العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

رمضان في أجواء الأحزان

تعتصر‭ ‬الآلام‭ ‬قلوب‭ ‬سودانيي‭ ‬المهاجر‭ ‬والشتات،‭ ‬لأن‭ ‬وطنهم‭ ‬يتعرض‭ ‬للتمزيق،‭ ‬بسبب‭ ‬حرب‭ ‬عبثية،‭ ‬أشعلها‭ ‬من‭ ‬يريد‭ ‬الانفراد‭ ‬بسلطة‭ ‬الحكم،‭ ‬التي‭ ‬تتيح‭ ‬لمن‭ ‬يحوزها‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬يتيسر‭ ‬من‭ ‬ثروة،‭ ‬وكانت‭ ‬أطراف‭ ‬السودان‭ ‬وعلى‭ ‬مدى‭ ‬عقود‭ ‬مسارح‭ ‬لحروب‭ ‬بين‭ ‬الجيش‭ ‬وحركات‭ ‬متمردة‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬المركزية،‭ ‬بينما‭ ‬بدأت‭ ‬الحرب‭ ‬الأخيرة‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬عاصمة‭ ‬البلاد،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬الماضي،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬رمضان‭ ‬عام‭ ‬1445هـ‭ ‬على‭ ‬بعد‭ ‬بضعة‭ ‬أسابيع،‭ ‬بينما‭ ‬الحرب‭ ‬تزداد‭ ‬ضراوة‭ ‬وتمددا‭.‬

لرمضان‭ ‬السودان‭ ‬اريج‭ ‬وعطر‭ ‬ورائحة‭ ‬زكية‭ ‬تبشر‭ ‬بمقدمه‭ ‬قبل‭ ‬حلوله‭ ‬بعدة‭ ‬أيام،‭ ‬وذلك‭ ‬عندما‭ ‬يبدأ‭ ‬إعداد‭ ‬الـ«حلو‭ - ‬مر‮»‬،‭ ‬تلك‭ ‬الرقائق‭ ‬المعطرة‭ ‬بالبهار‭ ‬التي‭ ‬تعدها‭ ‬النساء‭ ‬ليتم‭ ‬نقعها‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬وتصفيتها‭ ‬وشرب‭ ‬منقوعها‭ ‬جميل‭ ‬الطعم،‭ ‬زكي‭ ‬النكهة،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬الإنسان‭ ‬مقاومة‭ ‬شرب‭ ‬‮«‬الحلو‭ - ‬مر‮»‬‭ ‬فيعب‭ ‬منه‭ ‬حتى‭ ‬تطقطق‭ ‬عضلات‭ ‬البطن،‭ ‬ثم‭ ‬تبدأ‭ ‬مكوناته‭ ‬في‭ ‬العبث‭ ‬بالجهاز‭ ‬الهضمي،‭ ‬فتتولد‭ ‬بداخله‭ ‬البراكين‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تفلح‭ ‬مضادات‭ ‬الحموضة‭ ‬في‭ ‬إخمادها‭ ‬وقد‭ ‬لا‭ ‬تفلح‭. ‬

في‭ ‬هذه‭ ‬السنة‭ ‬لن‭ ‬تستمتع‭ ‬خياشيمنا‭ ‬برائحة‭ ‬الحلو‭ ‬مر‭ ‬الطازج‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬أهلنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬يزودوننا‭ ‬بحصتنا‭ ‬منه،‭ ‬لأنهم‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬شتات،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬ما‭ ‬يشي‭ ‬بأنهم‭ ‬سيعرفون‭ ‬طعم‭ ‬العيد،‭ ‬وما‭ ‬يأتي‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬بديعة‭ ‬من‭ ‬المعجنات‭ ‬والبسكويت‭ ‬والكعك‭ ‬التي‭ ‬تذوب‭ ‬بمجرد‭ ‬ملامستها‭ ‬للسان،‭ ‬وهو‭ ‬المجال‭ ‬الذي‭ ‬تفوقت‭ ‬فيه‭ ‬زوجاتنا‭ ‬على‭ ‬أمهاتنا‭.‬

كانت‭ ‬أمي،‭ ‬عندما‭ ‬كنا‭ ‬نعيش‭ ‬في‭ ‬جزيرتنا‭ ‬النهرية،‭ ‬تحرص‭ ‬على‭ ‬إعداد‭ ‬نوعين‭ ‬من‭ ‬كعك‭ ‬العيد،‭ ‬أحدهما‭ ‬له‭ ‬شكل‭ ‬وملمس‭ ‬الخشب‭ ‬المضغوط‭: ‬تقضم‭ ‬منه‭ ‬قطعة‭ ‬فتنغرس‭ ‬شظاياه‭ ‬في‭ ‬اللثة‭ ‬ويختلط‭ ‬دمك،‭ ‬باللعاب‭ ‬وتنزل‭ ‬إلى‭ ‬بطنك‭ ‬تشكيلة‭ ‬من‭ ‬المواد‭ ‬العضوية‭ ‬بطعم‭ ‬ورائحة‭ ‬السماد،‭ ‬أما‭ ‬النوع‭ ‬الثاني‭ ‬فكان‭ ‬هشا‭ ‬ولذيذا‭ ‬ومغلفا‭ ‬بأطنان‭ ‬من‭ ‬السكر‭ ‬وتشم‭ ‬فيه‭ ‬رائحة‭ ‬السمن‭ ‬البلدي‭ ‬من‭ ‬مسافة‭ ‬يجوز‭ ‬فيها‭ ‬قصر‭ ‬الصلاة،‭ ‬ولأننا‭ ‬كنا‭ ‬نتمتع‭ ‬بقدر‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬‮«‬الدناوة‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نأكل‭ ‬منه‭ ‬كميات‭ ‬ضخمة‭ ‬ونقضي‭ ‬بقية‭ ‬أيام‭ ‬العيد‭ ‬في‭ ‬المراكز‭ ‬الصحية‭ ‬لمعالجة‭ ‬تلبك‭ ‬الأمعاء‭.‬

وكان‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬ثلاثة‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الحلوى‭: ‬ريا‭ ‬وسعد‭ ‬وكريكاب،‭ ‬وكان‭ ‬أحد‭ ‬هذه‭ ‬الأنواع‭ ‬الثلاثة‭ ‬مصنوعا‭ ‬من‭ ‬الكوارع،‭ ‬لأن‭ ‬مضغه‭ ‬كان‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬التصاق‭ ‬الفكين،‭ ‬ولو‭ ‬عندك‭ ‬حشوة‭ ‬في‭ ‬ضرس‭ ‬فإن‭ ‬تلك‭ ‬الحلوى‭ ‬كانت‭ ‬تنتزعها‭ ‬من‭ ‬لغاليغها،‭ ‬وكنا‭ ‬نقدم‭ ‬الحلوى‭ ‬سهلة‭ ‬المضغ‭ ‬للضيوف‭ ‬المحترمين،‭ ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الضيف‭ ‬ثرثارًا‭ ‬أو‭ ‬نهما‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬الذي‭ ‬يلتهم‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أمامه‭ ‬فإن‭ ‬حلوى‭ ‬الكوارع‭ ‬كانت‭ ‬كفيلة‭ ‬بإسكاته‭ ‬وسد‭ ‬نفسه،‭ ‬فيظل‭ ‬يحرك‭ ‬فكيه‭ ‬وكأنه‭ ‬يلوك‭ ‬الهواء،‭ ‬فيحلو‭ ‬لمن‭ ‬حوله‭ ‬السمر‭.‬

ثم‭ ‬دخلنا‭ ‬لاحقا‭ ‬عصر‭ ‬العيد‭ ‬الاستعراضي‭: ‬كل‭ ‬الكعك‭ ‬والمخبوزات‭ ‬‮«‬ماركة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬جاهزة‭ ‬الصنع‭ ‬بل‭ ‬ومستوردة،‭ ‬أما‭ ‬الحلوى‭ ‬فصارت‭ ‬اباتشي‭ ‬وغوتشي‭ ‬وشانيل‭ ‬وبشاميل،‭ ‬والملابس‭ ‬من‭ ‬غوتشي‭ ‬وسوشي‭ ‬ومانجو‭ ‬وتانغو‭ ‬وبانغو‭ ‬ونينتيندو،‭ ‬ولن‭ ‬أنسى‭ ‬عيد‭ ‬فطر‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬علي‭ ‬وأنا‭ ‬زائر‭ ‬للندن‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬بعيدة،‭ ‬حيث‭ ‬حسبت‭ ‬أنني‭ ‬أتيت‭ ‬بما‭ ‬لم‭ ‬يستطعه‭ ‬الأوائل،‭ ‬أي‭ ‬آبائي‭ ‬وأجدادي،‭ ‬عندما‭ ‬اشتريت‭ ‬حذاء‭ ‬من‭ ‬كلارك،‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬أوكسفورد،‭ ‬وعندما‭ ‬عدت‭ ‬الى‭ ‬الدوحة‭ ‬رأت‭ ‬بنتي‭ ‬الحذاء‭ ‬وقالت‭: ‬فضحتنا‭. ‬أوع‭ (‬إياك‭) ‬تلبس‭ ‬الجزمة‭ ‬دي‭ ‬قدام‭ ‬ضيوف،‭ ‬عندها‭ ‬تمنيت‭ ‬لو‭ ‬كنت‭ ‬محتفظا‭ ‬بعينة‭ ‬من‭ ‬الأحذية‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬أهلي‭ ‬يشترونها‭ ‬لي‭ ‬كل‭ ‬عيد‭ (‬صلاحية‭ ‬الحذاء‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تزيد‭ ‬على‭ ‬3‭ ‬أشهر‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬أحذية‭ ‬من‭ ‬القماش‭ ‬المقوى،‭ ‬وإذا‭ ‬خلعتها‭ ‬بعد‭ ‬استخدامها‭ ‬ليوم‭ ‬دراسي‭ ‬واحد،‭ ‬نقضت‭ ‬وضوء‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬بقربك،‭ ‬ولو‭ ‬رأى‭ ‬عيالنا‭ ‬ثياب‭ ‬الدمور‭ ‬المستوردة‭ ‬من‭ ‬نفايات‭ ‬مصانع‭ ‬النسيج‭ ‬الهندية،‭ ‬التي‭ ‬كنا‭ ‬نرتديها‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬والأعياد،‭ ‬لحسبونا‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬الزكاة‭.‬

وكان‭ ‬حلم‭ ‬حياتي‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬يوما‭ ‬ما‭ ‬مبلغا‭ ‬كافيا‭ ‬للانفراد‭ ‬بعلبة‭ ‬حلوى‭ ‬اللكوم‭ (‬راحة‭ ‬الحلقوم‭)‬،‭ ‬وزرت‭ ‬قبرص‭ ‬ذات‭ ‬عام‭ ‬قريب،‭ ‬واشتريت‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الحلوى‭ ‬نحو‭ ‬عشرة‭ ‬كيلوجرامات،‭ ‬وصرت‭ ‬التهم‭ ‬منها‭ ‬بضع‭ ‬قطع‭ ‬يوميا،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬عبارة‭ ‬على‭ ‬صندوق‭ ‬كل‭ ‬منها‭ ‬كانت‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬صلاحيتها‭ ‬انتهت‭ ‬منذ‭ ‬شهرين‭. ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يعنيني،‭ ‬لأن‭ ‬تقارير‭ ‬هيئة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬تفيد‭ ‬بأن‭ ‬صلاحيتي‭ ‬انتهت‭ ‬منذ‭ ‬عشر‭ ‬سنوات‭ ‬بحساب‭ ‬متوسط‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان‭ ‬السوداني‭. ‬يعني‭ ‬صاحبكم‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬ضربات‭ ‬الجزاء‭ ‬‮«‬المرجيحية‮»‬‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا