العدد : ١٦٨٤٦ - الثلاثاء ٠٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٦ - الثلاثاء ٠٧ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٨ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

اسمعوها من مدخن متقاعد (1)

قد‭ ‬يكون‭ ‬فيما‭ ‬أكتبه‭ ‬اليوم‭ ‬تعريض‭ ‬بالتدخين‭ ‬والمدخنين،‭ ‬ولكن‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬سلامتهم‭ ‬ومن‭ ‬منطلق‭ ‬انني‭ ‬كنت‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬منهم‭ ‬وفيهم،‭ ‬وقد‭ ‬أبديت‭ ‬دهشتي‭ ‬مرارا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬توافقا‭ ‬دوليا‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬السجائر‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬الصحة،‭ ‬بينما‭ ‬خطر‭ ‬الكحول‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬والجسدية‭ ‬والعقلية‭ ‬مؤكد،‭ ‬وفوق‭ ‬هذا‭ ‬فالكحول‭ ‬يجعل‭ ‬البعض‭ ‬عدوانيا،‭ ‬ولكننا‭ ‬لم‭ ‬نسمع‭ ‬قط‭ ‬عن‭ ‬ارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬تحت‭ ‬تأثير‭ ‬التبغ‭.‬

شخصيا‭ ‬تعرضت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬لحملة‭ ‬شرسة‭ ‬لا‭ ‬قبل‭ ‬لي‭ ‬بها،‭ ‬استهدفت‭ ‬الحملة‭ ‬المدخنين،‭ ‬وكنت‭ ‬منهم،‭ ‬وبلغ‭ ‬من‭ ‬شراستها‭ ‬أنها‭ ‬طعنت‭ ‬في‭ ‬رجولتي،‭ ‬عندما‭ ‬أبرز‭ ‬القائمون‭ ‬على‭ ‬أمرها‭ ‬مستندات‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬التدخين‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬العجز‭ ‬الجنسي،‭ ‬وإذا‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬صحيحًا‭ ‬فلا‭ ‬عزاء‭ ‬في‭ ‬الفياغرا‭ ‬ويا‭ ‬خيبة‭ ‬الأمة‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تعول‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬يمارس‭ ‬أبناؤها‭ ‬الفحولة‭ ‬الصيفية‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬وآسيا،‭ ‬وقد‭ ‬أصيب‭ ‬المدخنون‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬شهدت‭ ‬تلك‭ ‬الحملات‭ ‬بعقد‭ ‬نفسية‭ ‬فظيعة،‭ ‬وأصبح‭ ‬بعضهم‭ ‬غير‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬السير‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تلوك‭ ‬الألسن‭ ‬سيرته‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬تلك‭ ‬الحملة‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬صديق‭ ‬مدخن‭ ‬إنه‭ ‬كلما‭ ‬رأى‭ ‬شخصا‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬وهو‭ ‬يدخن‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬عام‭ ‬رأى‭ ‬عينيه‭ ‬تقولان‭: ‬شوارب‭ ‬على‭ ‬الفاضي‭.. ‬رجال‭ ‬أي‭ ‬كلام‭.. ‬من‭ ‬بره‭ ‬هلا‭ ‬هلا‭ ‬ومن‭ ‬جوه‭ ‬يعلم‭ ‬الله‭.. ‬يا‭ ‬هلا‭ ‬بمايكل‭ ‬جاكسون‭ (‬ألا‭ ‬يعد‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬دليلًا‭ ‬دامغًا‭ ‬على‭ ‬بطلان‭ ‬نظرية‭ ‬داروين‭ ‬حول‭ ‬أصل‭ ‬الأنواع‭ ‬والنشوء‭ ‬والارتقاء،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬صباه‭ ‬ومطلع‭ ‬شبابه‭ ‬أسود‭ ‬وبأنف‭ ‬جعفر‭ ‬عباسي،‭ ‬ثم‭ ‬نشأ‭ ‬وارتقى‭ ‬وأصبح‭ ‬لونه‭ ‬كاكاو‭ ‬بالحليب‭ ‬وأنفه‭ ‬حادّاً‭ ‬كما‭ ‬أنف‭ ‬فيروز‭.. ‬ثم‭ ‬أصبح‭ ‬شيئًا‭ ‬وسطا‭ ‬بين‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭.. ‬فسبحانه‭ ‬الذي‭ ‬يخرج‭ ‬الحي‭ ‬من‭ ‬الميت‭. ‬لي‭ ‬صديق‭ ‬حاقد‭ ‬كلما‭ ‬رأى‭ ‬فتاة‭ ‬جميلة‭ ‬تمر‭ ‬بنا،‭ ‬أشار‭ ‬إليها‭ ‬ثم‭ ‬إلي‭ ‬وقال‭: ‬سبحان‭ ‬الله‭ ‬خالق‭ ‬هذه‭ ‬وهذا‭ ‬واحد‭). ‬باختصار‭ ‬أصبحت‭ ‬أوضاع‭ ‬المدخنين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬سيئة،‭ ‬وصاروا‭ ‬عرضة‭ ‬لكوكتيل‭ ‬من‭ ‬الاتهامات،‭ ‬وانتهى‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬التدخين‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬‮«‬الوجاهة‮»‬‭.‬

ومنذ‭ ‬بضع‭ ‬سنوات‭ ‬وأنا‭ ‬مدخن‭ ‬متقاعد،‭ ‬وربما‭ ‬هاو،‭ ‬ولا‭ ‬ارتكب‭ ‬التدخين‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقدم‭ ‬لي‭ ‬أحدهم‭ ‬سيجارة،‭ ‬فلأنني‭ ‬إنسان‭ ‬حساس،‭ ‬وكلي‭ ‬ذوق،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أكسر‭ ‬خاطر‭ ‬يد‭ ‬تمتد‭ ‬إليّ‭ ‬بسيجارة‭. ‬وكنت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬مدخنا‭ ‬محترفا‭. ‬قاتل‭ ‬الله‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬نخلة‮»‬‭ ‬تلك‭ ‬السيجارة‭ ‬المحلية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تباع‭ ‬بسعر‭ ‬‮«‬التراب‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬يعد‭ ‬أرخص‭ ‬سلعة‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬من‭ ‬المحيط‭ ‬إلى‭ ‬الخليج،‭ ‬وأبو‭ ‬نخلة‭ ‬هذا‭ ‬كان‭ ‬أول‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬السجاير‭ ‬الملفوف‭ ‬آليا‭ ‬تعرفه‭ ‬منطقتنا؛‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬التبغ‭ ‬المحلي‭ ‬المتاح‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬أبو‭ ‬نخلة‭ ‬يسمى‭ ‬القمشة،‭ ‬وينتمي‭ ‬إلى‭ ‬فصيلة‭ ‬الفلفل،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬أبو‭ ‬نخلة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ‭ ‬فتحا‭ ‬عظيمًا،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬وقتها‭ ‬متيما‭ ‬بحب‭ ‬سعاد‭ ‬حسني‭ (‬عصر‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬نبيلة‭ ‬عبيد‭) ‬وكنت‭ ‬أجلس‭ ‬أمام‭ ‬شاشة‭ ‬السينما‭ ‬ممسكا‭ ‬بالسيجارة‭ ‬نافثا‭ ‬الدخان‭ ‬من‭ ‬أنفي‭ ‬للفت‭ ‬انتباهها‭ ‬إليّ،‭ ‬ثم‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬غرام‭ ‬الممثلة‭ ‬الهوليوودية‭ ‬الراحلة‭ ‬ناتالي‭ ‬وود،‭ ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الانتقال‭ ‬إلى‭ ‬التبغ‭ ‬الفرجيني‭ ‬الفاخر،‭ ‬من‭ ‬روثمانز‭ (‬وليس‭ ‬روثمان‭) ‬ومالبرا‭ (‬وليس‭ ‬مارلبورو‭).‬

ومهما‭ ‬كانت‭ ‬مزايا‭ ‬أبو‭ ‬نخلة‭ ‬المظهرية‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬رائحته‭ ‬تنقض‭ ‬وضوء‭ ‬من‭ ‬يجالس‭ ‬من‭ ‬يدخنها،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬مقبولًا‭ ‬أن‭ ‬تراني‭ ‬ناتالي‭ ‬وود‭ ‬وأنا‭ ‬أدخن‭ ‬تبغا‭ ‬مشتقا‭ ‬من‭ ‬الفسيخ،‭ ‬وواكبت‭ ‬تلك‭ ‬القفزة‭ ‬الحضارية‭ ‬المتمثلة‭ ‬في‭ ‬تدخين‭ ‬السجائر‭ ‬الإفرنجي‭ ‬مشكلات‭ ‬اجتماعية‭ ‬واقتصادية،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬تسول‭ ‬السجائر‭ ‬متفشيًا‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تخرج‭ ‬علبة‭ ‬التبغ‭ ‬إلا‭ ‬امتدت‭ ‬الأيدي‭ ‬تجاملك‭ ‬في‭ ‬شفط‭ ‬الدخان،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬يضع‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬جيبيه‭ ‬تبغا‭ ‬محترما‭ (‬بنسون‭ ‬أو‭ ‬روثمانز‭) ‬لاستعماله‭ ‬الشخصي،‭ ‬ويضع‭ ‬في‭ ‬الجيب‭ ‬الآخر‭ ‬تبغا‭ ‬محليا‭ ‬لزوم‭ ‬تقديمه‭ ‬للآخرين،‭ ‬والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬النزعة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬لدى‭ ‬المدخنين‭ ‬السودانيين‭ ‬تسببت‭ ‬في‭ ‬ابتداع‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬التخميس‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تداول‭ ‬السيجارة‭ ‬الواحدة‭ ‬بين‭ ‬خمسة‭ ‬أشخاص،‭ ‬ولحسن‭ ‬الحظ‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬البشرية‭ ‬وقتها‭ ‬قد‭ ‬اخترعت‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭.‬

وغدا‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭ ‬نواصل‭ ‬موال‭ ‬التدخين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا