العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

نفي الملل أضاع صبري

تباهيت‭ ‬كثيرا‭ ‬بأنني‭ ‬ربما‭ -‬أقول‭ ‬ربما‭- ‬شطبت‭ ‬الملل‭ ‬من‭ ‬برنامج‭ ‬حياتي‭ ‬اليومية‭ ‬بأن‭ ‬وطّنت‭ ‬نفسي‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الجلوس‭ ‬محدقا‭ ‬في‭ ‬الفراغ،‭ ‬وبأن‭ ‬أحمل‭ ‬معي‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬كتابا‭ ‬او‭ ‬مجلة،‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يتيسر‭ ‬لي‭ ‬ذلك‭ ‬فواتساب‭ ‬فيه‭ ‬مواد‭ ‬تسلية‭ ‬ثم‭ ‬اكتشفت‭ ‬تيك‭-‬توك،‭ ‬ووجدت‭ ‬فيه‭ ‬جيوشا‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الغرب‭ ‬المناصرين‭ ‬لأهل‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬محنتهم‭ ‬الحالية‭ ‬وصرت‭ ‬ضيفا‭ ‬عليهم،‭ ‬وعكوفي‭ ‬على‭ ‬نفي‭ ‬الملل‭ ‬من‭ ‬حياتي‭ ‬مردّه‭ ‬أنني‭ ‬أعاني‭ ‬قلة‭ ‬الصبر‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬الانتظار‭ ‬الطويل،‭ ‬مثل‭ ‬مقابلة‭ ‬الطبيب‭ ‬وحلاقة‭ ‬شعر‭ ‬الرأس،‭ ‬وقد‭ ‬انفجرت‭ ‬زائدتي‭ ‬الدودية‭ ‬عدة‭ ‬مرات‭ ‬بسبب‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والمعارف‭ ‬الذين‭ ‬يقترحون‭ ‬علي‭ ‬اللقاء‭ ‬في‭ ‬توقيت‭ ‬معين،‭ ‬ثم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬ما‭ ‬فيها‭ ‬شيء‮»‬‭ ‬أن‭ ‬يتأخروا‭ ‬40‭ ‬أو‭ ‬90‭ ‬دقيقة‭. ‬وكم‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬طلبت‭ ‬فيها‭ ‬شريحة‭ ‬لحم‭ ‬وعصير‭ ‬برتقال‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬وأجلس‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬أن‭ ‬يأتيني‭ ‬النادل‭ (‬الندل‭) ‬بشيء‭ ‬أشغل‭ ‬به‭ ‬فمي‭ ‬ووقتي،‭ ‬وفجأة‭ ‬أجد‭ ‬نفسي‭ ‬أصيح‭: ‬لو‭ ‬طلبتم‭ ‬اللحم‭ ‬من‭ ‬هولندا،‭ ‬والبرتقال‭ ‬من‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬بالبريد‭ ‬العادي،‭ ‬لوصل‭ ‬قبل‭ ‬ربع‭ ‬ساعة‭ ‬من‭ ‬الآن،‭ ‬وكثيرا‭ ‬ما‭ ‬أغادر‭ ‬المطعم‭ ‬وأتوقف‭ ‬عند‭ ‬بقالة‭ ‬لشراء‭ ‬بعض‭ ‬الزبادي‭ ‬ليكون‭ ‬وجبتي‭ ‬الأساسية‭. ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬المجمعات‭ ‬الاستهلاكية‭ ‬أطوف‭ ‬لنحو‭ ‬40‭ ‬دقيقة‭ ‬لشراء‭ ‬مختلف‭ ‬المواد‭ ‬وأملأ‭ ‬بها‭ ‬عربة‭ ‬اليد،‭ ‬وأتوجه‭ ‬الى‭ ‬صناديق‭ ‬الدفع‭ ‬فإذا‭ ‬وجدت‭ ‬طابورا‭ ‬طويلا،‭ ‬تركت‭ ‬العربة‭ ‬بما‭ ‬تحمل‭ ‬وأخرج‭.‬

وعند‭ ‬السفر‭ ‬جوّا،‭ ‬قد‭ ‬أدرك‭ ‬أنني‭ ‬مضطر‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬الطائرة‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬ما،‭ ‬بعد‭ ‬انتظار‭ ‬نحو‭ ‬5‭ ‬ساعات‭ ‬مثلا،‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬فإنني‭ ‬مستعد‭ ‬لتغيير‭ ‬مسار‭ ‬رحلتي‭ ‬بحيث‭ ‬أتوقف‭ ‬في‭ ‬مطارين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬لمدد‭ ‬قصيرة‭ ‬لتفادي‭ ‬الجلوس‭ ‬المملّ‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المطار‭ ‬لخمس‭ ‬ساعات،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬المحصلة‭ ‬النهائية‭ ‬أنني‭ ‬أصل‭ ‬إلى‭ ‬وجهتي‭ ‬متأخرا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬لو‭ ‬سافرت‭ ‬على‭ ‬المسار‭ ‬الأول،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬لا‭ ‬يضايقني‭ ‬طالما‭ ‬أنني‭ ‬لن‭ ‬أكون‭ ‬مضطرا‭ ‬إلى‭ ‬الانتظار‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬واحدة‭ ‬مدة‭ ‬طويلة‭! ‬أفعل‭ ‬نفس‭ ‬الشيء‭ ‬عندما‭ ‬أقود‭ ‬سيارتي،‭ ‬فلتفادي‭ ‬الازدحام‭ ‬في‭ ‬نقطة‭ ‬معنية‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬معين‭ ‬لا‭ ‬يهمني‭ ‬أن‭ ‬أزيد‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬عليّ‭ ‬اجتيازها‭ ‬بعشرة‭ ‬كيلومترات‭. ‬بس‭ ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬‮«‬متحركا‮»‬‭.‬

هي‭ ‬ليست‭ ‬قلة‭ ‬صبر‭ ‬تماما،‭ ‬بل‭ ‬فيها‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬الإحساس‭ ‬بالملل‭ ‬عند‭ ‬الانتظار‭ ‬بلا‭ ‬شيء‭ ‬مفيد‭ ‬يشغل‭ ‬وقتي،‭ ‬والعجيب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬الضيق‭ ‬بالانتظار‭ ‬عند‭ ‬جيل‭ ‬الشباب‭ ‬يضايقني‭ ‬لأنه‭ ‬مقرون‭ ‬عند‭ ‬بعضهم‭ ‬بقلّة‭ ‬الذوق‭. ‬شخصيا‭ ‬أتضايق‭ ‬من‭ ‬الطوابير‭ ‬فأنسحب‭ ‬منها،‭ ‬ولكن‭ ‬الشبان‭ ‬قد‭ ‬يخرجون‭ ‬عن‭ ‬الطابور‭ ‬ليأخذوا‭ ‬مواقع‭ ‬متقدمة‭ ‬متخطّين‭ ‬من‭ ‬سبقوهم‭ ‬بوقت‭ ‬طويل،‭ ‬وإذا‭ ‬تضايقت‭ ‬من‭ ‬الزحمة‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬فإنني‭ ‬أحاول‭ ‬الخروج‭ ‬منه‭ ‬عبر‭ ‬أقرب‭ ‬منفذ‭ ‬جانبي‭ ‬أو‭ ‬فرعي‭ ‬ولا‭ ‬أفعل‭ ‬ما‭ ‬يفعله‭ ‬بعض‭ ‬الشبان‭ ‬بالسير‭ ‬بالسيارة‭ ‬في‭ ‬الحارات‭ ‬المخصصة‭ ‬لوقوف‭ ‬السيارات‭ ‬لتجاوز‭ ‬طابور‭ ‬المنتظرين‭ ‬في‭ ‬إشارة‭ ‬المرور‭ ‬أو‭ ‬الدوار‭.‬

وفي‭ ‬اعتقادي‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يصير‭ ‬أكثر‭ ‬قلقا‭ ‬بشأن‭ ‬الوقت‭ ‬كلما‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬السن‭: ‬كم‭ ‬بقي‭ ‬لي‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدنيا‭ ‬كي‭ ‬أضيع‭ ‬معظمه‭ ‬في‭ ‬طوابير؟‭ ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬يذكرك‭ ‬العقل‭ ‬الباطن‭ ‬بأن‭ ‬العمر‭ ‬مضى‭ ‬معظمه‭ ‬فتصبح‭ ‬أكثر‭ ‬ضيقا‭ ‬بأي‭ ‬هدر‭ ‬للوقت‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬التي‭ ‬تتطلب‭ ‬الانتظار‭ (‬المفتوح‭)‬،‭ ‬أي‭ ‬الانتظار‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬متى‭ ‬تأتي‭ ‬نهايته‭ ‬بالضبط‭ (‬مثل‭ ‬عيادات‭ ‬الأسنان‭).‬

لا‭ ‬أحاول‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬أجد‭ ‬لنفسي‭ ‬العذر،‭ ‬فقد‭ ‬اعترفت‭ ‬بأن‭ ‬قلة‭ ‬الصبر‭ -‬حتى‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالحرص‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬إهدار‭ ‬الوقت‭- ‬نقيصة،‭ ‬ولكن‭ ‬قلة‭ ‬الصبر‭ ‬مقرونة‭ ‬مع‭ ‬قلة‭ ‬الذوق‭ ‬مرض‭ ‬اجتماعي‭ ‬ونفسي،‭ ‬فمن‭ ‬يتخطى‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬الطوابير‭ ‬يعتدي‭ ‬على‭ ‬حقوقهم،‭ ‬ومن‭ ‬يعتلي‭ ‬الأرصفة‭ ‬بسيارته‭ ‬كي‭ ‬يتجاوز‭ ‬من‭ ‬يحترمون‭ ‬قواعد‭ ‬المرور،‭ ‬يخرج‭ ‬على‭ ‬القانون‭ ‬ويستخف‭ ‬بالآخرين،‭ ‬ودفاعا‭ ‬عن‭ ‬نفسي‭ ‬أقول‭ ‬إنني‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬الموت‭ ‬لا‭ ‬يغفل‭ ‬الصغار‭ ‬ويصطاد‭ ‬فقط‭ ‬الكبار،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أبرّر‭ ‬ضيقي‭ ‬بالانتظار‭ ‬في‭ ‬الطوابير‭ ‬بكوني‭ ‬أحس‭ ‬بأن‭ ‬العمر‭ ‬مضى‭ ‬معظمه،‭ ‬بل‭ ‬بأن‭ ‬التقدم‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬جعلني‭ ‬أكثر‭ ‬إحساسا‭ ‬بقيمة‭ ‬الوقت،‭ ‬ولكن‭ ‬لدرجة‭ ‬البلاهة‭ ‬أحياناً‭.. ‬كأن‭ ‬أتفادى‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬الطبية‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬حالتي‭ ‬الصحية‭ ‬تستوجب‭ ‬ذلك،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬أنتظر‭ ‬دوري‭ ‬طويلا‭ ‬وأنا‭ ‬أطالع‭ ‬المجلات‭ ‬الركيكة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا