العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٥ - الجمعة ٢٢ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ألا لا يجهلن أحد علينا... (1)

واحدة‭ ‬من‭ ‬أقبح‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬قاموس‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬هي‭ ‬التفنيش‭ ‬من‭ ‬فنّش‭ ‬يفنِّش،‭ ‬التي‭ ‬تعني‭ ‬الفصل‭ ‬من‭ ‬الخدمة،‭ ‬وبحكم‭ ‬انني‭ ‬خليجي‭ ‬بالانتساب‭ ‬الزمني‭ (‬أي‭ ‬طول‭ ‬مدة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭)‬،‭ ‬فقد‭ ‬صرت‭ ‬مدركا‭ ‬أن‭ ‬التفنيش‭ ‬من‭ ‬الوظيفة‭ ‬كالموت‭ ‬يدركك‭ ‬فجأة،‭ ‬ولهذا‭ ‬ظللت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬أعوام‭ ‬طوال‭ ‬لا‭ ‬أتردد‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬بطلبي‭ ‬لأي‭ ‬وظيفة‭ ‬يتم‭ ‬إعلانها،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬لدي‭ ‬المؤهل‭ ‬والخبرة‭ ‬اللازمة‭ ‬للفوز‭ ‬بها،‭ ‬وحدث‭ ‬كثيراً‭ ‬أن‭ ‬ركبت‭ ‬الطائرات‭ ‬وجلست‭ ‬لاختبارات‭ ‬وأجريت‭ ‬معاينات‭ ‬وفزت‭ ‬بوظائف،‭ ‬ثم‭ ‬قلت‭ ‬لمن‭ ‬عرضوها‭ ‬علي‭: ‬شكر‭ ‬الله‭ ‬سعيكم‭. ‬حدث‭ ‬ذلك،‭ ‬إما‭ ‬لأنني‭ ‬كإنسان‭ ‬ألوف‭ ‬وأليف،‭ ‬ولست‭ ‬ميالاً‭ ‬لمغادرة‭ ‬بيئة‭ ‬العمل‭ ‬التي‭ ‬قضيت‭ ‬فيها‭ ‬مدة‭ ‬طويلة،‭ ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬العرض‭ ‬المادي‭ ‬أو‭ ‬شروط‭ ‬الوظيفة‭ (‬الجديدة‭) ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مغرية‭ ‬بدرجة‭ ‬كافية،‭ ‬والمهم‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬هو‭ ‬أنني‭ ‬مثل‭ ‬معظم‭ ‬بني‭ ‬يعرب‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أحس‭ ‬بالأمن‭ ‬الوظيفي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬سعيت‭ ‬لجعل‭ ‬خياراتي‭ ‬مفتوحة،‭ ‬بطرق‭ ‬كل‭ ‬باب‭ ‬أرى‭ ‬أن‭ ‬امكان‭ ‬انفتاحه‭ ‬أمامي‭ ‬وارد‭.‬

في‭ ‬تسعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬وبالتحديد‭ ‬في‭ ‬يوليو‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1994،‭ ‬أبلغتني‭ ‬هيئة‭ ‬الإذاعة‭ ‬البريطانية‭ (‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭) ‬أنني‭ ‬اجتزت‭ ‬الامتحان‭ ‬التحريري‭ ‬للعمل‭ ‬كصحفي‭ ‬في‭ ‬تلفزيون‭ ‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‭ ‬العربي،‭ ‬وطلبت‭ ‬مني‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬البحرين‭ ‬لمقابلة‭ ‬وفد‭ ‬من‭ ‬الهيئة‭ ‬لإجراء‭ ‬مقابلة‭ ‬شخصية‭ (‬إنترفيو‭)‬،‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬ثلاثة‭ ‬بريطانيون‭ ‬من‭ ‬الصنف‭ ‬الأصلي‭ ‬وواحد‭ ‬متفرنج‭ ‬عربي‭ ‬الأصل،‭ ‬ولأنني‭ ‬كنت‭ ‬سلفاً‭ ‬أشغل‭ ‬وظيفة‭ ‬مريحة‭ ‬نفسيا‭ ‬وماديا،‭ ‬فقد‭ ‬جلست‭ ‬معهم‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬منتهى‭ ‬الارتياح‭ ‬والانشكاح‭: ‬أداعب‭ ‬وأشاغب‭ ‬و«أهزر‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬أمضيت‭ ‬معظم‭ ‬الوقت‭ ‬وأنا‭ ‬أقوم‭ ‬بتوجيه‭ ‬الأسئلة‭ ‬إليهم،‭ ‬وبحكم‭ ‬خبرتي‭ ‬السابقة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬البريطانيين‭ (‬كان‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬درسوني‭ ‬مختلف‭ ‬المواد‭ ‬في‭ ‬المرحلتين‭ ‬الثانوية‭ ‬والجامعية‭ ‬من‭ ‬البريطانيين،‭ ‬ثم‭ ‬عملت‭ ‬مترجما‭ ‬وضابط‭ ‬إعلام‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬البريطانية‭ ‬في‭ ‬الخرطوم،‭ ‬ودرست‭ ‬فنون‭ ‬العمل‭ ‬التلفزيوني‭ ‬في‭ ‬لندن‭)‬،‭ ‬المهم‭ ‬أنه‭ ‬بحكم‭ ‬معرفتي‭ ‬بطبائع‭ ‬وأمزجة‭ ‬البريطانيين‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أنهم‭ ‬قوم‭ ‬مرحون‭ ‬بشوشون‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬كنت‭ ‬واثقاً‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬مشاغباتي‭ ‬معهم‭ ‬لن‭ ‬يساء‭ ‬فهمهما‭ ‬وتفسيرها‭.‬

ولكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬العربي‭ ‬تضايق‭ ‬من‭ ‬‮«‬رفعي‭ ‬التكليف‮»‬‭ ‬مع‭ ‬الخواجات،‭ ‬بحسبان‭ ‬أنني‭ ‬أتيتهم‭ ‬مستجدياً‭ ‬وظيفة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬ذليلاً‭ ‬منكسراً،‭ ‬وأحاول‭ ‬أن‭ ‬أعطي‭ ‬انطباعا‭ ‬بالصرامة‭ ‬المصحوبة‭ ‬بـ«الرجفة‮»‬‭ ‬فشرع‭ ‬يسألني‭ ‬أسئلة‭ ‬سخيفة‭: ‬لماذا‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تلتحق‭ ‬بالبي‭ ‬بي‭ ‬سي؟‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬المبادرة‭ ‬أتت‭ ‬من‭ ‬البي‭ ‬بي‭ ‬سي،‭ ‬فهي‭ ‬التي‭ ‬طلبت‭ ‬صحفيين‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬قالت‭ ‬إنني‭ ‬ناجح‭ ‬وهي‭ ‬التي‭ ‬طلبت‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬أحضر‭ ‬أمامكم‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬المنامة،‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬أفز‭ ‬بالوظيفة‭ ‬فالمسألة‭ ‬‮«‬مش‭ ‬فارقة‭ ‬معي‮»‬‭! ‬بادر‭ ‬أحد‭ ‬الخواجات‭ ‬لتلطيف‭ ‬الجو‭ ‬وقال‭: ‬إن‭ ‬إجابتي‭ ‬منطقية‭.. ‬وبدا‭ ‬لي‭ ‬واضحاً‭ ‬أن‭ ‬صاحبنا‭ ‬العربي‭ ‬يريد‭ ‬إحراجي‭ ‬بأي‭ ‬وسيلة‭ ‬بحيث‭ ‬‮«‬أهتز‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬عاداتي‭ ‬الحميدة‭ ‬أنني‭ ‬استمتع‭ ‬بمرمطة‭ ‬المغرورين‭ ‬والمتعنطزين‭ ‬‮«‬اللي‭ ‬شايفين‭ ‬حالهم‮»‬،‭ ‬وهكذا‭ ‬كلما‭ ‬تحدث‭ ‬معي‭ ‬العربي‭ ‬المتفرنج‭ ‬بإنجليزيته‭ ‬الركيكة‭ ‬صححت‭ ‬له‭ ‬خطأ‭ ‬في‭ ‬مفردة‭ ‬أو‭ ‬قاعدة‭ ‬نحوية‭ ‬إنجليزية‭ ‬بادئاً‭ ‬بعبارة‭: ‬يو‭ ‬مين‭.. (‬أنت‭ ‬تعني‭) ‬كذا‭ ‬وكذا‭. ‬واضطر‭ ‬صاحبنا‭ ‬إلى‭ ‬السكوت‭ ‬مؤقتاً‭ ‬ليعد‭ ‬العدة‭ ‬لهجمة‭ ‬جديدة‭ ‬تكون‭ ‬مباغتة‭ ‬وحاسمة،‭ ‬فهيأت‭ ‬نفسي‭ ‬لهجمة‭ ‬مرتدة‭ ‬أسجل‭ ‬بها‭ ‬هدفا‭ ‬حاسما‭ ‬في‭ ‬مرماه‭.‬

ودخل‭ ‬الخواجات‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬تفاصيل‭ ‬عرض‭ ‬العمل‭ ‬وكان‭ ‬ذلك‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أنهم‭ ‬رأوا‭ ‬أنني‭ ‬أهل‭ ‬للوظيفة،‭ ‬وبينما‭ ‬نحن‭ ‬‮«‬نفاصل‮»‬‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع،‭ ‬التفت‭ ‬نحوي‭ ‬‮«‬قريبي‮»‬‭ ‬العربي‭ ‬وسألني‭: ‬كم‭ ‬عمرك‭: ‬فكرت‭ ‬أن‭ ‬أقول‭ ‬له‭: ‬ما‭ ‬يخصك‭ ‬ومش‭ ‬شغلك،‭ ‬ولكنني‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬أقول‭ ‬رقماً‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬عمري‭ ‬الحقيقي‭ ‬بعشر‭ ‬سنوات،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬ذلك‭ ‬بنية‭ ‬الكذب‭ ‬ولكن‭ ‬بعقلية‭ ‬‮«‬ألا‭ ‬لا‭ ‬يجهلن‭ ‬أحد‭ ‬علينا‭/ ‬فنجهل‭ ‬فوق‭ ‬جهل‭ ‬الجاهلينا‮»‬‭ ‬ولأثبت‭ ‬لصاحبنا‭ ‬ذاك‭ ‬أنه‭ ‬أبله‭ ‬جاهل،‭ ‬وأن‭ ‬كذبتي‭ ‬ستنطلي‭ ‬عليه،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬عمري‭ ‬الحقيقي‭ ‬مكتوب‭ ‬في‭ ‬المستندات‭ ‬الموجودة‭ ‬أمامه‭ ‬هو‭ ‬وبقية‭ ‬أعضاء‭ ‬اللجنة،‭ ‬وإلا‭ ‬فمعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬عبقري‭ ‬وتخرجت‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وعمري‭ ‬14‭ ‬سنة‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا