العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٨ - الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١١ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لا للعلاج بالريموت كونترول

أعذروني‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬مقالي‭ ‬ليوم‭ ‬أمس‭ ‬يتعلق‭ ‬بحكايتين‭ ‬عن‭ ‬الفشل‭ ‬الكلوي‭ ‬وزراعة‭ ‬الكلى،‭ ‬وأحدثكم‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬أمر‭ ‬صحي‭ (‬ولا‭ ‬أقول‭ ‬طبي‭)‬،‭ ‬وأبدأ‭ ‬بحكاية‭ ‬أم‭ ‬الجعافر‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬‮»‬زوجتي‭ ‬وحلم‭ ‬حياتي‭/ ‬بين‭ ‬ماض‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬وآت‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الاعتذار‭ ‬للشاعر‭ ‬جورج‭ ‬جرداق‭ ‬والمطربة‭ ‬ام‭ ‬كلثوم،‭ ‬فقد‭ ‬ظلت‭ ‬تعاني‭ ‬لسنوات‭ ‬آلاماً‭ ‬مبرحة‭ ‬في‭ ‬الظهر‭ ‬والكتف،‭ ‬بسبب‭ ‬اختلال‭ ‬خلقي‭ ‬في‭ ‬ترتيب‭ ‬فقرات‭ ‬الظهر‭ ‬العلوية‭ ‬والعنق،‭ (‬سكوليوزز‭ ‬بلغة‭ ‬الفرنجة‭) ‬وكان‭ ‬الله‭ ‬رحيما‭ ‬بها‭ ‬ولم‭ ‬تعان‭ ‬اي‭ ‬متاعب‭ ‬أو‭ ‬آلام‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬حياتها‭ ‬الأولى،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬عادة‭ ‬ممن‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الاختلال‭ ‬وسافرت‭ ‬بها‭ ‬شرقاً‭ ‬وغرباً،‭ ‬حتى‭ ‬صرت‭ ‬‮«‬مثقفاً‮»‬‭ ‬في‭ ‬شؤونها‭ ‬الصحية،‭ ‬ولأن‭ ‬المريض‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬حل‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬فم‭ ‬التمساح،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نسأل‭ ‬هنا‭ ‬وهناك‭ ‬عن‭ ‬اختصاصيين‭ ‬في‭ ‬أمور‭ ‬الأعصاب‭ ‬والعمود‭ ‬الفقري‭.‬

وذات‭ ‬مرة‭ ‬تلقت‭ ‬زوجتي‭ ‬معلومة‭ ‬بأن‭ ‬هناك‭ ‬طبيباً‭ ‬شاطراً‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬عربية‭ ‬ما،‭ ‬وألحت‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬مخاطبته‭ ‬هاتفياً‭ ‬لأخذ‭ ‬موعد‭ ‬معه،‭ ‬ولأنه‭ ‬لا‭ ‬صوت‭ ‬يعلو‭ ‬فوق‭ ‬صوت‭ ‬أم‭ ‬المعارك‭ ‬فقد‭ ‬اتصلت‭ ‬بالطبيب‭ ‬الجراح‭ ‬الذي‭ ‬سألني‭ ‬أسئلة‭ ‬عامة‭ ‬عن‭ ‬حالتها،‭ ‬وفور‭ ‬سماع‭ ‬أجوبتي‭ ‬شرع‭ ‬صاحبنا‭ ‬يحدثني‭ ‬عن‭ ‬تفاصيل‭ ‬الجراحة‭ ‬التي‭ ‬سيجريها‭ ‬للمدام‭ ‬بإعادة‭ ‬ترتيب‭ ‬الفقرات‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬في‭ ‬ظهرها،‭ ‬بحيث‭ ‬تستطيع‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الألعاب‭ ‬الأولمبية،‭ ‬و«أنا‭ ‬أحب‭ ‬السودانيين‭ ‬فلا‭ ‬تحملوا‭ ‬هم‭ ‬تكاليف‭ ‬العلاج،‭ ‬لأنني‭ ‬سأعالجها‭ ‬بسعر‭ ‬التكلفة‮»‬‭.‬

وأنهيت‭ ‬المكالمة‭ ‬معه‭ ‬بأسرع‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬لأنه‭ ‬سقط‭ ‬من‭ ‬عيني‭ ‬ونظري،‭ ‬فليس‭ ‬هناك‭ ‬طبيب‭ ‬يحترم‭ ‬نفسه‭ ‬وتقاليد‭ ‬مهنته‭ ‬يقبل‭ ‬بتشخيص‭ ‬حالة‭ ‬مريض‭ ‬عبر‭ ‬الهاتف،‭ ‬دعك‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬جراحاً‭ ‬ويحدد‭ ‬نوع‭ ‬وأسلوب‭ ‬الجراحة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يلقي‭ ‬نظرة‭ ‬على‭ ‬صور‭ ‬الأشعة‭ ‬والرنين‭ ‬المغناطيسي‭ ‬وتخطيط‭ ‬الأعصاب،‭ ‬بل‭ ‬إنني‭ ‬اعتقد‭ ‬أن‭ ‬قبول‭ ‬أطباء‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬برامج‭ ‬تلفزيونية‭ ‬تستقبل‭ ‬شكاوى‭ ‬المرض‭ ‬فيقومون‭ ‬هم‭ ‬بتشخيص‭ ‬كل‭ ‬حالة‭ ‬وتوصيف‭ ‬طريقة‭ ‬العلاج‭ ‬أو‭ ‬جرعات‭ ‬هذا‭ ‬الدواء‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭ ‬عملا‭ ‬لا‭ ‬أخلاقيا‭.‬

ومن‭ ‬عيوب‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالمسائل‭ ‬الطبية‭ ‬أن‭ ‬بعضنا‭ ‬ينصب‭ ‬نفسه‭ ‬مفتياً‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الأطباء‭: ‬الطبيب‭ ‬الفلاني‭ ‬شاطر‭ ‬وماهر‭.. ‬أما‭ ‬الطبيب‭ ‬الفلتكاني‭ ‬فبالتأكيد‭ ‬حمار‭ ‬وشهادته‭ ‬مزورة‭!  ‬لأنني‭ ‬ذهبت‭ ‬إليه‭ ‬وأنا‭ ‬أعاني‭ ‬من‭ ‬عدم‭ ‬توازن‭ ‬ودوخة‭ ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬العلة‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬‮«‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يكشف‭ ‬على‭ ‬مخي،‭ ‬وأنا‭ ‬عمري‭ ‬ما‭ ‬شكيت‭ ‬من‭ ‬ألم‭ ‬في‭ ‬الأذن‮»‬‭.  ‬ويصدق‭ ‬بعضنا‭ ‬تلك‭ ‬الأحكام‭ ‬الساذجة،‭ ‬وقد‭ ‬يقرر‭ ‬في‭ ‬ضوئها‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الخارج‭ ‬لأنه‭ ‬سمع‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬وجهته‭ ‬طبيباً‭ ‬بارعاً‭ ‬بدليل‭ ‬أنه‭ ‬عالج‭ ‬كنتوشة‭ ‬زوجة‭ ‬بطروخ‭ ‬التنبلاوي‭.‬

والمؤسف‭ ‬أن‭ ‬عواصم‭ ‬عربية‭ ‬بعينها‭ ‬صارت‭ ‬مشهورة‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬التفوق‮»‬‭ ‬الطبي،‭ ‬لا‭ ‬لسبب‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬الأطباء‭ ‬هناك‭ ‬خرجوا‭ ‬عن‭ ‬أصول‭ ‬المهنة‭ ‬وأخلاقياتها‭ ‬وصاروا‭ ‬يعلنون‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم‭ ‬وقدراتهم‭ ‬الخارقة‭ ‬بأساليب‭ ‬فجة‭ ‬تنطلي‭ ‬على‭ ‬البسطاء،‭ ‬وتلجأ‭ ‬إليهم‭ ‬شاكياً‭ ‬من‭ ‬علة‭ ‬في‭ ‬المعدة،‭ ‬فيقنعونك‭ ‬بأنك‭ ‬تعاني‭ ‬عللا‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬والعين‭ ‬والكبد‭ ‬والكلى‭ ‬والطحال‭ ‬والأذن‭ ‬الوسطى‭ ‬وقرنية‭ ‬العين،‭ ‬و‮«‬روح‭ ‬أعمل‭ ‬تحاليل‭ ‬في‭ ‬المختبر‭ ‬وبعدها‭ ‬أعمل‭ ‬صور‭ ‬بالموجات‭ ‬الصوتية‭ ‬والأشعة‭ ‬تحت‭ ‬البمبية‮»‬‭.‬

في‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الورش‭ ‬الطبية‭ ‬في‭ ‬عاصمة‭ ‬عربية‭ ‬خضعت‭ ‬سيدة‭ ‬لعملية‭ ‬جراحية،‭ ‬وبعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬العيادة‭ ‬ليزيل‭ ‬الجراح‭ ‬الغرز‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬الجراحة،‭ ‬واستلقت‭ ‬على‭ ‬ظهرها‭ ‬وبدأ‭ ‬الجراح‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬أداة‭ ‬يزيل‭ ‬بها‭ ‬الغرز‭ ‬ولكنه‭ ‬لم‭ ‬يعثر‭ ‬على‭ ‬شيء‭ ‬يصلح‭ ‬لتلك‭ ‬المهمة،‭ ‬فغادر‭ ‬الغرفة‭ ‬ثم‭ ‬عاد‭ ‬حاملاً‭ ‬سكين‭ ‬مطبخ‭ ‬عادية،‭ ‬ولاحظت‭ ‬ابنة‭ ‬المريضة‭ ‬أن‭ ‬السكين‭ ‬عليها‭ ‬بصمات‭ ‬ورائحة‭ ‬البصل‭ ‬واللحم‭ ‬والثوم،‭ ‬فاستنكرت‭ ‬استخدامها‭ ‬على‭ ‬جرح‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬‮«‬طرياً‮»‬،‭ ‬فنظر‭ ‬إليها‭ ‬الطبيب‭ ‬باحتقار،‭ ‬وقام‭ ‬بغمس‭ ‬السكين‭ ‬في‭ ‬قنينة‭ ‬ديتول،‭ ‬وواصل‭ ‬قطع‭ ‬الغرز‭ ‬والمسكينة‭ ‬تصرخ‭ ‬وتولول‭ ‬لأن‭ ‬السكين‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬حادة،‭ ‬فكان‭ ‬الجراح‭ ‬يسحب‭ ‬الخيط‭ ‬بشدة‭ ‬بيده‭ ‬كي‭ ‬ينقطع،‭  ‬ولعدة‭ ‬أيام‭ ‬بعدها‭ ‬عانت‭ ‬المريضة‭ ‬التهابات‭ ‬وتقيحات‭ ‬حادة‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬العملية،‭  ‬ورفعت‭ ‬الأمر‭ ‬إلى‭ ‬نقابة‭ ‬الأطباء‭ (‬هذه‭ ‬الحكاية‭ ‬منشورة‭ ‬في‭ ‬صحف‭ ‬البلد‭ ‬الذي‭ ‬ينتمي‭ ‬إليه‭ ‬الجراح‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬اكتوبر‭ ‬المنصرم‭)‬،‭ ‬ويا‭ ‬أعزائي‭ ‬ضعوا‭ ‬ثقتكم‭ ‬في‭ ‬أطباء‭ ‬بلدانكم‭ ‬فهم‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬‮«‬قلبهم‭ ‬عليكم‮»‬‭ ‬ومنكم‭ ‬وفيكم‭ ‬ولا‭ ‬تلجأوا‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬طبيب‭ ‬ينشر‭ ‬إعلانات‭ ‬ودعايات‭ ‬عن‭ ‬كفاءته‭. ‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا