العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

أعترف بالخطأ ولكنني ضحية (1)

كتبت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬اليومين‭ ‬الماضيين‭ ‬عن‭ ‬مزالق‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬الخطأ،‭ ‬فلأننا‭ ‬لا‭ ‬نتحكم‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يحدث‭ ‬لنا‭ ‬او‭ ‬من‭ ‬حولنا،‭ ‬فإننا‭ ‬مطالبون‭ ‬بالتحكم‭ ‬في‭ ‬ردود‭ ‬أفعالنا‭ ‬وعدم‭ ‬الانجرار‭ ‬في‭ ‬الانفعالات‭ ‬الغاضبة‭ ‬لأن‭ ‬محصلتها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬الندم‭ ‬والخسران،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فإنني‭ ‬أعترف‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬أخلاقي‮»‬‭ ‬صارت‭ ‬أكثر‭ ‬سوءاً‭ ‬خلال‭ ‬الـسنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬ليس‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬انحرفت‭ ‬وصرت‭ ‬سيئ‭ ‬السيرة‭ ‬والسلوك،‭ ‬وحدت‭ ‬عن‭ ‬جادة‭ ‬الطريق،‭ ‬ولكن‭ ‬بمعنى‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬أكثر‭ ‬عصبية‭ ‬وأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للانفعال‭ ‬والاشتعال‭ ‬والغضب،‭ ‬حتى‭ ‬عيالي‭ ‬صاروا‭ ‬يشتكون‭ ‬من‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬بركاناً‭ ‬نشطاً‭ ‬‮«‬على‭ ‬الهبشة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬أنفجر‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬بدون‭ ‬أسباب‭ ‬وجيهة،‭ ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬لي‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬أتحلى‭ ‬بطول‭ ‬البال‭ ‬وكظم‭ ‬الغيظ؟‭ ‬إذا‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬أحدكم‭ ‬عبارة‭ ‬سخيفة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عامل‭ ‬السن‭ ‬له‭ ‬دور‮»‬‭ ‬فيا‭ ‬ويله،‭ ‬فحتى‭ ‬لو‭ ‬افترضنا‭ ‬أنني‭ ‬تقدمت‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬فالمنطقي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬أكثر‭ ‬صبراً‭ ‬وحلماً‭ ‬وأقل‭ ‬قابلية‭ ‬للاستفزاز‭.‬

الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬صاروا‭ ‬عصبيين‭ ‬وشديدي‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق،‭ ‬فانتقلت‭ ‬العدوى‭ ‬إليّ،‭ ‬وأكثر‭ ‬الأمراض‭ ‬المعدية‭ ‬خطورة‭ ‬تلك‭ ‬ذات‭ ‬المنشأ‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬فمن‭ ‬ينشأ‭ -‬مثلا‭- ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬عدوانية‭ ‬يصير‭ ‬عدوانيا،‭ ‬فيزداد‭ ‬مجتمعه‭ ‬سوءا‭ ‬لأن‭ ‬عضوية‭ ‬نادي‭ ‬العدوانيين‭ ‬فيه‭ ‬تتضخم‭ ‬بانضمام‭ ‬أشخاص‭ ‬جدد‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬فترات‭ ‬متقاربة‭.‬

في‭ ‬زمننا‭ ‬هذا،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬الكبير‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬الصغار‭ ‬سيعاملونه‭ ‬باحترام،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الصغار‭ ‬يحسون‭ ‬أنهم‭ ‬ملزمون‭ ‬باحترام‭ ‬من‭ ‬يكبرونهم‭ ‬سنا،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬يلمسون‭ ‬في‭ ‬الكبار‭ ‬سلوكا‭ ‬وتصرفات‭ ‬تستحق‭ ‬الاحترام،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬الكبير‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬صنف‭ ‬‮«‬طول‭ ‬النخلة‭ ‬وعقل‭ ‬السخلة‮»‬،‭ ‬وفي‭ ‬الشارع‭ ‬يحسب‭ ‬كل‭ ‬سائق‭ ‬سيارة‭ ‬أن‭ ‬الحكومة‭ ‬رصفت‭ ‬الطريق‭ ‬خصيصاً‭ ‬من‭ ‬أجله،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬يعتقد‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عناصر‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬تتعمد‭ ‬مضايقته‭ ‬بنصب‭ ‬إشارات‭ ‬مرور‭ ‬مبرمجة‭ ‬خصيصاً‭ ‬لمضايقته‭ ‬والحد‭ ‬من‭ ‬انطلاقه‭ ‬بالسيارة،‭ ‬وفي‭ ‬المستشفيات‭ ‬يعتقد‭ ‬كل‭ ‬مريض‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬إلى‭ ‬مقابلة‭ ‬الطبيب‭ ‬‮«‬عندهم‭ ‬واسطة‮»‬،‭ ‬وإلا‭ ‬لكان‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يقابل‭ ‬الطبيب،‭ ‬والطبيب‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬مدى‭ ‬معاناتي‭ ‬من‭ ‬تساقط‭ ‬الشعر،‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ناتجاً‭ ‬من‭ ‬سرطان‭ ‬فروة‭ ‬الرأس،‭ ‬ويقضي‭ ‬وقتاً‭ ‬طويلاً‭ ‬مع‭ ‬أشخاص‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬بسيطة‭ ‬مثل‭ ‬السل‭ ‬الرئوي‭ ‬وتليف‭ ‬الكبد‭ ‬أو‭ ‬الفشل‭ ‬الكلوي،‭ ‬والصيدلي‭ ‬يوزع‭ ‬الأدوية‭ ‬على‭ ‬أناس‭ ‬هلافيت‭ ‬بينما‭ ‬أنا‭ ‬‮«‬بجلالة‭ ‬قدري‮»‬‭ ‬أقف‭ ‬منذ‭ ‬خمس‭ ‬دقائق‭ ‬في‭ ‬الطابور،‭ ‬ووقتي‭ ‬من‭ ‬ذهب،‭ ‬لأنني‭ ‬شخص‭ ‬‮«‬مُهمّ‮»‬‭.‬

صار‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬يعتبر‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يخلق‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬العباد،‭ ‬وأنه‭ ‬أولى‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬بالخدمات‭ ‬والامتيازات،‭ ‬وأن‭ ‬القوانين‭ ‬التي‭ ‬تضبط‭ ‬السلوكيات‭ ‬العامة‭ ‬تخصّ‭ ‬الآخرين‭ ‬الأوباش،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬حس‭ ‬اجتماعي‭ ‬أو‭ ‬مسؤولية‭ ‬اجتماعية‭. ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬المسجد‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يصيح‭ ‬في‭ ‬وجهك‭ ‬عندما‭ ‬تدوس‭ ‬طرف‭ ‬ثوبه‭ ‬غير‭ ‬عامد،‭ ‬وأنت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬تجلس‭ ‬أو‭ ‬تقف‭ ‬فيه‭: ‬عميان‭ ‬انت؟‭ ‬تخيل‭ ‬أنك‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬نعم‭ ‬عميان‭. ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الإجابة‭ ‬كفيلة‭ ‬بجعل‭ ‬الشخص‭ ‬الغاضب‭ ‬يتمنى‭ ‬لو‭ ‬تنفتح‭ ‬الأرض‭ ‬وتبتلعه،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬قمة‭ ‬الإنسانية‭ ‬والذوق‭ ‬أن‭ ‬يقول‭ ‬لك‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭: ‬الله‭ ‬يشفيك‭!‬

الشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الغضب‭ ‬صار‭ ‬وباءً،‭ ‬والشاهد‭ ‬أيضا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الوباء‭ ‬أصابني‭ ‬لسبب‭ ‬بديهي،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬سوء‭ ‬الخلق‭ ‬كما‭ ‬حسن‭ ‬الخلق‭ ‬‮«‬مُعْد‮»‬‭ ‬كما‭ ‬أسلفت،‭ ‬أي‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬انسان‭ ‬إلى‭ ‬آخر،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ -‬بصفة‭ ‬عامة‭- ‬يتحلون‭ ‬بالصبر‭ ‬والتحمل‭ ‬ومعاملة‭ ‬الآخرين‭ ‬بالكلمة‭ ‬الطيبة،‭ ‬فإنك‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬لنفسك‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬شاذاً‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬مجاراة‭ ‬الغالبية‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬السلوك‭. ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬ويسمع‭ ‬الصغار‭ ‬والكبار‭ ‬وهم‭ ‬يشتمون‭ ‬الآخرين‭ ‬بأوسخ‭ ‬الألفاظ‭ ‬فإنهم‭ -‬أي‭ ‬الصغار‭- ‬سينشؤون‭ ‬وهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يسيء‭ ‬الناس‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭.‬

وكما‭ ‬اعترفت‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬فإنني‭ ‬مصاب‭ ‬بعدوى‭ ‬النرفزة،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬ينرفزني‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬ضميري‭ ‬يؤنبني‭ ‬كلما‭ ‬انفعلت‭ ‬وثرت‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬شخص‭ ‬آخر،‭ ‬ولا‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬الاعتذار‭ ‬له،‭ ‬ثم‭ ‬يقابل‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬اعتذاري‭ ‬بالاستخفاف‭ ‬بل‭ ‬والرفض‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا