العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورقة من ملف الطفولة والصبا

كلما‭ ‬وقفت‭ ‬أمام‭ ‬المرآة‭ ‬متأملا‭ ‬أناقتي‭ ‬وحلاوتي،‭ ‬سمعت‭ ‬هاتفا‭ ‬يقول‭ ‬لي‭ ‬بالمصري‭ ‬‮«‬سبحان‭ ‬الله‭ ‬كنا‭ ‬فين‭ ‬وبقينا‭ ‬فين‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬طفولتي‭ ‬وصباي‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬وجهي‭ ‬وما‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬تعابير‭ ‬إلا‭ ‬بالنظر‭ ‬في‭ ‬فتحة‭ ‬زير‭ ‬الماء،‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬المرآة‭ ‬كانت‭ ‬ترفا‭ ‬لا‭ ‬يعرفه‭ ‬سوى‭ ‬بعض‭ ‬الأثرياء،‭ ‬تماما‭ ‬كما‭ ‬الساعات‭ ‬وأجهزة‭ ‬الراديو،‭ ‬بل‭ ‬كنت‭ ‬وقومي‭ ‬عموما‭ ‬محرومين‭ ‬من‭ ‬بعض‭ ‬الضروريات،‭ ‬وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬أصبت‭ ‬في‭ ‬صباي‭ ‬بدوسنتاريا‭ ‬لئيمة،‭ ‬ربما‭ ‬لأن‭ ‬حصتي‭ ‬من‭ ‬الذباب‭ ‬كانت‭ ‬مليوني‭ ‬ضعف‭ ‬حصتي‭ ‬من‭ ‬الناتج‭ ‬القومي‭ ‬لبلاد‭ ‬السودان،‭ ‬وفشلت‭ ‬كافة‭ ‬الأعلاف‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬في‭ ‬استئصال‭ ‬المرض،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬العيادة‭ ‬‮«‬التعبانة‮»‬‭ ‬في‭ ‬بلدتنا‭ ‬سوى‭ ‬ستة‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الأدوية‭ ‬السائلة،‭ ‬وكان‭ ‬بالعيادة‭ ‬كوب‭ ‬واحد‭ ‬صغير‭ ‬يتم‭ ‬صب‭ ‬الدواء‭ ‬عليه‭ ‬ليشربه‭ ‬المريض‭ ‬وهو‭ ‬واقف‭ ‬أمام‭ ‬‮«‬مساعد‭ ‬الحكيم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬ممرض‭ ‬متمرس‭ ‬وليس‭ ‬طبيبا‭ ‬مؤهلا،‭ ‬وهكذا‭ ‬كان‭ ‬نحو‭ ‬خمسين‭ ‬شخصا‭ ‬يصطفون،‭ ‬ويشرب‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬دواء‭ ‬مختلفا‭ ‬من‭ ‬نفس‭ ‬الكوب‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬غسله،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يتسبب‭ ‬ذلك‭ ‬الكوب‭ ‬البائس‭ ‬في‭ ‬تفشي‭ ‬الأوبئة‭ ‬في‭ ‬البلدة،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يبدو‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تصالح‭ ‬مع‭ ‬الفيروسات‭ ‬والجراثيم،‭ ‬لأن‭ ‬معظمها‭ ‬كان‭ ‬يقيم‭ ‬داخل‭ ‬أجسادنا‭ ‬على‭ ‬الرحب‭ ‬والسعة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬كانت‭ ‬تتصرف‭ ‬بما‭ ‬يليق‭ ‬بضيف‭ ‬لا‭ ‬يتعرض‭ ‬لمضايقات‭.‬

ساءت‭ ‬حالتي‭ ‬الصحية،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬رجل‭ ‬كان‭ ‬أهل‭ ‬البلدة‭ ‬النوبيون‭ ‬يسمونه‭ ‬الفسيه‭ (‬يقصدون‭ ‬الفصيح‭) ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬يجيد‭ ‬التحدث‭ ‬بالعربية،‭ ‬ولا‭ ‬يلحق‭ ‬بها‭ ‬عاهات‭ ‬مستديمة‭ ‬كما‭ ‬كان‭ ‬يفعل‭ ‬الآخرون،‭ ‬بحكم‭ ‬أنه‭ ‬زار‭ ‬القاهرة‭ ‬والخرطوم‭ ‬كثيرا،‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬إن‭ ‬خير‭ ‬علاج‭ ‬للدوسنتاريا‭ ‬هو‭ ‬الأفيون،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬سمعنا‭ ‬بالأفيون‭ ‬أو‭ ‬الكمُون‭ ‬أو‭ ‬البوكيمون،‭ ‬فاستبشرت‭ ‬أمي‭ ‬خيرا‭ ‬وطلبت‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬رسالة‭ ‬إلى‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬المدينة‭ ‬أشرح‭ ‬له‭ ‬فيها‭ ‬حالتي‭ ‬الصحية‭ ‬وأطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يرسل‭ ‬لي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬السرعة‭ ‬بعض‭ ‬الأفيون‭. ‬وهكذا‭ ‬تحاملت‭ ‬على‭ ‬نفسي‭ ‬وجلست‭ ‬أكتب‭: ‬والدي‭ ‬العزيزة‭ (‬خذوا‭ ‬في‭ ‬الاعتبار‭ ‬أنني‭ ‬وقتها‭ ‬كنت‭ ‬نوبيا‭ ‬صرفا‭ ‬وعجمة‭ ‬لساني‭ ‬ميؤوس‭ ‬منها‭).  ‬لقد‭ ‬أصابتني‭ ‬مرد‭ (‬مرض‭) ‬لعينة‭ ‬يقولون‭ ‬إن‭ ‬اسمها‭ ‬سوسنتاريا‭ ‬أو‭ ‬حاجة‭ ‬زي‭ ‬كده‭.. ‬وقد‭ ‬فشل‭ ‬جميع‭ ‬الدويات‭ (‬الأدوية‭) ‬والقشوش‭ (‬جمع‭ ‬قش‭ ‬أي‭ ‬الأعشاب‭) ‬في‭ ‬مؤالجتها‭ (‬معالجتها‭).  ‬وقد‭ ‬قال‭ ‬لنا‭ ‬داوود‭ ‬صالح‭ ‬السفيه‭ (‬أقصد‭ ‬الفسيه‭ ‬أي‭ ‬الفصيح‭) ‬إن‭ ‬الأفيون‭ ‬أحسن‭ ‬دوا‭ ‬لتلك‭ ‬المرد‭ ‬فأرجو‭ ‬إرسال‭ ‬كمية‭ ‬كبيرة‭ ‬منها‭ ‬مع‭ ‬أول‭ ‬قادم‭ ‬إلى‭ ‬البلد‭.  ‬ولدك‭ ‬المطيعة‭ ‬جعفر‭ ‬عباس‭!!‬

ولحسن‭ ‬أو‭ ‬سوء‭ ‬حظي‭ ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬يحمل‭ ‬ماجستيرا‭ ‬في‭ ‬الأمية‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬الكون،‭ ‬وأوكل‭ ‬أمر‭ ‬قراءة‭ ‬الرسالة‭ ‬إلى‭ ‬شقيقي‭ ‬الأكبر‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعيش‭ ‬معه‭ ‬في‭ ‬المدينة،‭ ‬وما‭ ‬أن‭ ‬فهم‭ ‬الوالد‭ ‬فحوى‭ ‬الرسالة‭ ‬إلا‭ ‬والتفت‭ ‬نحو‭ ‬شقيقي‭ ‬وقال‭ ‬له‭: ‬روح‭ ‬السوق‭ ‬ولا‭ ‬ترجع‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قد‭ ‬اشتريت‭ ‬أكبر‭ ‬كمية‭ ‬من‭ ‬الأفيون،‭ ‬ولم‭ ‬يجد‭ ‬شقيقي‭ ‬مناصا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يشرح‭ ‬للوالد‭ ‬أن‭ ‬الأفيون‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المخدرات،‭ ‬ولكن‭ ‬الوالد‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬كلمة‭ ‬مخدرات،‭ ‬وهنا‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬شقيقي‭: ‬يعني‭ ‬زي‭ ‬البنقو‭.. ‬البانقو‭ ‬يا‭ ‬يابا‭ (‬نعم‭ ‬هو‭ ‬بنقو‭ ‬وهو‭ ‬بضاعتنا‭ ‬لأنه‭ ‬ينمو‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كنبات‭ ‬طفيلي‭ ‬وليس‭ ‬بانجو‭ ‬كما‭ ‬يكتبها‭ ‬المصريون‭ ‬الذين‭ ‬حولوا‭ ‬جون‭ ‬قرنق‭ ‬إلى‭ ‬جارانج‭). ‬هنا‭ ‬جن‭ ‬جنون‭ ‬الوالد‭: ‬يا‭ ‬خسارة‭. ‬أنا‭ ‬قلبي‭ ‬كان‭ ‬حاسس‭ ‬ان‭ ‬جعفر‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬خير‭.. ‬وها‭ ‬هو‭ ‬طلع‭ ‬بتاع‭ ‬بنقو‭ ‬قبل‭ ‬ان‭ ‬تطلع‭ ‬أضراس‭ ‬العقل‭ ‬في‭ ‬فمه‭.. ‬لكن‭ ‬الحق‭ ‬ما‭ ‬‮«‬عليها‮»‬‭ ‬إنما‭ ‬على‭ ‬أمك‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تربيه‭.. ‬علي‭ ‬بالطلاق‭ ‬الولد‭ ‬ده‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقعد‭ ‬في‭ ‬البلد‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬عيني‭.‬

وهكذا‭ ‬وببركات‭ ‬الدوسنتاريا‭ ‬انتقلت‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬حيث‭ ‬الكهرباء‭ ‬والماء‭ ‬الذي‭ ‬ينزل‭ ‬من‭ ‬الحنفية‭ ‬كما‭ ‬الشعيرية‭ (‬الدُش‭)‬،‭ ‬وصفح‭ ‬والدي‭ ‬عن‭ ‬اعتزامي‭ ‬تعاطي‭ ‬الأفيون‭ ‬وزودني‭ ‬طبيب‭ ‬حقيقي‭ ‬بحبوب‭ ‬اسمها‭ ‬انتوفيوفورم‭ ‬اطاحت‭ ‬بالدوسنتاريا‭ ‬في‭ ‬غضون‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭ ‬وأصبح‭ ‬ذلك‭ ‬الدواء‭ ‬لا‭ ‬يفارقني،‭ ‬فما‭ ‬أن‭ ‬تضطرب‭ ‬امعائي‭ ‬إلا‭ ‬وأسكتها‭ ‬بقرص‭ ‬أو‭ ‬اثنين،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الصاعقة‭: ‬هيئة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬قالت‭ ‬إن‭ ‬ذلك‭ ‬الدواء‭ ‬ذو‭ ‬مضار‭ ‬عديدة‭ ‬أخفها‭ ‬وطأة‭ ‬فقدان‭ ‬البصر‭. ‬كم‭ ‬كنا‭ ‬بسطاء‭ ‬وتعساء‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا