زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
رمضان في أجواء الأحزان
تعتصر الآلام قلوب سودانيي المهاجر والشتات، لأن وطنهم يتعرض للتمزيق، بسبب حرب عبثية، أشعلها من يريد الانفراد بسلطة الحكم، التي تتيح لمن يحوزها السيطرة على ما يتيسر من ثروة، وكانت أطراف السودان وعلى مدى عقود مسارح لحروب بين الجيش وحركات متمردة على السلطة المركزية، بينما بدأت الحرب الأخيرة في قلب عاصمة البلاد، وكان ذلك في أواخر شهر رمضان من العام الماضي، وها هو رمضان عام 1445هـ على بعد بضعة أسابيع، بينما الحرب تزداد ضراوة وتمددا.
لرمضان السودان اريج وعطر ورائحة زكية تبشر بمقدمه قبل حلوله بعدة أيام، وذلك عندما يبدأ إعداد الـ«حلو - مر»، تلك الرقائق المعطرة بالبهار التي تعدها النساء ليتم نقعها في الماء وتصفيتها وشرب منقوعها جميل الطعم، زكي النكهة، ولا يستطيع الإنسان مقاومة شرب «الحلو - مر» فيعب منه حتى تطقطق عضلات البطن، ثم تبدأ مكوناته في العبث بالجهاز الهضمي، فتتولد بداخله البراكين التي قد تفلح مضادات الحموضة في إخمادها وقد لا تفلح.
في هذه السنة لن تستمتع خياشيمنا برائحة الحلو مر الطازج الذي ظل أهلنا في السودان يزودوننا بحصتنا منه، لأنهم في حال شتات، وليس في الأفق ما يشي بأنهم سيعرفون طعم العيد، وما يأتي به من أنواع بديعة من المعجنات والبسكويت والكعك التي تذوب بمجرد ملامستها للسان، وهو المجال الذي تفوقت فيه زوجاتنا على أمهاتنا.
كانت أمي، عندما كنا نعيش في جزيرتنا النهرية، تحرص على إعداد نوعين من كعك العيد، أحدهما له شكل وملمس الخشب المضغوط: تقضم منه قطعة فتنغرس شظاياه في اللثة ويختلط دمك، باللعاب وتنزل إلى بطنك تشكيلة من المواد العضوية بطعم ورائحة السماد، أما النوع الثاني فكان هشا ولذيذا ومغلفا بأطنان من السكر وتشم فيه رائحة السمن البلدي من مسافة يجوز فيها قصر الصلاة، ولأننا كنا نتمتع بقدر كبير من «الدناوة» فقد كنا نأكل منه كميات ضخمة ونقضي بقية أيام العيد في المراكز الصحية لمعالجة تلبك الأمعاء.
وكان عندنا في السودان ثلاثة أنواع من الحلوى: ريا وسعد وكريكاب، وكان أحد هذه الأنواع الثلاثة مصنوعا من الكوارع، لأن مضغه كان يؤدي إلى التصاق الفكين، ولو عندك حشوة في ضرس فإن تلك الحلوى كانت تنتزعها من لغاليغها، وكنا نقدم الحلوى سهلة المضغ للضيوف المحترمين، أما إذا كان الضيف ثرثارًا أو نهما من النوع الذي يلتهم كل شيء أمامه فإن حلوى الكوارع كانت كفيلة بإسكاته وسد نفسه، فيظل يحرك فكيه وكأنه يلوك الهواء، فيحلو لمن حوله السمر.
ثم دخلنا لاحقا عصر العيد الاستعراضي: كل الكعك والمخبوزات «ماركة»، أي جاهزة الصنع بل ومستوردة، أما الحلوى فصارت اباتشي وغوتشي وشانيل وبشاميل، والملابس من غوتشي وسوشي ومانجو وتانغو وبانغو ونينتيندو، ولن أنسى عيد فطر الذي دخل علي وأنا زائر للندن قبل سنوات بعيدة، حيث حسبت أنني أتيت بما لم يستطعه الأوائل، أي آبائي وأجدادي، عندما اشتريت حذاء من كلارك، في شارع أوكسفورد، وعندما عدت الى الدوحة رأت بنتي الحذاء وقالت: فضحتنا. أوع (إياك) تلبس الجزمة دي قدام ضيوف، عندها تمنيت لو كنت محتفظا بعينة من الأحذية التي كان أهلي يشترونها لي كل عيد (صلاحية الحذاء لم تكن تزيد على 3 أشهر)، فقد كانت أحذية من القماش المقوى، وإذا خلعتها بعد استخدامها ليوم دراسي واحد، نقضت وضوء من يجلس بقربك، ولو رأى عيالنا ثياب الدمور المستوردة من نفايات مصانع النسيج الهندية، التي كنا نرتديها في المدارس والأعياد، لحسبونا من مستحقي الزكاة.
وكان حلم حياتي أن أجد يوما ما مبلغا كافيا للانفراد بعلبة حلوى اللكوم (راحة الحلقوم)، وزرت قبرص ذات عام قريب، واشتريت من تلك الحلوى نحو عشرة كيلوجرامات، وصرت التهم منها بضع قطع يوميا، رغم أن عبارة على صندوق كل منها كانت تفيد بأن صلاحيتها انتهت منذ شهرين. ولكن ذلك لم يكن يعنيني، لأن تقارير هيئة الصحة العالمية تفيد بأن صلاحيتي انتهت منذ عشر سنوات بحساب متوسط عمر الإنسان السوداني. يعني صاحبكم في مرحلة ضربات الجزاء «المرجيحية».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك