زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
اسمعوها من مدخن متقاعد (1)
قد يكون فيما أكتبه اليوم تعريض بالتدخين والمدخنين، ولكن فقط من باب الحرص على سلامتهم ومن منطلق انني كنت يوما ما منهم وفيهم، وقد أبديت دهشتي مرارا من أن هناك توافقا دوليا على ان السجائر خطر على الصحة، بينما خطر الكحول على الصحة النفسية والجسدية والعقلية مؤكد، وفوق هذا فالكحول يجعل البعض عدوانيا، ولكننا لم نسمع قط عن ارتكاب جريمة تحت تأثير التبغ.
شخصيا تعرضت على مدى سنوات لحملة شرسة لا قبل لي بها، استهدفت الحملة المدخنين، وكنت منهم، وبلغ من شراستها أنها طعنت في رجولتي، عندما أبرز القائمون على أمرها مستندات تفيد بأن التدخين يؤدي إلى العجز الجنسي، وإذا كان هذا صحيحًا فلا عزاء في الفياغرا ويا خيبة الأمة العربية التي تعول على أن يمارس أبناؤها الفحولة الصيفية في أوروبا وآسيا، وقد أصيب المدخنون في بعض الدول التي شهدت تلك الحملات بعقد نفسية فظيعة، وأصبح بعضهم غير قادر على السير في الشوارع خوفًا من أن تلوك الألسن سيرته.
وفي سياق تلك الحملة قال لي صديق مدخن إنه كلما رأى شخصا ينظر إليه وهو يدخن في مكان عام رأى عينيه تقولان: شوارب على الفاضي.. رجال أي كلام.. من بره هلا هلا ومن جوه يعلم الله.. يا هلا بمايكل جاكسون (ألا يعد هذا الرجل دليلًا دامغًا على بطلان نظرية داروين حول أصل الأنواع والنشوء والارتقاء، فقد كان في صباه ومطلع شبابه أسود وبأنف جعفر عباسي، ثم نشأ وارتقى وأصبح لونه كاكاو بالحليب وأنفه حادّاً كما أنف فيروز.. ثم أصبح شيئًا وسطا بين النساء والرجال.. فسبحانه الذي يخرج الحي من الميت. لي صديق حاقد كلما رأى فتاة جميلة تمر بنا، أشار إليها ثم إلي وقال: سبحان الله خالق هذه وهذا واحد). باختصار أصبحت أوضاع المدخنين في كل دول العالم سيئة، وصاروا عرضة لكوكتيل من الاتهامات، وانتهى زمن كان فيه التدخين ضربا من «الوجاهة».
ومنذ بضع سنوات وأنا مدخن متقاعد، وربما هاو، ولا ارتكب التدخين ما لم يقدم لي أحدهم سيجارة، فلأنني إنسان حساس، وكلي ذوق، فإنني لا أستطيع أن أكسر خاطر يد تمتد إليّ بسيجارة. وكنت ذات يوم مدخنا محترفا. قاتل الله «أبو نخلة» تلك السيجارة المحلية التي كانت تباع بسعر «التراب»، الذي يعد أرخص سلعة في بلاد من المحيط إلى الخليج، وأبو نخلة هذا كان أول نوع من السجاير الملفوف آليا تعرفه منطقتنا؛ فقد كان التبغ المحلي المتاح في عصر ما قبل أبو نخلة يسمى القمشة، وينتمي إلى فصيلة الفلفل، ومن ثم كان أبو نخلة بالنسبة إليّ فتحا عظيمًا، فقد كنت وقتها متيما بحب سعاد حسني (عصر ما قبل نبيلة عبيد) وكنت أجلس أمام شاشة السينما ممسكا بالسيجارة نافثا الدخان من أنفي للفت انتباهها إليّ، ثم وقعت في غرام الممثلة الهوليوودية الراحلة ناتالي وود، وكان لا بد من الانتقال إلى التبغ الفرجيني الفاخر، من روثمانز (وليس روثمان) ومالبرا (وليس مارلبورو).
ومهما كانت مزايا أبو نخلة المظهرية فقد كانت رائحته تنقض وضوء من يجالس من يدخنها، وما كان مقبولًا أن تراني ناتالي وود وأنا أدخن تبغا مشتقا من الفسيخ، وواكبت تلك القفزة الحضارية المتمثلة في تدخين السجائر الإفرنجي مشكلات اجتماعية واقتصادية، فقد كان تسول السجائر متفشيًا في السودان، ما إن تخرج علبة التبغ إلا امتدت الأيدي تجاملك في شفط الدخان، ومن ثم كان الواحد منا يضع في أحد جيبيه تبغا محترما (بنسون أو روثمانز) لاستعماله الشخصي، ويضع في الجيب الآخر تبغا محليا لزوم تقديمه للآخرين، والأنكى من ذلك أن النزعة الاشتراكية لدى المدخنين السودانيين تسببت في ابتداع ما يسمى التخميس وهو أن يتم تداول السيجارة الواحدة بين خمسة أشخاص، ولحسن الحظ لم تكن البشرية وقتها قد اخترعت الأمراض المعدية.
وغدا بإذن الله نواصل موال التدخين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك