مقال رئيس التحرير
أنـــور عبدالرحمــــــن
عـــــام الآلام والأحــــــــــزان
قبل يومين، سألني مدير التحرير: متى ستكتب الرسالة السنوية التي توجهها بمناسبة أعياد الميلاد، وخصوصا أن العام الحالي لم يكن عاما عاديا.. كان عاما استثنائيا في حياتنا وتاريخنا. قلت له: حقيقة الأمر أن أي كلمات نستخدمها هذا العام في حديثنا أو في كتاباتنا هي بالضرورة أبعد ما تكون عن كلمات تعبر عن الفرح أو السعادة.. هي بالضرورة تعبر عن الحزن والأسى.
عشنا عاما صعبا من الأحزان والآلام والمآسي.. عشنا عاما اختلطت فيه دموعنا بخوفنا، وعشنا فيه رعب الموت والدمار الذي تابعناه يوما بيوم وساعة بساعة.
هذا العام كان عاما دمويا وحشيا بشكل غير مسبوق على الإطلاق.. كان عاما للقتل الهمجي الأعمى.. قتل بلا أي سبب أو مبرر يمكن أن يقبله أي ضمير أو عقل بشري.
ومن أفظع ما شهدناه خلال العام أن الدول التي يطلقون عليها «القوى العالمية العظمى» انحدرت إلى الحضيض، ووجدنا أنها قوى بلا أخلاق وبلا ضمير وبلا ذرة من الوعي أو الحس الإنساني. هذه القوى رضخت تماما، بل أيدت بكل قواها القتل الجماعي وشاركت فيه، وأصبحت تطالب عمليا بمزيد من القتل والتدمير.
من هم ضحايا كل هذا القتل الجماعي والتدمير الشامل؟ إنهم الفلسطينيون.
الفلسطينيون لا يمتلكون جيشا.. لا يمتلكون دبابات أو طائرات حربية مقاتلة. كانوا يمتلكون بيوتا، ومدارس، وجامعات، ومستشفيات. كل هذا تم تدميره وتحويله إلى أنقاض.. كل هذا دمره عدو همجي لا يعرف أي معنى لأي قيمة إنسانية، ولا يعرف أي حرمة لحياة بشر، ولا يقيم أي اعتبار لأي قانون يحمي حقوق الإنسان.
كل هذه الفظائع والجرائم يتم ارتكابها في أرض شهدت ميلاد السيد المسيح.. المسيح عليه السلام الذي أرسله الله إلينا كي نتعلم من معاناته وآلامه، وأن نسترشد بتعاليمه ووصاياه التي تتلخص في أن نتحلى بالرحمة والمحبة، وبأن تكون مهمتنا الأولى هي العمل من أجل أن يعم السلام في الأرض، وبأن نكرس طاقاتنا وجهودنا من أجل الازدهار، ومن أجل تحرير الإنسان من الحرمان، ومن الألم والمعاناة.
لقد كانت رسالة السيد المسيح واضحة.. رسالة العدل والإنصاف، وأن نعامل أطفال العالم جميعا على قدم المساواة دون أي تفرقة على أساس اللون، أو العقيدة، أو الدين.
بدلا من هذا، فإن الأرض التي من المفروض أن تكون مقدسة ومباركة شهدت القتل الجماعي الأعمى لآلاف الأطفال، والأمهات، والآباء، والجدود. الأرض التي من المفروض أن تكون مقدسة تغطيها اليوم دماء الأبرياء.
كل إنسان في عالمنا اليوم يتحلى ولو بحد أدنى من الإنسانية والضمير الحي يتساءل في فزع: كيف يمكن للبشرية أن تقبل كل هذه الفظائع والجرائم التي تُرتكَب أمام أعيننا ونتابع أخبارها على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، ونقرأ عنها في صحفنا ومجلاتنا؟.. كيف يمكن للبشرية أن تقبل كارثة معاناة مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء وحرمانهم من الماء، والغذاء، والكهرباء، والمأوى، والدواء؟
رغم كل هذه الفظائع والجرائم بحق الشعب الفلسطيني في غزة، فإن القوى الكبرى في الغرب مازالت تصر على رفض وقف إطلاق النار.
كيف يمكن أن نفسر هذا الموقف اللا إنساني الوحشي مما يجري؟.. هل الذين يحكمون العالم ويتحكمون في مقاديره قد فقدوا عقولهم وأصبحوا مجانين؟.. يبدو الأمر هكذا بالفعل.
على امتداد أكثر من سبعة عقود يخوض الشعب الفلسطيني نضالا لا يتوقف، ويكاد يستجدي العالم كي يساعده على نيل حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة. كل ما حصل عليه الفلسطينيون هو التجاهل التام والاحتقار لمطالبهم المشروعة. العالم كله لم يظهر أي رغبة في التوصل إلى حل عادل للصراع، وفضّل أن يترك العدو الصهيوني مُطلق السراح يفعل ما يشاء دون حساب أو عقاب.
المرء حين يتأمل مواقف وتصرفات الدول الغربية على امتداد العقود الماضية، ومما يجري اليوم في غزة من فظائع وجرائم ترتكب، لا يملك إلا أن يفهم أن هذه الدول تعتقد أن الفلسطينيين لا يستحقون أي شيء.. لا يستحقون أي شيء في الحياة، ولا حتى الحياة نفسها، وهي الحقوق التي تعتبر من المسلمات بالنسبة إلى كل البشر. هذا موقف همجي بكل معنى الكلمة.
حقيقة الأمر أن الشعب الفلسطيني المكافح الحُر الأبي يستحق أكثر من أيٍّ منا الحياة الحرة الكريمة. شعب فلسطين يقدم نموذجا فريدا في الصمود والتضحية رغم كل الآلام والمعاناة. لنا أن نتأمل مثلا ما يحدث في غزة اليوم.. أطباء أكفاء وممرضون وممرضات وعمال وفنيون يصرون على الاستمرار في ممارسة عملهم وتأدية واجبهم في وطنهم في ظل هذه الأوضاع المأساوية الرهيبة، ورغم كل الأخطار التي يعيشون في ظلها ومواجهتهم خطر الموت في كل لحظة.
إننا في الصحافة الوطنية في البحرين لا بد أن نعبر عن كل الشكر والتقدير لكل قارئ من قرائنا سواء للصحافة المطبوعة أو المتابعين لنا على الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي. لا بد أن نشكر قراءنا في مختلف الدول العربية لما عبروا عنه من مواقف قوية تدعم قضية الشعب الفلسطيني وتدين ما يتعرض له من جرائم حرب وإبادة، على الرغم من أن حكوماتهم لم تتحرك ولم تفعل أي شيء عملي ملموس لوقف هذه الحرب وهذه الجرائم.
لقد بدأت كتابة هذا المقال السنوي بمناسبة أعياد الميلاد منذ سبعة وعشرين عاما. هذا العام بقلب حزين مثقل بالهموم والأحزان اليوم وبخوف وقلق عما قد يحدث في الغد، لا أملك إلا أن أدعو الله سبحانه وتعالى أن يخفف من همومنا وما نكابده من ألم وحزن، وأن ينهي سبحانه هذه المذابح وجرائم الإبادة لأهلنا التي نتابعها يوميا.
إن أرواح الشهداء الذين رحلوا عن دنيانا لا يمكن أن تعوّض، ويجب أن يبقوا في ذاكرتنا إلى الأبد. هؤلاء الشهداء لم يجدوا عدلا ولا إنصافا ولا رحمة على الأرض.
لا أملك إلا أن أدعو الله أن يرحمنا مما نواجهه ونعايشه، وأن يلهم البشرية ويرشدها إلى طريق الحق والسلام.
لا أملك إلا أن أدعو الكل في هذه المناسبة إلى أن يعتصموا بالحب والتعاطف مع كل البشر.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك