العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٤٥ - الاثنين ٠٦ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٧ شوّال ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

في تمجيد الضحك والابتسام (1)

قلت‭ ‬كثيرا‭ ‬إن‭ ‬بعض‭ ‬القراء‭ ‬يعتبرونه‭ ‬ضربا‭ ‬من‭ ‬الثناء‭ ‬وصفي‭ ‬بالكاتب‭ ‬الفكاهي‭ ‬أو‭ ‬الكوميدي،‭ ‬وأعذرهم‭ ‬لأنهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬المفردتين‭ ‬لا‭ ‬تصلحان‭ ‬كوصف‭ ‬نقدي‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬بالكتابة‭ ‬الساخرة،‭ ‬وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬هم‭ ‬يقولون‭ ‬ذلك‭ ‬بحسن‭ ‬نية‭ ‬وربما‭ ‬يحسبون‭ ‬أن‭ ‬السخرية‭ ‬كلها‭ ‬مما‭ ‬نسميه‭ ‬مسخرة‭ ‬وهي‭ ‬شيء‭ ‬مذموم،‭ ‬ولكنني‭ ‬أقرّ‭ ‬وأعترف‭ ‬بأنني‭ ‬بطبعي‭ ‬شخص‭ ‬ضحوك،‭ ‬وأختزن‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المواقف‭ ‬والأقوال‭ ‬التي‭ ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬الابتسام‭ ‬والضحك،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬مدرسا‭ ‬في‭ ‬‮«‬الخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬الثانوية‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬عادتي‭ ‬أن‭ ‬أقف‭ ‬أمام‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬نحو‭ ‬ثلاث‭ ‬دقائق‭ ‬بعد‭ ‬رنين‭ ‬جرس‭ ‬بداية‭ ‬الحصة،‭ ‬حتى‭ ‬يتسنى‭ ‬لجميع‭ ‬الطلاب‭ ‬دخول‭ ‬الحجرة‭ ‬قبلي،‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬يعني‭ ‬ضمنا‭ ‬أنني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أسمح‭ ‬بدخول‭ ‬طالب‭ ‬إلى‭ ‬حجرة‭ ‬الدراسة‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬فيها،‭ ‬وفي‭ ‬الحصة‭ ‬الثالثة‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬جاء‭ ‬طالب‭ ‬بعد‭ ‬بداية‭ ‬الحصة‭ ‬بعشرين‭ ‬دقيقة‭ ‬ونقر‭ ‬الباب‭ ‬طالبا‭ ‬الإذن‭ ‬بالدخول،‭ ‬فقلت‭ ‬له‭ ‬إنني‭ ‬لن‭ ‬أسمح‭ ‬له‭ ‬بالدخول‭ ‬لأنه‭ ‬تأخر‭ ‬عشرين‭ ‬دقيقة،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬يصيح‭: ‬أنا‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬متأخر‭ ‬3‭ ‬ساعات‭. ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬في‭ ‬الحالة‭ ‬دي‭ ‬ارجع‭ ‬بيتكم،‭ ‬فقال‭ ‬منفعلا‭: ‬طلعت‭ ‬من‭ ‬بيتنا‭ ‬5‭ ‬صباحا‭ ‬وأبوي‭ ‬وصلني‭ ‬بالحمار‭ ‬لغاية‭ ‬خط‭ ‬الشاحنات،‭ ‬ومن‭ ‬لوري‭ ‬للوري‭ (‬شاحنة‭) ‬ومن‭ ‬باص‭ ‬لباص،‭ ‬ومن‭ ‬موقف‭ ‬الباصات‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬مشيا‭. ‬تقول‭ ‬لي‭ ‬‮«‬ارجع‭! ‬أنت‭ ‬ما‭ ‬نصيح؟‮»‬‭ (‬عبارة‭ ‬سودانية‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬هل‭ ‬أنت‭ ‬مجنون»؟‭).‬

ما‭ ‬أن‭ ‬شكك‭ ‬ذلك‭ ‬الطالب‭ ‬في‭ ‬قواي‭ ‬العقلية،‭ ‬حتى‭ ‬تفجرت‭ ‬الأوضاع‭ ‬بانفجاري‭ ‬ضاحكا‭ ‬وسقط‭ ‬الكتاب‭ ‬والطباشير‭ ‬من‭ ‬يدي،‭ ‬ثم‭ ‬انتقلت‭ ‬العدوى‭ ‬إلى‭ ‬الطلاب،‭ ‬فتفجرت‭ ‬الضحكات،‭ ‬وخرج‭ ‬المدرسون‭ ‬من‭ ‬بقية‭ ‬الفصول‭ ‬وعلى‭ ‬وجوه‭ ‬بعضهم‭ ‬الاستياء،‭ ‬بسبب‭ ‬‮«‬الإزعاج‮»‬‭ ‬وتحول‭ ‬الاستياء‭ ‬إلى‭ ‬دهشة،‭ ‬عندما‭ ‬انتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬أنني‭ ‬الجالس‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬الفوضى،‭ ‬ومايسترو‭ ‬الضحك‭ ‬الهستيري

لم‭ ‬يكن‭ ‬مألوفا‭ ‬أن‭ ‬يتفوه‭ ‬طالب‭ ‬بأي‭ ‬كلمة‭ ‬مسيئة‭ ‬أمام‭ ‬المدرسين،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬طالب‭ ‬ما‭ ‬محقا‭ ‬عندما‭ ‬هتف‭ ‬‮«‬والليلة‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬كلمة‭ ‬تعني‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬لفعل‭ ‬أو‭ ‬قول‭ ‬ما‭ (‬مثلا‭ ‬يقول‭ ‬طالب‭ ‬لأخيه‭ ‬إنه‭ ‬رسب‭ ‬في‭ ‬أربع‭ ‬مواد،‭ ‬فيكون‭ ‬تعقيب‭ ‬الأخ‭: ‬والليلة‭.. ‬الله‭ ‬يستر‭ ‬عليك‭ ‬مع‭ ‬أبوي‭)‬،‭ ‬وضحكت‭ ‬عندما‭ ‬تساءل‭ ‬الطالب‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬سلامة‭ ‬قواي‭ ‬العقلية،‭ ‬لأنني‭ ‬أدركت‭ ‬أنني‭ ‬مارست‭ ‬درجة‭ ‬من‭ ‬الغطرسة‭ ‬الإدارية‭ -‬دون‭ ‬قصد‭- ‬عندما‭ ‬رفضت‭ ‬السماح‭ ‬له‭ ‬بدخول‭ ‬غرفة‭ ‬الدراسة‭ ‬غير‭ ‬مدرك‭ ‬لحجم‭ ‬معاناته‭ ‬كي‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة،‭ ‬ولأن‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬أنت‭ ‬ما‭ ‬نصيح؟‮»‬‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬فمه‭ ‬بعفوية‭ ‬أهلنا‭ ‬الطيبين‭.‬

لاحقا‭ ‬سألني‭ ‬زميل‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬ونحن‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬المدرسين‭ ‬نجلس‭ ‬تحت‭ ‬شجر‭ ‬ظليل‭ ‬في‭ ‬فناء‭ ‬المدرسة،‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬قهقهتي‭ ‬المُعدية،‭ ‬فسردت‭ ‬عليه‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬فقال‭: ‬صحيح‭ ‬مجنون،‭ ‬وانفجر‭ ‬الجميع‭ ‬ضاحكين،‭ ‬فخرج‭ ‬علينا‭ ‬مدير‭ ‬المدرسة،‭ ‬وعندما‭ ‬سمع‭ ‬تفاصيل‭ ‬الحكاية‭ ‬ضحك‭ ‬قليلا،‭ ‬واستدعى‭ ‬ذلك‭ ‬الطالب‭ ‬ثم‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬مجموعة‭ ‬المدرسين‭ ‬أن‭ ‬ينظروا‭ ‬إليه‭ ‬جيدا،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭: ‬ما‭ ‬في‭ ‬مدرس‭ ‬يعاقبه‭ ‬على‭ ‬التأخر‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭. ‬تذكرت‭ ‬عقلية‭ ‬هذا‭ ‬التربوي‭ ‬واستعدت‭ ‬حكاية‭ ‬مدير‭ ‬مدرسة‭ ‬ابتدائية‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬تلك‭ ‬المدينة‭ (‬الخرطوم‭ ‬بحري‭) ‬الذي‭ - ‬قبل‭ ‬حين‭ ‬من‭ ‬الدهر‭- ‬قال‭ ‬تعقيبا‭ ‬على‭ ‬ضرب‭ ‬معلمة‭ ‬لتلميذ‭ ‬حتى‭ ‬كسرت‭ ‬بعض‭ ‬عظامه‭: ‬أطفال‭ ‬الزمن‭ ‬دا‭ ‬عودهم‭ ‬طري‭!‬

استعدت‭ ‬تلك‭ ‬الواقعة‭ ‬لأنني‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬وأتكلم‭ ‬عن‭ ‬الضحك،‭ ‬بل‭ ‬الإعلاء‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬الضحك،‭ ‬بل‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬الضحك‭ ‬وصفة‭ ‬يومية‭ ‬نتلقاها‭ ‬في‭ ‬البيوت‭ ‬وأماكن‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة‭ ‬وأينما‭ ‬يكون‭ ‬تجمع‭ ‬بشري،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يعتبرون‭ ‬الضحك،‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الرخاوة‭ ‬عند‭ ‬الرجال‭ ‬والميوعة‭ ‬وقلة‭ ‬الحياء‭ ‬عند‭ ‬النساء،‭ ‬ونردد‭ ‬مقولة‭ ‬‮«‬الضحك‭ ‬بلا‭ ‬سبب‭ ‬قلة‭ ‬أدب‮»‬،‭ ‬وكأنها‭ ‬نص‭ ‬مقدس،‭ ‬بينما‭ ‬وفي‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬كائن‭ ‬أن‭ ‬يضحك‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬‮«‬سبب‮»‬‭ ‬مضحك،‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬منافقا‭ (‬كالذي‭ ‬يضحك‭ ‬لكل‭ ‬سخافة‭ ‬تصدر‭ ‬عن‭ ‬‮«‬المدير‮»‬‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬خائفا‭ ‬من‭ ‬شخص‭ ‬ما‭ ‬وتريد‭ ‬أن‭ ‬تمتص‭ ‬انفعاله‭ ‬وغضبه‭.‬

وبسبب‭ ‬نظرتنا‭ ‬السلبية‭ ‬للضحك‭ ‬صارت‭ ‬من‭ ‬العبارات‭ ‬الدارجة‭ ‬في‭ ‬ثقافتنا‭ ‬‮«‬ضحك‭ ‬على‭ ‬العقول‮»‬،‭ ‬و«فلان‭ ‬ضحك‭ ‬علينا‮»‬‭ ‬وهنا‭ ‬يعني‭ ‬الضحك‭ ‬الاستهبال‭ ‬والاستغفال،‭ ‬وليس‭ ‬انفجار‭ ‬الأصوات‭ ‬العفوي‭ ‬الذي‭ ‬يرتج‭ ‬له‭ ‬الجسم‭ ‬وترتاح‭ ‬له‭ ‬النفس‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا