن‭ ‬نبحث‭ ‬عنك‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬توفي‭ ‬عمك‭ ‬تاركاً‭ ‬لك‭ ‬خمسة‭ ‬ملايين‭ ‬دولار،‭ ‬واشترى‭ ‬ستيفن‭ ‬تذكرة‭ ‬باص‭ ‬وذهب‭ ‬إلى‭ ‬ولاية‭ ‬أوهايو‭ ‬حيث‭ ‬تسلّم‭ ‬الثروة‭! ‬قلت‭ ‬لمروة‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬جائز‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬بين‭ ‬أقاربي‭ ‬الأموات‭ ‬أو‭ ‬الأحياء‭ ‬من‭ ‬يبلغ‭ ‬مجموع‭ ‬كريات‭ ‬الدم‭ ‬الحمراء‭ ‬والبيضاء‭ ‬عنده‭ ‬خمسة‭ ‬ملايين،‭ ‬بل‭ ‬لو‭ ‬باع‭ ‬جميع‭ ‬أقاربي‭ ‬كلياتهم‭ ‬لما‭ ‬عادت‭ ‬عليهم‭ ‬بخمسة‭ ‬ملايين‭ ‬جنيه‭ ‬سوداني‭ (‬وهو‭ ‬عملة‭ ‬جرى‭ ‬تعويمها‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬العملات‭ ‬فغرقت‭)‬،‭ ‬لأن‭ ‬معظمهم‭ ‬يعيش‭ ‬على‭ ‬كلى‭ ‬صلاحيتها‭ ‬منتهية‭.‬

وتذكرت‭ ‬أيام‭ ‬العز‭ ‬وكيف‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬حان‭ ‬موعد‭ ‬دفع‭ ‬مهر‭ ‬زوجتي‭ ‬الأولى‭ (‬والأخيرة‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬رصيدي‭ ‬في‭ ‬البنك‭ ‬نحو‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬سوداني،‭ ‬وكان‭ ‬الجنيه‭ ‬السوداني‭ ‬وقتها‭ ‬يعادل‭ ‬الدولارين،‭ ‬ولم‭ ‬يطاوعني‭ ‬قلبي‭ ‬على‭ ‬إهدار‭ ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬الضخمة‭ ‬على‭ ‬فتاة‭ ‬لتصبح‭ ‬زوجتي‭ ‬وتتحكم‭ ‬في‭ ‬حياتي،‭ ‬وسألت‭ ‬نفسي‭: ‬هل‭ ‬المسألة‭ ‬مُستاهلة‭ ‬ألف‭ ‬جنيه‭ ‬جمعتها‭ ‬عبر‭ ‬السنين،‭ ‬تطير‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬يديك‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر‭ ‬خلال‭ ‬دقائق؟‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬ذنب‭ ‬تلك‭ ‬المسكينة؟‭ ‬طيب،‭ ‬وما‭ ‬ذنبي‭ ‬أنا‭ ‬حتى‭ ‬يستولى‭ ‬أهل‭ ‬زوجتي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الثروة‭ ‬الهائلة‭ ‬ثم‭ ‬أتحمل‭ ‬أنا‭ ‬نفقات‭ ‬إعاشة‭ ‬بنتهم‭ ‬إلى‭ ‬أقرب‭ ‬الأجلين‭ ‬الموت‭ ‬أو‭ ‬الطلاق؟‭ ‬

لعنت‭ ‬إبليس‭ ‬وسحبت‭ ‬‮«‬أموالي‮»‬‭ ‬من‭ ‬البنك،‭ ‬وحسبني‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قابلني‭ ‬وأنا‭ ‬أحمل‭ ‬المظروف‭ ‬الذي‭ ‬يحوي‭ ‬تلك‭ ‬الأموال‭ ‬مصاباً‭ ‬بمرض‭ ‬عصبي،‭ ‬لأنني‭ ‬كنت‭ ‬أرتجف‭ ‬لأن‭ ‬إبليس‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬المافيا‭ ‬الإيطالية‭ ‬جاءت‭ ‬إلى‭ ‬الخرطوم‭ ‬لتجردني‭ ‬من‭ ‬ثروتي،‭ ‬واخترت‭ ‬تاكسي‭ ‬سائقه‭ ‬جربان‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قدرت‭ ‬أنني‭ ‬استطيع‭ ‬أن‭ ‬أتغلب‭ ‬عليه‭ ‬إذا‭ ‬اتضح‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬المافيا،‭ ‬وحاول‭ ‬السطو‭ ‬على‭ ‬نقودي،‭ ‬وفور‭ ‬عودتي‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬أرغمت‭ ‬أمي‭ ‬على‭ ‬الذهاب‭ ‬فوراً‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬العروس‭ ‬لتسليمهم‭ ‬المهر‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أغير‭ ‬رأيي‭ ‬في‭ ‬شأن‭ ‬الزواج‭ ‬إذا‭ ‬بقي‭ ‬المبلغ‭ ‬معي‭ ‬بضع‭ ‬ساعات،‭ ‬وحصل‭ ‬خير‭ ‬وتزوجت،‭ ‬وكان‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬حر‭ ‬مالي‭: ‬لا‭ ‬قرض‭ ‬ربوي‭ ‬ولا‭ ‬قرض‭ ‬حسن‭. ‬كيف‭ ‬يتزوج‭ ‬إنسان‭ ‬بقرض‭ ‬بنكي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الإحساس‭ ‬بأن‭ ‬الزيجة‭ ‬بأكملها‭ ‬مرهونة‭ ‬للبنك؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا