العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

رغم كل ذلك أحبه

حب‭ ‬الأوطان‭ ‬من‭ ‬حب‭ ‬إنسان‭ ‬الأوطان،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬السويّ‭ ‬لا‭ ‬يحب‭ ‬وطنه‭ ‬لأن‭ ‬فيه‭ ‬الخضرة‭ ‬ممتدة‭ ‬والمياه‭ ‬جارية‭ ‬والطيور‭ ‬مغردة،‭ ‬بل‭ ‬يحبه‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬لأنه‭ ‬يحب‭ ‬أهله‭ ‬ومن‭ ‬هذا‭ ‬الحب‭ ‬يتفرع‭ ‬حب‭ ‬الطبيعة‭ ‬وغيرها،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬حب‭ ‬الأوطان‭ ‬رهنا‭ ‬بجمال‭ ‬الطبيعة‭ ‬وحدها‭ ‬لما‭ ‬حظيت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬بمواطنين‭ ‬يحبونها‭. ‬أقول‭ ‬قولي‭ ‬هذا‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬جرح‭ ‬شعوري‭ ‬حد‭ ‬الإيلام‭ ‬الفادح‭ ‬عندما‭ ‬تساءل‭: ‬ماذا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬كي‭ ‬تحبه؟

منذ‭ ‬سنوات‭ ‬وأنا‭ ‬أتعاطى‭ ‬عقاقير‭ ‬للحد‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم،‭ ‬وظللت‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬منضبطاً‭ ‬في‭ ‬تناول‭ ‬الدواء‭ ‬وتفادي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭.. ‬قدر‭ ‬المستطاع‭. ‬أقول‭ ‬قدر‭ ‬المستطاع‭ ‬لأنك‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تسيطر‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬طعامك‭ ‬وشرابك‭ ‬وسلوكك‭ ‬بما‭ ‬يمنع‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬عندك،‭ ‬ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬تفعل‭ ‬بالناس‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬سبب‭ ‬أساسي‭ ‬لأمراض‭ ‬الجهاز‭ ‬الدوري‭ ‬والقلب؟‭ ‬معظم‭ ‬الناس‭ ‬طيبون‭ ‬وودودون‭ ‬ومهذبون،‭ ‬ولكن‭ ‬هناك‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬قمة‭ ‬في‭ ‬الجلافة‭ ‬وقلة‭ ‬الذوق‭. ‬أناس‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تجمعك‭ ‬بهم‭ ‬صلة‭ ‬دم‭ ‬أو‭ ‬رحم‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬عمل،‭ ‬ولكنك‭ ‬تلتقيهم‭ ‬عرضاً‭ ‬فيسممون‭ ‬بدنك،‭ ‬إما‭ ‬بألفاظ‭ ‬نابية‭ ‬أو‭ ‬بسلوك‭ ‬فظ‭ ‬لا‭ ‬مبرر‭ ‬له‭.           ‬

وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬ممن‭ ‬يعتقدون‭ ‬أن‭ ‬الرياضة‭ ‬قد‭ ‬تفسد‭ ‬الأخلاق،‭ ‬لأن‭ ‬تسعين‭ ‬في‭ ‬المائة‭ ‬من‭ ‬اللاعبين‭ ‬يتلفظون‭ ‬بكلمات‭ ‬بذيئة‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬مهذبة‭ ‬أثناء‭ ‬المباريات،‭ ‬أما‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الأخلاق‭ ‬الرياضية‭ ‬فقد‭ ‬يكون‭ ‬كالحديث‭ ‬عن‭ ‬الوحدة‭ ‬العربية،‭ ‬مجرد‭ ‬كليشيه‭ ‬عديم‭ ‬المعنى‭ ‬نردده‭ ‬ببغاوية‭ ‬مقيتة‭. ‬وقيادة‭ ‬السيارة‭ ‬أيضاً‭ ‬قد‭ ‬تفسد‭ ‬الأخلاق،‭ ‬فهناك‭ ‬من‭ ‬يبصق‭ ‬في‭ ‬وجهك‭ ‬عبر‭ ‬نافذة‭ ‬السيارة‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تنطلق‭ ‬بسيارتك‭ ‬بالسرعة‭ ‬التي‭ ‬يريدها‭ ‬هو،‭ ‬أو‭ ‬لأنك‭ ‬لم‭ ‬تدرك‭ ‬أنه‭ ‬شخص‭ ‬مهم‭ ‬وتفسح‭ ‬له‭ ‬الطريق‭ ‬ذا‭ ‬المسار‭ ‬الواحد،‭ ‬ومفردات‭ ‬مثل‭: ‬حمار‭.. ‬غبي‭.. ‬زفت‭.. ‬يتم‭ ‬تداولها‭ ‬عبر‭ ‬نوافذ‭ ‬السيارات‭ ‬يومياً‭ ‬آلاف‭ ‬المرات‭!!‬

على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات‭ ‬أكون‭ ‬في‭ ‬الجزء‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬ديسمبر‭ ‬وأوائل‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬ومن‭ ‬الناحية‭ ‬الفنية‭ ‬في‭ ‬غنى‭ ‬عن‭ ‬عقاقير‭ ‬خفض‭ ‬ضغط‭ ‬الدم،‭ ‬لا‭ ‬أتوقف‭ ‬عن‭ ‬تعاطيها‭ ‬ولكن‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬عندي‭ ‬يكون‭ ‬شبابياً‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬لسبب‭ ‬بسيط‭: ‬لأنني‭ ‬أقضي‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬عادة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬مع‭ ‬اخوتي‭ ‬وأقاربي‭ ‬وأصدقائي،‭ ‬وينتهي‭ ‬ديسمبر‭ ‬ويبدأ‭ ‬عام‭ ‬جديد‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬بأمر‭ ‬رأس‭ ‬السنة‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬أقضيه‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬رأس‭ ‬سنة‭ ‬وجدير‭ ‬بالاحتفاء‭!!‬

في‭ ‬الخرطوم‭ ‬أدرك‭ ‬معنى‭ ‬وقيمة‭ ‬راحة‭ ‬البال‭. ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بين‭ ‬أناس‭ ‬يحملونك‭ ‬في‭ ‬حدقات‭ ‬العيون‭ ‬ليس‭ ‬طمعاً‭ ‬في‭ ‬مغنم‭ ‬أو‭ ‬ترقية‭ ‬أو‭ ‬مناقصة‭ ‬بل‭ ‬لأنك‭ ‬منهم‭ ‬وفيهم‭. ‬لحمهم‭ ‬ودمهم‭. ‬وفور‭ ‬عودتي‭ ‬من‭ ‬السودان‭ ‬تتضخم‭ ‬فاتورتي‭ ‬الهاتفية،‭ ‬لأنني‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬العضوي‭ ‬مع‭ ‬أهلي‭ ‬وأحبائي‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬فإنني‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أتدفأ‭ ‬بأصواتهم‭ ‬ولتذهب‭ ‬الفواتير‭ ‬والفلوس‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يحسون‭ ‬بالدفء‭ ‬إلا‭ ‬بملامسة‭ ‬المال‭!‬

لا‭ ‬أظن‭ ‬أنني‭ ‬شخص‭ ‬عصبي‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬الأطباء‭ ‬يقولون‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬ارتفاع‭ ‬ضغط‭ ‬الدم‭ ‬العصبي‭ ‬(STRESS HYPERTENSION) الذي‭ ‬ينجم‭ ‬عن‭ ‬التوتر‭! ‬شؤوني‭ ‬الخاصة‭ ‬لا‭ ‬توترني،‭ ‬فأنا‭ ‬راض‭ ‬بما‭ ‬عندي‭ ‬وشاكر،‭ ‬وعيالي‭ ‬بحمد‭ ‬الله‭ ‬أصحاء‭ ‬ومجتهدون‭ ‬وحسنو‭ ‬التربية‭ (‬في‭ ‬نظري‭ ‬على‭ ‬الأقل‭)‬،‭ ‬ولي‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأصدقاء‭ ‬الأوفياء،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنه‭ ‬لا‭ ‬يمر‭ ‬يوم‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغلي‭ ‬دمي‭: ‬أمورنا‭ ‬وأحوالنا‭ ‬تثير‭ ‬القرف‭ ‬والحزن‭. ‬قادتنا‭ ‬يضحكون‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬ويحسبون‭ ‬أننا‭ ‬عجول،‭ ‬العالم‭ ‬يسير‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬وينجز‭ ‬بين‭ ‬الحين‭ ‬والآخر‭ ‬كشفاً‭ ‬وفتحاً‭ ‬علمياً‭ ‬وثقافياً،‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نتقن‭ ‬سوى‭ ‬كشف‭ ‬حال‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬بالهتر‭ ‬والسباب‭ ‬والتنابز‭ ‬بالألقاب،‭ ‬وها‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬يريدون‭ ‬حكم‭ ‬السودان‭ ‬يصبون‭ ‬الموت‭ ‬على‭ ‬رؤوس‭ ‬من‭ ‬يريدون‭ ‬حكمهم‭!!‬

وبالمناسبة‭ ‬فإنني‭ ‬وعلى‭ ‬صعيد‭ ‬شخصي‭ ‬فإنني‭ ‬أستاء‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬ترويج‭ ‬نكات‭ ‬عن‭ ‬‮«‬كسل‮»‬‭ ‬السودانيين،‭ ‬ومنشأ‭ ‬الاستياء‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬مروجي‭ ‬تلك‭ ‬النكات‭ ‬أنفسهم‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬منتجي‭ ‬ومصدري‭ ‬الكسل،‭ ‬ولا‭ ‬يتقنون‭ ‬سوى‭ ‬الجدل‭ ‬وقلة‭ ‬العمل،‭ ‬بينما‭ ‬في‭ ‬سودان‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أحد‭ ‬النوم‭ ‬قبل‭ ‬انتصاف‭ ‬الليل،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬عندنا‭ ‬شيشة‭ ‬ولا‭ ‬مقاه‭ ‬لطق‭ ‬الحنك‭ ‬والنميمة‭. ‬ومن‭ ‬لا‭ ‬يعمل‭ ‬يصاب‭ ‬بالبواسير‭ ‬ويصبح‭ ‬أسير‭ ‬الفراش‭. ‬أصبحنا‭ ‬شعباً‭ ‬صلب‭ ‬العود،‭ ‬يئس‭ ‬من‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬وتولى‭ ‬بنفسه‭ ‬مقاليد‭ ‬أمور‭ ‬الصحة‭ ‬والتعليم‭ ‬وسائر‭ ‬الخدمات‭.. ‬وقادتنا‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬الحقب‭ ‬مشغولون‭ ‬بتقاسم‭ ‬السلطة‭ ‬والثروة‭ ‬فيما‭ ‬بينهم‭ ‬ولا‭ ‬يعنيهم‭ ‬في‭ ‬شيء‭ ‬ان‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬يشار‭ ‬اليه‭ ‬بأنه‭ ‬سلة‭ ‬غذاء‭ ‬العالم‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الجغرافيا‭ ‬صار‭ ‬يستجدي‭ ‬الغذاء‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا