زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
ألا لا يجهلن أحد علينا... (1)
واحدة من أقبح الكلمات في قاموس بيئة العمل في منطقة الخليج هي التفنيش من فنّش يفنِّش، التي تعني الفصل من الخدمة، وبحكم انني خليجي بالانتساب الزمني (أي طول مدة العيش في المنطقة)، فقد صرت مدركا أن التفنيش من الوظيفة كالموت يدركك فجأة، ولهذا ظللت على مدى أعوام طوال لا أتردد في التقدم بطلبي لأي وظيفة يتم إعلانها، وأرى أن لدي المؤهل والخبرة اللازمة للفوز بها، وحدث كثيراً أن ركبت الطائرات وجلست لاختبارات وأجريت معاينات وفزت بوظائف، ثم قلت لمن عرضوها علي: شكر الله سعيكم. حدث ذلك، إما لأنني كإنسان ألوف وأليف، ولست ميالاً لمغادرة بيئة العمل التي قضيت فيها مدة طويلة، أو لأن العرض المادي أو شروط الوظيفة (الجديدة) لم تكن مغرية بدرجة كافية، والمهم في الموضوع هو أنني مثل معظم بني يعرب لم أكن أحس بالأمن الوظيفي، ومن ثم سعيت لجعل خياراتي مفتوحة، بطرق كل باب أرى أن امكان انفتاحه أمامي وارد.
في تسعينيات القرن الماضي، وبالتحديد في يوليو من عام 1994، أبلغتني هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أنني اجتزت الامتحان التحريري للعمل كصحفي في تلفزيون بي بي سي العربي، وطلبت مني التوجه إلى البحرين لمقابلة وفد من الهيئة لإجراء مقابلة شخصية (إنترفيو)، كان هناك ثلاثة بريطانيون من الصنف الأصلي وواحد متفرنج عربي الأصل، ولأنني كنت سلفاً أشغل وظيفة مريحة نفسيا وماديا، فقد جلست معهم وأنا في منتهى الارتياح والانشكاح: أداعب وأشاغب و«أهزر»، بل أمضيت معظم الوقت وأنا أقوم بتوجيه الأسئلة إليهم، وبحكم خبرتي السابقة في التعامل مع البريطانيين (كان بعض من درسوني مختلف المواد في المرحلتين الثانوية والجامعية من البريطانيين، ثم عملت مترجما وضابط إعلام في السفارة البريطانية في الخرطوم، ودرست فنون العمل التلفزيوني في لندن)، المهم أنه بحكم معرفتي بطبائع وأمزجة البريطانيين فقد كنت أعرف أنهم قوم مرحون بشوشون ومن ثم كنت واثقاً من أن مشاغباتي معهم لن يساء فهمهما وتفسيرها.
ولكن يبدو أن صاحبنا العربي تضايق من «رفعي التكليف» مع الخواجات، بحسبان أنني أتيتهم مستجدياً وظيفة، ومن ثم ينبغي أن أكون ذليلاً منكسراً، وأحاول أن أعطي انطباعا بالصرامة المصحوبة بـ«الرجفة» فشرع يسألني أسئلة سخيفة: لماذا تريد أن تلتحق بالبي بي سي؟ قلت له: المبادرة أتت من البي بي سي، فهي التي طلبت صحفيين وهي التي قالت إنني ناجح وهي التي طلبت مني أن أحضر أمامكم هنا في المنامة، ولو لم أفز بالوظيفة فالمسألة «مش فارقة معي»! بادر أحد الخواجات لتلطيف الجو وقال: إن إجابتي منطقية.. وبدا لي واضحاً أن صاحبنا العربي يريد إحراجي بأي وسيلة بحيث «أهتز»، ومن عاداتي الحميدة أنني استمتع بمرمطة المغرورين والمتعنطزين «اللي شايفين حالهم»، وهكذا كلما تحدث معي العربي المتفرنج بإنجليزيته الركيكة صححت له خطأ في مفردة أو قاعدة نحوية إنجليزية بادئاً بعبارة: يو مين.. (أنت تعني) كذا وكذا. واضطر صاحبنا إلى السكوت مؤقتاً ليعد العدة لهجمة جديدة تكون مباغتة وحاسمة، فهيأت نفسي لهجمة مرتدة أسجل بها هدفا حاسما في مرماه.
ودخل الخواجات معي في تفاصيل عرض العمل وكان ذلك إشارة إلى أنهم رأوا أنني أهل للوظيفة، وبينما نحن «نفاصل» حول هذا الموضوع، التفت نحوي «قريبي» العربي وسألني: كم عمرك: فكرت أن أقول له: ما يخصك ومش شغلك، ولكنني وجدت نفسي أقول رقماً أقل من عمري الحقيقي بعشر سنوات، ولم يكن ذلك بنية الكذب ولكن بعقلية «ألا لا يجهلن أحد علينا/ فنجهل فوق جهل الجاهلينا» ولأثبت لصاحبنا ذاك أنه أبله جاهل، وأن كذبتي ستنطلي عليه، رغم أن عمري الحقيقي مكتوب في المستندات الموجودة أمامه هو وبقية أعضاء اللجنة، وإلا فمعنى ذلك أنني عبقري وتخرجت في الجامعة وعمري 14 سنة!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك