عالم يتغير
فوزية رشيد
اليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر وفيلم «جولدا»!
{ ونحن نحتفل هذه الأيام كأمة عربية باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر 1973 (مرور نصف قرن) فإننا ندرك جيدا قيمة ذلك الانتصار، الذي أثبت القدرة العربية في القتال، وعنصر المفاجأة، والسرّية والكتمان والتفوق ثم الانتصار! وكلها معاً كانت بمثابة «الزلزال» الذي تعرض له قادة الكيان الصهيوني وشعبه! وحيث باعترافهم سواء عبر التصريحات أثناء الحرب، أو المذكرات التي كتبوها، اعترفوا بأن (حالة التفوق العسكري للكيان قد انتهت إلى الأبد)! بل إن الجميع أصيب بالصدمة والانهيار النفسي العميق! حين تعرّض الكيان لخطر الدمار بصورة ملموسة في 6 أكتوبر، وما أعقبه من أيام! فنتائج المعارك والانعكاسات التي بدأت تظهر أكدت أهمية القدرة العربية في الانتصار، وهي القدرة التي أنهت الشعور بالتفوق لدى جيش الكيان الصهيوني (الذي لا يُقهر!) وأكدت تلك الحرب كفاءة المقاتل العربي وتصميمه وفاعلية السلاح الذي في يده، ما أفقد صهاينة الكيان ثقتهم في تفوقهم! كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل، وهذا أخطر شيء يمكن أن يواجهه أي شعب! ولولا (الجسر الجوي الأمريكي) الذي اعتبر الأضخم في التاريخ، لكانت نهاية الكيان الصهيوني واضحة! وكل هذا جاء في مذكراتهم بدءا من الجنرال «موشيه ديان» وزير الحرب «الإسرائيلي» و«جولدا مائير» رئيسة الوزراء آنذاك، و«أبا إيبان» وزير الخارجية في 1973، و«إسحاق رابين» رئيس الأركان، و«ديفيد بن جوريون» مؤسس الكيان الصهيوني، وغيرهم كثير من قادة الاستخبارات، بل وقادة الغرب ورؤسائه! ما يجعل من حرب أكتوبر ذكرى لا ينساها العدو الصهيوني وقبل العرب!
{ في فيلم «جولدا» الذي جاء متزامناً مع «اليوبيل الذهبي» لانتصار أكتوبر، طرح كل ما دار في تلك التصريحات السابقة، مرة بشكل واضح ومرة أخرى بشكل متوارٍ! لثقل ما مرّ به قادة الكيان الصهيوني أثناء تلك الحرب، و«مفاجأة الضربة الأولى» ونسف خط بارليف، وآلاف الأسرى الصهاينة، ودمار آلات الحرب العسكرية! وقد اعترفت «جولدا مائير» أثناء الحرب بأنها فكرت في الانتحار! وقالت في كتابها «قصة حياتي»: «إنه لا شيء أقسى على نفسي من كتابة ما حدث في أكتوبر، فلم يكن ذلك حدثا عسكرياً رهيباً فقط، وإنما مأساة عاشت وستعيش معي حتى الموت! فلقد وجدت نفسي فجأة أمام أعظم تهديد تعرضت لها «إسرائيل» منذ قيامها»! محاولتها للانتحار أو تفكيرها فيه، لم يتطرق إليه الفيلم!، ولكنه اتضح من شعورها وكل القادة معها بمرارة الهزيمة والخوف والذعر، وتراجع الثقة بالنفس، وتلك الدموع في عيون وقحة! حتى بدا (موشيه ديان) الذي كنا نراه في كوابيس الطفولة بتلك العُصبة المخيفة على عينه، كياناً مهزوزاً، وعانى من الانهيار النفسي وكان غير مصدّق لما حدث وهو يرتجف من هول المفاجأة!
{ «جولدا مائير» التي جسدت شخصيتها الممثلة البريطانية (هيلين ميرين) كانت تمر بأصعب فترات حياتها، رغم أنها حاملة لقب «المرأة الحديدية»، وكانت تشير إلى «موشيه ديان» الذي انعزل في غرفة وأغلق الباب على نفسه قائلة: (اتركوه فهو يمر بحالة غير طبيعية)! وما بين القوة والضعف وذرف الدموع وهي تستمع إلى صرخات جنودها في ميدان المعركة، وتستمع إلى نبرة الثقة لدى الجنود المصريين، وكانت تمر بحالة سقوط نفسي ما بين الصرخات، ولحظات خضوعها للعلاج الكيماوي من مرض «سرطان الغدد الليمفاوية»، وهي تسترجع صوت القتلى قبل أن يموتوا، والأسرى بالآلاف وهم يستنجدون لإنقاذهم! وما عرفته عن سقوط عشرات الطائرات الفانتوم والسكاي هوك وتدمير مئات الدبابات لجيشها!
{ الفيلم الذي بدأ بجلسة «التحقيق» بقيادة الرئيس «الإسرائيلي» آنذاك وانتهى بها في عام 1973، حول الإخفاقات الكبيرة لجولدا مائير، وبقية القادة معها، كان هذا الفيلم تجسيداً لمرارة الهزيمة، وحيث قدّم ما مر به القادة الصهاينة من انهيار نفسي ومعنوي، كما لم يسجله فيلم سابق! رغم أنه عالج أحداث أيام الحرب وحدها، ولم يتعرض لما قاله وكتبه أولئك القادة في مذكراتهم، وهي التي توضح بشكل أكثر بلاغة حجم الانهزام الداخلي، وما حققّه المقاتل العربي من صدمة كبرى لهم، حتى بدا استنجاد «جولدا» بالثعلب الأمريكي «كيسنجر» هو خيط الأمل الوحيد في إنقاذ كيانهم، وما قدمته من مطالب له تصل إلى لهجة الأمر! فإذا ما جاء إليها بعد ذلك مسرعا قال لها وهي تحاوره: «لا تنسي أنني وزير خارجية أمريكا أولاً وثانياً ثم إنني يهودي ثالثاً» فردّت عليه «جولدا مائير» بحسم ماكر: «لا تنسى أنت أيضاً أننا نقرأ من اليمين إلى اليسار»! أي أنك يهودي صهيوني أولاً وبعد ذلك أنت وزير خارجية أمريكا!
وهكذا كان مدّ الجسر الجوي الأضخم في التاريخ إلى «الكيان الصهيوني» ثم مفاوضات «الكيلو 101)، لتبدأ بعد ذلك بسنوات مفاوضات «كامب ديفيد» واتفاقياتها مع السادات، ليشهد تاريخ الصراع العربي/ الصهيوني مسارات وتحولات أخرى! ولكن لتبق حرب أكتوبر علامة فارقة في التاريخ العربي، وإثباتا لقدرة العرب وإمكانية تفوقهم وانتصارهم متى ما توحدّت إمكانياتهم وقدراتهم في الدفاع عن أنفسهم وأرضهم!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك