زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
لأرامكو في عنقي دين
سبق لي الكتابة عن تجربتي في العمل لدى شركة النفط العملاقة أرامكو مترجما، وسأكتب عنها أكثر من مرة إذا كان في العمر بقية، لأنني مدين لتلك الشركة مهنيا، ويكفي أن أقول إن وجود اسمها في سيرتي الذاتية فتح أمامي مغاليق عمل كثيرة في مواقع مختلفة، وكانت تجربة العمل في أرامكو التي خضتها في نهاية سبعينيات القرن الماضي صعبة في بداياتها، فلأول مرة وجدت نفسي أعمل وأكتب حتى تصاب أصابعي بالألم والله العظيم، كنت أحياناً أجلس وأترجم حتى تتيبس مفاصل أصابعي، فأطقطقها، وأقوم بعملية مساج لها حتى يسري الدم فيها، ولم يكن هناك وقتها كمبيوتر، فكنا نكتب بأقلام الرصاص، حتى يتسنى لنا محو المفردات والعبارات الخطأ بالممحاة المطاطية، ويحمل عامل ما نكتب إلى قسم الطباعة ثم يعود به لندققه ونراجعه ونصحح ما به من أخطاء، ويقوم من يتولى الطباعة بمسح الكلمة الخطأ بمادة بيضاء ثم يعيد الطباعة فوق الخط الأبيض، وبنهاية اليوم كنت أحس بأن كل ريال يدخل جيبي من الشركة حلال 100 بالمائة، فليس في الشركة مجال للاستهبال والبلطجة، وفي نفس الوقت فإنك تكافأ على حسن الأداء، وربما كانت أرامكو وقتها الجهة الوحيدة في العالم العربي التي كانت تطبق نظام العطلة الأسبوعية المؤلفة من يومين.
وأرامكو اليوم غير أرامكو التي عرفتها قبل عقود من الزمان، ولكن بمعنى أنها صارت أفضل حالاً، وأجزم بأنها الجهة الوحيدة في السعودية التي ظلت تتعامل مع سعودة الوظائف بمسؤولية وصدق، وياما التحق بها شبان يافعون قليلو الزاد من المهارات والعلم، فعلمتهم ودربتهم فصعدوا السلالم الوظيفية بعرق الجبين وليس لأنهم عيال فلان أو علان، فسياسة التوظيف فيها لا تسمح بالمجاملات، وتجد اليوم آلاف السعوديين في مراقي الشركة العليا، وقد يحسدهم كثيرون على الامتيازات التي يتمتعون بها ولكنهم نالوها عن جدارة واستحقاق؛ فمعظم كبار المديرين فيها، بمن فيهم من شغل أعلى المناصب فيها، بدأوا من أول السلم، وكان لهم حظهم من التقريع ولفت النظر والثناء والترقية والحرمان من العلاوة والحافز التشجيعي، ولهذا تجد في أرامكو ولاء عجيباً لها في صفوف موظفيها القدماء بعد أن صارت الشركة «قبيلتهم» التي يتفاخرون بالانتماء إليها.
وبحكم العيش طويلا في الخليج أعرف كيف تتحايل جهات كثيرة في أمر توطين العمالة، فتقوم بعمليات توظيف دفترية لأهل البلد، بمعنى أنها عندما تكون مطالبة بتوطين نسبة معينة من وظائفها فإنها تعمد الى الاستهبال فتعين جيشا من المواطنين في وظائف هامشية، بحيث تؤكد دفاترها وجود النسبة المطلوبة من العمالة المحلية، بينما أرامكو تأتي بشباب بلا خبرة وتلحقهم بمعاهدها وتؤهلهم لشغل وظائف محددة بحسب قدراتهم وتطورهم المهني والأكاديمي.
ومشكلة معظم من يتحدثون عن أرامكو هي أنهم يحسبونها شركة «وبس».. لا، لن أتكلم عن حجم نشاطها في مجال النفط والغاز.. أرامكو كيان ضخم، به خدمات بلدية (طرق وبساتين وحدائق ومواصلات ومرافق عامة ومكتبات) وصحية وبيئية وترفيهية وتعليمية وطبية وخيرية.. تعداد الخلق الذين تعنى أرامكو بشؤونهم يفوق تعداد سكان نحو عشر دول في العالم.. مدن أرامكو من أنظف مدن العالم ومدارسها من أفضل مدارس العالم، وبها خدمات طبية لا يحلم بها العديد من الدول الأوروبية، وعلى الموظف في أرامكو أن يقوم بالعمل الموكل إليه فقط و«لا يحمل هم» أي شيء آخر، فهناك الكهربائيون والسباكون ورجال الإسعاف والسائقون وغيرهم الذين لا شغل لهم سوى حل المشكلات التي تواجه الموظفين والعمال على مدار الساعة.. ولعل الكثيرين سيعجبون إذا قلت لهم إنني قرأت أمهات كتب الأدب والتراث العربي والإسلامي في مكتبة أرامكو بل وجدت فيها كتباً عن تاريخ السودان لم أجدها في أعرق جامعات السودان.. هناك قرأت جميع مجلدات الأغاني للأصفهاني والعقد الفريد لابن عبد ربه وبداية المجتهد ونهاية المقتصد ومقامات الحريري وديوان المتنبي.. وأعتقد أنه لو قامت كل دولة عربية بإيفاد طواقمها العليا من وزراء ومديرين إلى أرامكو في دورات تدريبية مدة سنة واحدة فستنتقل تلك الدول من العصر الحجري إلى بدايات القرن العشرين لتواصل مسيرتها من هناك على نحو مدروس وعلمي ومنهجي. أرفع عمامتي احتراماً لكل من أسهم في تشييد هذا الصرح الشامخ المشرّف الباسق. وهذه محاولة مني لرد الجميل إليها بالكلمة الطيبة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك