زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
نفي الملل أضاع صبري
تباهيت كثيرا بأنني ربما -أقول ربما- شطبت الملل من برنامج حياتي اليومية بأن وطّنت نفسي على عدم الجلوس محدقا في الفراغ، وبأن أحمل معي على الدوام كتابا او مجلة، وإذا لم يتيسر لي ذلك فواتساب فيه مواد تسلية ثم اكتشفت تيك-توك، ووجدت فيه جيوشا من أهل الغرب المناصرين لأهل غزة في محنتهم الحالية وصرت ضيفا عليهم، وعكوفي على نفي الملل من حياتي مردّه أنني أعاني قلة الصبر في المواقف التي تتطلب الانتظار الطويل، مثل مقابلة الطبيب وحلاقة شعر الرأس، وقد انفجرت زائدتي الدودية عدة مرات بسبب الأصدقاء والمعارف الذين يقترحون علي اللقاء في توقيت معين، ثم يعتقدون أنه «ما فيها شيء» أن يتأخروا 40 أو 90 دقيقة. وكم من مرة طلبت فيها شريحة لحم وعصير برتقال في مطعم وأجلس أكثر من نصف ساعة في انتظار أن يأتيني النادل (الندل) بشيء أشغل به فمي ووقتي، وفجأة أجد نفسي أصيح: لو طلبتم اللحم من هولندا، والبرتقال من كاليفورنيا بالبريد العادي، لوصل قبل ربع ساعة من الآن، وكثيرا ما أغادر المطعم وأتوقف عند بقالة لشراء بعض الزبادي ليكون وجبتي الأساسية. وحتى في المجمعات الاستهلاكية أطوف لنحو 40 دقيقة لشراء مختلف المواد وأملأ بها عربة اليد، وأتوجه الى صناديق الدفع فإذا وجدت طابورا طويلا، تركت العربة بما تحمل وأخرج.
وعند السفر جوّا، قد أدرك أنني مضطر إلى تغيير الطائرة مرة واحدة في مطار ما، بعد انتظار نحو 5 ساعات مثلا، في مثل هذه الحالة فإنني مستعد لتغيير مسار رحلتي بحيث أتوقف في مطارين أو ثلاثة لمدد قصيرة لتفادي الجلوس المملّ في ذلك المطار لخمس ساعات، وقد تكون المحصلة النهائية أنني أصل إلى وجهتي متأخرا أكثر مما لو سافرت على المسار الأول، ولكن ذلك لا يضايقني طالما أنني لن أكون مضطرا إلى الانتظار في نقطة واحدة مدة طويلة! أفعل نفس الشيء عندما أقود سيارتي، فلتفادي الازدحام في نقطة معنية في شارع معين لا يهمني أن أزيد المسافة التي عليّ اجتيازها بعشرة كيلومترات. بس المهم أن أكون «متحركا».
هي ليست قلة صبر تماما، بل فيها قدر من الإحساس بالملل عند الانتظار بلا شيء مفيد يشغل وقتي، والعجيب في الأمر أن الضيق بالانتظار عند جيل الشباب يضايقني لأنه مقرون عند بعضهم بقلّة الذوق. شخصيا أتضايق من الطوابير فأنسحب منها، ولكن الشبان قد يخرجون عن الطابور ليأخذوا مواقع متقدمة متخطّين من سبقوهم بوقت طويل، وإذا تضايقت من الزحمة في الشارع فإنني أحاول الخروج منه عبر أقرب منفذ جانبي أو فرعي ولا أفعل ما يفعله بعض الشبان بالسير بالسيارة في الحارات المخصصة لوقوف السيارات لتجاوز طابور المنتظرين في إشارة المرور أو الدوار.
وفي اعتقادي أن الإنسان يصير أكثر قلقا بشأن الوقت كلما تقدم في السن: كم بقي لي من الوقت في هذه الدنيا كي أضيع معظمه في طوابير؟ بعبارة أخرى يذكرك العقل الباطن بأن العمر مضى معظمه فتصبح أكثر ضيقا بأي هدر للوقت وخاصة في المواقف التي تتطلب الانتظار (المفتوح)، أي الانتظار الذي لا يعرف متى تأتي نهايته بالضبط (مثل عيادات الأسنان).
لا أحاول هنا أن أجد لنفسي العذر، فقد اعترفت بأن قلة الصبر -حتى فيما يتعلق بالحرص على عدم إهدار الوقت- نقيصة، ولكن قلة الصبر مقرونة مع قلة الذوق مرض اجتماعي ونفسي، فمن يتخطى الآخرين في الطوابير يعتدي على حقوقهم، ومن يعتلي الأرصفة بسيارته كي يتجاوز من يحترمون قواعد المرور، يخرج على القانون ويستخف بالآخرين، ودفاعا عن نفسي أقول إنني أعرف أن الموت لا يغفل الصغار ويصطاد فقط الكبار، ومن ثم فإنني لا أبرّر ضيقي بالانتظار في الطوابير بكوني أحس بأن العمر مضى معظمه، بل بأن التقدم في السن جعلني أكثر إحساسا بقيمة الوقت، ولكن لدرجة البلاهة أحياناً.. كأن أتفادى التوجه إلى العيادة الطبية رغم أن حالتي الصحية تستوجب ذلك، كي لا أنتظر دوري طويلا وأنا أطالع المجلات الركيكة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك