زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
من يراهن على الأمريكان خسران
مرة أخرى أُذكر من يقرأون لي، بأنني لا أخوض في الأمور السياسية في هذه الزاوية، لأنني كالخباز الذي لا يشتهي رغيف الخبز، وكالطاهي الذي لا يميل الى أكل ما يطهو، أي إن عملي الرسمي يتطلب متابعة الشؤون السياسية في كل بقاع الأرض على ما فيها من نكد وغم، ومن ثم فقد ظل عمودي هذا نشازا، وكنت أغرد خارج السرب، بينما كل ذو ضمير حي من حملة القلم ظل منفعلا بحرب إسرائيل الغاشمة على غزة، رغم أنني أعتبر دم أهل غزة دمي، وهمّهم همي، ولا أعتبر عملية طوفان الأقصى «هجومية»، بل أتت في سياق الدفاع المشروع عن النفس، فقد ظلت غزة تئن تحت الحصار ويتعرض سكانها للبطش منذ عام 2005.
وتفاصيل العدوان الإسرائيلي الهمجي على أهل غزة مبذولة ومتاحة عبر كل الوسائط، وليس عندي جديد أضيفه إليها، وما أود أقوله اليوم هو إنني استهجن القول بأن الأمريكان يكيلون بمكيالين عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وضحاياها الفلسطينيين، لأنهم يدينون القتيل وينصرون القاتل، بينما حقيقة الأمر هي أن للأمريكان مكيالا واحدا، فهم على الدوام مع الباغي المعتدي العُتُل الزنيم، لأن «شن يوافق طبقة»، فالولايات المتحدة بشكلها الحالي هي النموذج الذي قامت عليه إسرائيل: يتدفق مئات الآلاف من الأوروبيين على أرض بها سكان أصليون، يشبعونهم قتلا وتهجيرا وتشريدا، ويستولون على أرضهم ويقيمون فيها مستوطنات تحولت لاحقا إلى مدن، ثم جيء بعبيد من إفريقيا ساموهم سوء العذاب، وطوال قرنين من الزمان ظل البيض الذين وفدوا من أوروبا إلى الأراضي التي صارت تعرف بـ«الأمريكية» يقاتلون بعضهم البعض بالحديد والنار للفوز بمناجم الذهب أو الأراضي الزراعية، بل إنه وفور إعلان استقلال الولايات المتحدة انفجرت حرب أهلية بين شمال وجنوب البلاد هلك فيها عشرات الآلاف.
وهكذا قامت الولايات المتحدة على جماجم من أسموهم بالهنود الحمر، ومن ثم فالعنف الدموي أمر أصيل في الوجدان والمزاج الأمريكي، وإذا كان سودان اليوم يعاني من وحشية مقاتلين دمويين ذوي بشرة سمراء يحملون اسم الجنجويد، ففي الأراضي الأمريكية جنجويد بيض يعود تاريخهم إلى أواخر القرن التاسع عشر، ورغم أن البيض هم من استورد السود بقوة المال والسلاح، ورغم أن النهضة الاقتصادية الأمريكية منذ مطالع القرن التاسع عشر كانت بعرق ودماء أولئك السود، إلا أن جزاء إحسانهم كان تعريضهم للإذلال وقتلهم بدم بارد، من أجل «المتعة» أحيانا.
الولايات المتحدة ذات مزاج دموي وما ولغت في قارة إلا أهلكت فيها الزرع والضرع وقضت على الحرث والنسل ودمرت الشجر والحجر والبشر، وإسرائيل هي وكيل أعمالها في الشرق الأوسط، ولهذا يبلغ السقوط الأخلاقي بالرئيس الأمريكي جو بايدن أن يقول إن حركة حماس هي التي قصفت المستشفى المعمداني في غزة مما أسفر عن مقتل أكثر من خمسمائة شخص، ثم يرتب لجسر جوي يأتي بالسلاح والعتاد لإسرائيل كي تواصل عمليات السحل والقتل بالجملة في غزة، ومن باب إبراء الذمة يناشد إسرائيل بكل أدب أن تسمح بإيصال مواد الإغاثة إلى سكان غزة.
كيف يرجو أحد خيرا من الولايات المتحدة، ومازالت شعوب فيتنام وكمبوديا ولاوس وأمريكا الجنوبية والوسطى والبلقان والعراق وغرينادا ونيكاراغوا وأفغانستان تعاني من الجراح التي سببتها لهم الولايات المتحدة، التي أغارت على أراضيهم وأهلكت الملايين ودمرت البيئة، وداست سنابك دباباتها على القانون الدولي، وما زالت الولايات المتحدة ترفض الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في جرائم الحروب و«إبادة البشر»، وكاد المريب أن يقول خذوني.
والشاهد: للولايات المتحدة مكيال واحد، تكيل به بسخاء لنفسها وصنائعها وربائبها، وتطفف الميزان عندما يخص الشعوب الأخرى، ومن ثم فمن يتغطى بالأمريكان عريان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك