زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
هم مسلمون ولكن (1)
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر مُحَرَّم في التقويم الهجري، وهو من الأيّام المستحبّ صيامها عند أكثر أهل العلم، وقد ورد في ذلك الكثير من الأحاديث التي تذكر فضل يوم عاشوراء وأجر صيامه. وكان السّبب الرّئيس وراء تشريع صيام يوم عاشوراء هو أنّ الله سبحانه وتعالى قد نجّى فيه سيّدنا موسى عليه السّلام وقومه بني إسرائيل من بطش فرعون وملئه، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قدم النّبي - صلّى الله عليه وسلّم - المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجّى الله بني إسرائيل من عدوّهم، فصامه موسى، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فأنا أحقّ بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).
هذا ما كان من أمر يوم عاشوراء عند المسلمين، أما نحن في شمال السودان النوبي فقد كنا نحتفل في هذا اليوم بالإكثار من الأكل في أول المساء دون ان يسبق ذلك صيام، بل كان يتم تشجيع الصغار على تناول أكبر كمية ممكنة من الطعام، «لأن من لا يشبع في يوم عاشوراء لن يشبع أبداً»، ولم نكن ونحن صغار بحاجة إلى مثل ذلك التشجيع، فقد كان الطعام الجيد شحيحاً، وكنا في بقية أيام وليالي السنة نشكو قلة الطعام فنسمع مثلاً سودانياً شائعاً: تأكل زي السوسة والعافية مدسوسة. أي أنك تأكل بلا توقف مثل السوس، ولكن هيكلك الهزيل لا يكشف أنك أكول (ومن ثم لا أثر للعافية وكمال الصحة في جسمك).
الغريب في الأمر هو أن العائلات كانت تحمل طعامها وتجلس قرب شاطئ النيل، وقبل أن يضع أي واحد لقمة في فمه تقوم الأم أو كبيرة العائلة بإلقاء بعض الطعام في النهر، وحتى عندما يتعذر ذهاب العائلة إلى شاطئ النيل كان الطقس الثابت هو رمي فتفوتة طعام في اتجاه النيل قبل البدء في الأكل، ويتخلل كل ذلك سباحة جماعية في النهر، وكانت هناك عادة إشعال النار في حبال غليظة كانت تستخدم في ربط أجزاء الساقية (الناعورة) ويتبارى الصغار والشباب في ضرب بعضهم البعض بتلك الحبال مشتعلة الأطراف وهم يصيحون «عاشورة فانن تود يوب يوب».. وفي هذه الجملة فإن عاشوراء كائن مذكر (تود باللغة النوبية تعني ولد) وأمه اسمها «فإنه» التي هي فاطمة! أما يوب يوب فهي مفردات عبثية لزوم الدوزنة أي ضبط النغم.
والشاهد هو أن عاشوراء الذي كنا نحتفي به كان طقساً وثنياً من التراث النوبي الذي كان يعتبر النيل ينبوع الخير والخصوبة، ولهذا كان أهلنا يقدمون له اللقمة الأولى من طعامهم «من باب العرفان بالجميل»، وحاول أزهريون من أبناء المنطقة التحدث للناس عن عاشوراء وفضل الصوم فيه، والتخلي عن تقديس النيل في تلك الليلة المباركة ولكن أهلنا اعتبروهم عيال مدارس «متفلسفين».
ومن الطقوس السودانية في الليلة الأخيرة من رمضان تبخير البيوت، أي الطواف بالمبخرة في جميع أركان البيت، والسبب في ذلك هو أن الشياطين ستنطلق بنهاية رمضان، والبخور الذي يتألف من تركيبة معينة «كفيل بمنعها من التسلل إلى البيوت»، وطبعاً هناك أشخاص يزعمون امتلاك قدرات خارقة يتولون تحديد عناصر البخور التي تمنع تسلل الشياطين إلى البيوت، وذات عام قلت لأمي إنه لا خوف من الشيطان الذي يقيم في شق الجدار، بل من ذاك الذي يتسلل إلى النفوس ويقيم داخلها، وبالتالي فإن الأولى بالبخور الذي يعطي حصانة ومناعة ضد الشيطان هم البشر، فما كان منها إلا أن اعتبرت كلامي هذا دليلاً على أن الشيطان تسلل إلى قلبي، ولفتني ببطانية من مخلفات الجيش الإنجليزي الذي دخل السودان غازياً عام 1899م ووضعت المبخر بين ساقي. ومن فرط التعرق، فقدت الكثير من سوائل جسمي ولكنها اعتبرت ذلك دليلاً على أن الشيطان خرج من جسمي فأعدت لنا رزاً باللبن، وكان ذلك من الوجبات الفاخرة التي لا نتعاطاها إلا في السحور في رمضان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك