العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

العدد : ١٦٩٢٧ - السبت ٢٧ يوليو ٢٠٢٤ م، الموافق ٢١ محرّم ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

هم مسلمون ولكن (1)

عاشوراء‭ ‬هو‭ ‬اليوم‭ ‬العاشر‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬مُحَرَّم‭ ‬في‭ ‬التقويم‭ ‬الهجري،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬الأيّام‭ ‬المستحبّ‭ ‬صيامها‭ ‬عند‭ ‬أكثر‭ ‬أهل‭ ‬العلم،‭ ‬وقد‭ ‬ورد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأحاديث‭ ‬التي‭ ‬تذكر‭ ‬فضل‭ ‬يوم‭ ‬عاشوراء‭ ‬وأجر‭ ‬صيامه‭. ‬وكان‭ ‬السّبب‭ ‬الرّئيس‭ ‬وراء‭ ‬تشريع‭ ‬صيام‭ ‬يوم‭ ‬عاشوراء‭ ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬الله‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬قد‭ ‬نجّى‭ ‬فيه‭ ‬سيّدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السّلام‭ ‬وقومه‭ ‬بني‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬بطش‭ ‬فرعون‭ ‬وملئه،‭ ‬فقد‭ ‬روى‭ ‬البخاري‭ ‬ومسلم‭ ‬عن‭ ‬ابن‭ ‬عباس‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ ‬قال‭: (‬قدم‭ ‬النّبي‭ - ‬صلّى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلّم‭ - ‬المدينة‭ ‬فرأى‭ ‬اليهود‭ ‬تصوم‭ ‬يوم‭ ‬عاشوراء،‭ ‬فقال‭: ‬ما‭ ‬هذا؟‭ ‬قالوا‭: ‬هذا‭ ‬يوم‭ ‬صالح،‭ ‬هذا‭ ‬يوم‭ ‬نجّى‭ ‬الله‭ ‬بني‭ ‬إسرائيل‭ ‬من‭ ‬عدوّهم،‭ ‬فصامه‭ ‬موسى،‭ ‬فقال‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلّى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلّم‭: ‬فأنا‭ ‬أحقّ‭ ‬بموسى‭ ‬منكم،‭ ‬فصامه‭ ‬وأمر‭ ‬بصيامه‭).‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬أمر‭ ‬يوم‭ ‬عاشوراء‭ ‬عند‭ ‬المسلمين،‭ ‬أما‭ ‬نحن‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬السودان‭ ‬النوبي‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬نحتفل‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬بالإكثار‭ ‬من‭ ‬الأكل‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬المساء‭ ‬دون‭ ‬ان‭ ‬يسبق‭ ‬ذلك‭ ‬صيام،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬تشجيع‭ ‬الصغار‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬أكبر‭ ‬كمية‭ ‬ممكنة‭ ‬من‭ ‬الطعام،‭ ‬‮«‬لأن‭ ‬من‭ ‬لا‭ ‬يشبع‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬عاشوراء‭ ‬لن‭ ‬يشبع‭ ‬أبداً‮»‬،‭ ‬ولم‭ ‬نكن‭ ‬ونحن‭ ‬صغار‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬مثل‭ ‬ذلك‭ ‬التشجيع،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬الطعام‭ ‬الجيد‭ ‬شحيحاً،‭ ‬وكنا‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬أيام‭ ‬وليالي‭ ‬السنة‭ ‬نشكو‭ ‬قلة‭ ‬الطعام‭ ‬فنسمع‭ ‬مثلاً‭ ‬سودانياً‭ ‬شائعاً‭: ‬تأكل‭ ‬زي‭ ‬السوسة‭ ‬والعافية‭ ‬مدسوسة‭. ‬أي‭ ‬أنك‭ ‬تأكل‭ ‬بلا‭ ‬توقف‭ ‬مثل‭ ‬السوس،‭ ‬ولكن‭ ‬هيكلك‭ ‬الهزيل‭ ‬لا‭ ‬يكشف‭ ‬أنك‭ ‬أكول‭ (‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لا‭ ‬أثر‭ ‬للعافية‭ ‬وكمال‭ ‬الصحة‭ ‬في‭ ‬جسمك‭).‬

الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬العائلات‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬طعامها‭ ‬وتجلس‭ ‬قرب‭ ‬شاطئ‭ ‬النيل،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬أي‭ ‬واحد‭ ‬لقمة‭ ‬في‭ ‬فمه‭ ‬تقوم‭ ‬الأم‭ ‬أو‭ ‬كبيرة‭ ‬العائلة‭ ‬بإلقاء‭ ‬بعض‭ ‬الطعام‭ ‬في‭ ‬النهر،‭ ‬وحتى‭ ‬عندما‭ ‬يتعذر‭ ‬ذهاب‭ ‬العائلة‭ ‬إلى‭ ‬شاطئ‭ ‬النيل‭ ‬كان‭ ‬الطقس‭ ‬الثابت‭ ‬هو‭ ‬رمي‭ ‬فتفوتة‭ ‬طعام‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬النيل‭ ‬قبل‭ ‬البدء‭ ‬في‭ ‬الأكل،‭ ‬ويتخلل‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬سباحة‭ ‬جماعية‭ ‬في‭ ‬النهر،‭ ‬وكانت‭ ‬هناك‭ ‬عادة‭ ‬إشعال‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬حبال‭ ‬غليظة‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬ربط‭ ‬أجزاء‭ ‬الساقية‭ (‬الناعورة‭) ‬ويتبارى‭ ‬الصغار‭ ‬والشباب‭ ‬في‭ ‬ضرب‭ ‬بعضهم‭ ‬البعض‭ ‬بتلك‭ ‬الحبال‭ ‬مشتعلة‭ ‬الأطراف‭ ‬وهم‭ ‬يصيحون‭ ‬‮«‬عاشورة‭ ‬فانن‭ ‬تود‭ ‬يوب‭ ‬يوب‮»‬‭.. ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬فإن‭ ‬عاشوراء‭ ‬كائن‭ ‬مذكر‭ (‬تود‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬تعني‭ ‬ولد‭) ‬وأمه‭ ‬اسمها‭ ‬‮«‬فإنه‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬فاطمة‭! ‬أما‭ ‬يوب‭ ‬يوب‭ ‬فهي‭ ‬مفردات‭ ‬عبثية‭ ‬لزوم‭ ‬الدوزنة‭ ‬أي‭ ‬ضبط‭ ‬النغم‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬عاشوراء‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نحتفي‭ ‬به‭ ‬كان‭ ‬طقساً‭ ‬وثنياً‭ ‬من‭ ‬التراث‭ ‬النوبي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يعتبر‭ ‬النيل‭ ‬ينبوع‭ ‬الخير‭ ‬والخصوبة،‭ ‬ولهذا‭ ‬كان‭ ‬أهلنا‭ ‬يقدمون‭ ‬له‭ ‬اللقمة‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬طعامهم‭ ‬‮«‬من‭ ‬باب‭ ‬العرفان‭ ‬بالجميل‮»‬،‭ ‬وحاول‭ ‬أزهريون‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬المنطقة‭ ‬التحدث‭ ‬للناس‭ ‬عن‭ ‬عاشوراء‭ ‬وفضل‭ ‬الصوم‭ ‬فيه،‭ ‬والتخلي‭ ‬عن‭ ‬تقديس‭ ‬النيل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬المباركة‭ ‬ولكن‭ ‬أهلنا‭ ‬اعتبروهم‭ ‬عيال‭ ‬مدارس‭ ‬‮«‬متفلسفين‮»‬‭.‬

ومن‭ ‬الطقوس‭ ‬السودانية‭ ‬في‭ ‬الليلة‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬رمضان‭ ‬تبخير‭ ‬البيوت،‭ ‬أي‭ ‬الطواف‭ ‬بالمبخرة‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أركان‭ ‬البيت،‭ ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬الشياطين‭ ‬ستنطلق‭ ‬بنهاية‭ ‬رمضان،‭ ‬والبخور‭ ‬الذي‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬تركيبة‭ ‬معينة‭ ‬‮«‬كفيل‭ ‬بمنعها‭ ‬من‭ ‬التسلل‭ ‬إلى‭ ‬البيوت‮»‬،‭ ‬وطبعاً‭ ‬هناك‭ ‬أشخاص‭ ‬يزعمون‭ ‬امتلاك‭ ‬قدرات‭ ‬خارقة‭ ‬يتولون‭ ‬تحديد‭ ‬عناصر‭ ‬البخور‭ ‬التي‭ ‬تمنع‭ ‬تسلل‭ ‬الشياطين‭ ‬إلى‭ ‬البيوت،‭ ‬وذات‭ ‬عام‭ ‬قلت‭ ‬لأمي‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬الشيطان‭ ‬الذي‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬شق‭ ‬الجدار،‭ ‬بل‭ ‬من‭ ‬ذاك‭ ‬الذي‭ ‬يتسلل‭ ‬إلى‭ ‬النفوس‭ ‬ويقيم‭ ‬داخلها،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الأولى‭ ‬بالبخور‭ ‬الذي‭ ‬يعطي‭ ‬حصانة‭ ‬ومناعة‭ ‬ضد‭ ‬الشيطان‭ ‬هم‭ ‬البشر،‭ ‬فما‭ ‬كان‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬اعتبرت‭ ‬كلامي‭ ‬هذا‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشيطان‭ ‬تسلل‭ ‬إلى‭ ‬قلبي،‭ ‬ولفتني‭ ‬ببطانية‭ ‬من‭ ‬مخلفات‭ ‬الجيش‭ ‬الإنجليزي‭ ‬الذي‭ ‬دخل‭ ‬السودان‭ ‬غازياً‭ ‬عام‭ ‬1899م‭ ‬ووضعت‭ ‬المبخر‭ ‬بين‭ ‬ساقي‭. ‬ومن‭ ‬فرط‭ ‬التعرق،‭ ‬فقدت‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬سوائل‭ ‬جسمي‭ ‬ولكنها‭ ‬اعتبرت‭ ‬ذلك‭ ‬دليلاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الشيطان‭ ‬خرج‭ ‬من‭ ‬جسمي‭ ‬فأعدت‭ ‬لنا‭ ‬رزاً‭ ‬باللبن،‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬الوجبات‭ ‬الفاخرة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬نتعاطاها‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬السحور‭ ‬في‭ ‬رمضان‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا