زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
أعترف بالخطأ ولكنني ضحية (1)
كتبت على مدى اليومين الماضيين عن مزالق ردود الأفعال الخطأ، فلأننا لا نتحكم في الكثير مما يحدث لنا او من حولنا، فإننا مطالبون بالتحكم في ردود أفعالنا وعدم الانجرار في الانفعالات الغاضبة لأن محصلتها قد تكون الندم والخسران، ومع هذا فإنني أعترف بأن «أخلاقي» صارت أكثر سوءاً خلال الـسنوات الأخيرة، ليس بمعنى أنني انحرفت وصرت سيئ السيرة والسلوك، وحدت عن جادة الطريق، ولكن بمعنى أنني صرت أكثر عصبية وأكثر قابلية للانفعال والاشتعال والغضب، حتى عيالي صاروا يشتكون من أنني صرت بركاناً نشطاً «على الهبشة» أي أنفجر في وجوههم بدون أسباب وجيهة، فما الذي جرى لي وقد كنت أتحلى بطول البال وكظم الغيظ؟ إذا قال لي أحدكم عبارة سخيفة مثل «عامل السن له دور» فيا ويله، فحتى لو افترضنا أنني تقدمت في السن إلى حد ما، فالمنطقي أن أكون أكثر صبراً وحلماً وأقل قابلية للاستفزاز.
الإجابة عن هذا السؤال في تقديري هي أن الجميع من حولي صاروا عصبيين وشديدي التوتر والقلق، فانتقلت العدوى إليّ، وأكثر الأمراض المعدية خطورة تلك ذات المنشأ الاجتماعي، فمن ينشأ -مثلا- في بيئة عدوانية يصير عدوانيا، فيزداد مجتمعه سوءا لأن عضوية نادي العدوانيين فيه تتضخم بانضمام أشخاص جدد إليه في فترات متقاربة.
في زمننا هذا، لم يعد الكبير يفترض أن الصغار سيعاملونه باحترام، ولم يعد الصغار يحسون أنهم ملزمون باحترام من يكبرونهم سنا، بل قد لا يلمسون في الكبار سلوكا وتصرفات تستحق الاحترام، أي أن الكبير قد يكون من صنف «طول النخلة وعقل السخلة»، وفي الشارع يحسب كل سائق سيارة أن الحكومة رصفت الطريق خصيصاً من أجله، ولكنه في نفس الوقت يعتقد أن هناك عناصر في الحكومة تتعمد مضايقته بنصب إشارات مرور مبرمجة خصيصاً لمضايقته والحد من انطلاقه بالسيارة، وفي المستشفيات يعتقد كل مريض أن من سبقوه إلى مقابلة الطبيب «عندهم واسطة»، وإلا لكان هو أول من يقابل الطبيب، والطبيب نفسه لا يعرف مدى معاناتي من تساقط الشعر، الذي قد يكون ناتجاً من سرطان فروة الرأس، ويقضي وقتاً طويلاً مع أشخاص يعانون من أمراض بسيطة مثل السل الرئوي وتليف الكبد أو الفشل الكلوي، والصيدلي يوزع الأدوية على أناس هلافيت بينما أنا «بجلالة قدري» أقف منذ خمس دقائق في الطابور، ووقتي من ذهب، لأنني شخص «مُهمّ».
صار كل واحد منا يعتبر أن الله لم يخلق مثله في العباد، وأنه أولى من غيره بالخدمات والامتيازات، وأن القوانين التي تضبط السلوكيات العامة تخصّ الآخرين الأوباش، ولم يعد هناك حس اجتماعي أو مسؤولية اجتماعية. حتى داخل المسجد تجد من يصيح في وجهك عندما تدوس طرف ثوبه غير عامد، وأنت تبحث عن مكان تجلس أو تقف فيه: عميان انت؟ تخيل أنك قلت له: نعم عميان. فيما مضى من الزمان، كانت مثل تلك الإجابة كفيلة بجعل الشخص الغاضب يتمنى لو تنفتح الأرض وتبتلعه، ولكن في أيامنا هذه قد تكون قمة الإنسانية والذوق أن يقول لك مثل ذلك الشخص: الله يشفيك!
الشاهد هو أن الغضب صار وباءً، والشاهد أيضا هو أن الوباء أصابني لسبب بديهي، وهو أن سوء الخلق كما حسن الخلق «مُعْد» كما أسلفت، أي ينتقل من انسان إلى آخر، فإذا كان أفراد المجتمع -بصفة عامة- يتحلون بالصبر والتحمل ومعاملة الآخرين بالكلمة الطيبة، فإنك لا ترضى لنفسك أن تكون شاذاً وتحرص على مجاراة الغالبية في حسن السلوك. أما عندما يرى ويسمع الصغار والكبار وهم يشتمون الآخرين بأوسخ الألفاظ فإنهم -أي الصغار- سينشؤون وهم يعتقدون أنه من الطبيعي أن يسيء الناس الأدب مع بعضهم البعض.
وكما اعترفت في صدر هذا المقال فإنني مصاب بعدوى النرفزة، ولكن ما ينرفزني أكثر هو أن ضميري يؤنبني كلما انفعلت وثرت في وجه شخص آخر، ولا أتردد في الاعتذار له، ثم يقابل ذلك الشخص اعتذاري بالاستخفاف بل والرفض.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك