زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ورقة من ملف الطفولة والصبا
كلما وقفت أمام المرآة متأملا أناقتي وحلاوتي، سمعت هاتفا يقول لي بالمصري «سبحان الله كنا فين وبقينا فين»، وكنت في طفولتي وصباي غير قادر على رؤية وجهي وما به من تعابير إلا بالنظر في فتحة زير الماء، ذلك لأن المرآة كانت ترفا لا يعرفه سوى بعض الأثرياء، تماما كما الساعات وأجهزة الراديو، بل كنت وقومي عموما محرومين من بعض الضروريات، وأذكر أنني أصبت في صباي بدوسنتاريا لئيمة، ربما لأن حصتي من الذباب كانت مليوني ضعف حصتي من الناتج القومي لبلاد السودان، وفشلت كافة الأعلاف الموجودة في شمال السودان في استئصال المرض، ولم يكن في العيادة «التعبانة» في بلدتنا سوى ستة أنواع من الأدوية السائلة، وكان بالعيادة كوب واحد صغير يتم صب الدواء عليه ليشربه المريض وهو واقف أمام «مساعد الحكيم» الذي هو ممرض متمرس وليس طبيبا مؤهلا، وهكذا كان نحو خمسين شخصا يصطفون، ويشرب كل واحد منهم دواء مختلفا من نفس الكوب دون أن يتم غسله، ومع هذا لم يتسبب ذلك الكوب البائس في تفشي الأوبئة في البلدة، فقد كنا في ما يبدو في حالة تصالح مع الفيروسات والجراثيم، لأن معظمها كان يقيم داخل أجسادنا على الرحب والسعة، وبالتالي كانت تتصرف بما يليق بضيف لا يتعرض لمضايقات.
ساءت حالتي الصحية، إلى أن قال لنا رجل كان أهل البلدة النوبيون يسمونه الفسيه (يقصدون الفصيح) لأنه كان يجيد التحدث بالعربية، ولا يلحق بها عاهات مستديمة كما كان يفعل الآخرون، بحكم أنه زار القاهرة والخرطوم كثيرا، قال الرجل إن خير علاج للدوسنتاريا هو الأفيون، ولم نكن وقتها قد سمعنا بالأفيون أو الكمُون أو البوكيمون، فاستبشرت أمي خيرا وطلبت مني أن أكتب رسالة إلى أبي في المدينة أشرح له فيها حالتي الصحية وأطلب منه أن يرسل لي على وجه السرعة بعض الأفيون. وهكذا تحاملت على نفسي وجلست أكتب: والدي العزيزة (خذوا في الاعتبار أنني وقتها كنت نوبيا صرفا وعجمة لساني ميؤوس منها). لقد أصابتني مرد (مرض) لعينة يقولون إن اسمها سوسنتاريا أو حاجة زي كده.. وقد فشل جميع الدويات (الأدوية) والقشوش (جمع قش أي الأعشاب) في مؤالجتها (معالجتها). وقد قال لنا داوود صالح السفيه (أقصد الفسيه أي الفصيح) إن الأفيون أحسن دوا لتلك المرد فأرجو إرسال كمية كبيرة منها مع أول قادم إلى البلد. ولدك المطيعة جعفر عباس!!
ولحسن أو سوء حظي كان والدي يحمل ماجستيرا في الأمية من جامعة الكون، وأوكل أمر قراءة الرسالة إلى شقيقي الأكبر الذي كان يعيش معه في المدينة، وما أن فهم الوالد فحوى الرسالة إلا والتفت نحو شقيقي وقال له: روح السوق ولا ترجع دون أن تكون قد اشتريت أكبر كمية من الأفيون، ولم يجد شقيقي مناصا من أن يشرح للوالد أن الأفيون نوع من المخدرات، ولكن الوالد لم يكن يعرف معنى كلمة مخدرات، وهنا قال له شقيقي: يعني زي البنقو.. البانقو يا يابا (نعم هو بنقو وهو بضاعتنا لأنه ينمو في السودان كنبات طفيلي وليس بانجو كما يكتبها المصريون الذين حولوا جون قرنق إلى جارانج). هنا جن جنون الوالد: يا خسارة. أنا قلبي كان حاسس ان جعفر ما فيه خير.. وها هو طلع بتاع بنقو قبل ان تطلع أضراس العقل في فمه.. لكن الحق ما «عليها» إنما على أمك التي لم تربيه.. علي بالطلاق الولد ده لا يمكن أن يقعد في البلد بعيدا عن عيني.
وهكذا وببركات الدوسنتاريا انتقلت إلى المدينة حيث الكهرباء والماء الذي ينزل من الحنفية كما الشعيرية (الدُش)، وصفح والدي عن اعتزامي تعاطي الأفيون وزودني طبيب حقيقي بحبوب اسمها انتوفيوفورم اطاحت بالدوسنتاريا في غضون أيام قليلة وأصبح ذلك الدواء لا يفارقني، فما أن تضطرب امعائي إلا وأسكتها بقرص أو اثنين، ثم جاءت الصاعقة: هيئة الصحة العالمية قالت إن ذلك الدواء ذو مضار عديدة أخفها وطأة فقدان البصر. كم كنا بسطاء وتعساء!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك