زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
في تمجيد الضحك والابتسام (1)
قلت كثيرا إن بعض القراء يعتبرونه ضربا من الثناء وصفي بالكاتب الفكاهي أو الكوميدي، وأعذرهم لأنهم لا يعرفون أن المفردتين لا تصلحان كوصف نقدي لما يسمى بالكتابة الساخرة، وعلى كل حال هم يقولون ذلك بحسن نية وربما يحسبون أن السخرية كلها مما نسميه مسخرة وهي شيء مذموم، ولكنني أقرّ وأعترف بأنني بطبعي شخص ضحوك، وأختزن في ذاكرتي الكثير من المواقف والأقوال التي تحمل على الابتسام والضحك، ومنها ما حدث عندما كنت مدرسا في «الخرطوم بحري الثانوية»، وكان من عادتي أن أقف أمام حجرة الدراسة نحو ثلاث دقائق بعد رنين جرس بداية الحصة، حتى يتسنى لجميع الطلاب دخول الحجرة قبلي، مما كان يعني ضمنا أنني لم أكن أسمح بدخول طالب إلى حجرة الدراسة بعد دخولي فيها، وفي الحصة الثالثة من ذات يوم جاء طالب بعد بداية الحصة بعشرين دقيقة ونقر الباب طالبا الإذن بالدخول، فقلت له إنني لن أسمح له بالدخول لأنه تأخر عشرين دقيقة، فإذا به يصيح: أنا في الحقيقة متأخر 3 ساعات. فقلت له: في الحالة دي ارجع بيتكم، فقال منفعلا: طلعت من بيتنا 5 صباحا وأبوي وصلني بالحمار لغاية خط الشاحنات، ومن لوري للوري (شاحنة) ومن باص لباص، ومن موقف الباصات إلى المدرسة مشيا. تقول لي «ارجع! أنت ما نصيح؟» (عبارة سودانية تعني «هل أنت مجنون»؟).
ما أن شكك ذلك الطالب في قواي العقلية، حتى تفجرت الأوضاع بانفجاري ضاحكا وسقط الكتاب والطباشير من يدي، ثم انتقلت العدوى إلى الطلاب، فتفجرت الضحكات، وخرج المدرسون من بقية الفصول وعلى وجوه بعضهم الاستياء، بسبب «الإزعاج» وتحول الاستياء إلى دهشة، عندما انتبهوا إلى أنني الجالس في مركز الفوضى، ومايسترو الضحك الهستيري
لم يكن مألوفا أن يتفوه طالب بأي كلمة مسيئة أمام المدرسين، ولهذا كان طالب ما محقا عندما هتف «والليلة»، وهي كلمة تعني في السودان أن هناك عواقب وخيمة لفعل أو قول ما (مثلا يقول طالب لأخيه إنه رسب في أربع مواد، فيكون تعقيب الأخ: والليلة.. الله يستر عليك مع أبوي)، وضحكت عندما تساءل الطالب عن مدى سلامة قواي العقلية، لأنني أدركت أنني مارست درجة من الغطرسة الإدارية -دون قصد- عندما رفضت السماح له بدخول غرفة الدراسة غير مدرك لحجم معاناته كي يصل إلى المدرسة، ولأن عبارة «أنت ما نصيح؟» خرجت من فمه بعفوية أهلنا الطيبين.
لاحقا سألني زميل في المدرسة، ونحن مجموعة من المدرسين نجلس تحت شجر ظليل في فناء المدرسة، عن سبب قهقهتي المُعدية، فسردت عليه ما حصل فقال: صحيح مجنون، وانفجر الجميع ضاحكين، فخرج علينا مدير المدرسة، وعندما سمع تفاصيل الحكاية ضحك قليلا، واستدعى ذلك الطالب ثم طلب من مجموعة المدرسين أن ينظروا إليه جيدا، ثم قال: ما في مدرس يعاقبه على التأخر في الوصول إلى المدرسة. تذكرت عقلية هذا التربوي واستعدت حكاية مدير مدرسة ابتدائية في نفس تلك المدينة (الخرطوم بحري) الذي - قبل حين من الدهر- قال تعقيبا على ضرب معلمة لتلميذ حتى كسرت بعض عظامه: أطفال الزمن دا عودهم طري!
استعدت تلك الواقعة لأنني أريد أن أكتب وأتكلم عن الضحك، بل الإعلاء من شأن الضحك، بل بأن يكون الضحك وصفة يومية نتلقاها في البيوت وأماكن العمل والدراسة وأينما يكون تجمع بشري، لأن هناك من يعتبرون الضحك، نوعا من الرخاوة عند الرجال والميوعة وقلة الحياء عند النساء، ونردد مقولة «الضحك بلا سبب قلة أدب»، وكأنها نص مقدس، بينما وفي حقيقة الأمر لا يستطيع كائن أن يضحك في غياب «سبب» مضحك، ما لم يكن منافقا (كالذي يضحك لكل سخافة تصدر عن «المدير»)، أو خائفا من شخص ما وتريد أن تمتص انفعاله وغضبه.
وبسبب نظرتنا السلبية للضحك صارت من العبارات الدارجة في ثقافتنا «ضحك على العقول»، و«فلان ضحك علينا» وهنا يعني الضحك الاستهبال والاستغفال، وليس انفجار الأصوات العفوي الذي يرتج له الجسم وترتاح له النفس.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك